مئات الأشخاص يعيشون فوق منحدر صخري، تسترهم منازل حجرية مسقوفة بالخشب، يتعبدون في أديرة مستديرة التصميم أمام تماثيل طينية واسعة العينين يبلغ طولها ثلاثة أقدام، يدفنون موتاهم في أرضيات منازلهم بعد أن يفصلوا رؤوس الجثث ليزينوا الجماجم على طريقتهم. كان هذا ما اكتشفه العلماء في موقع «عين غزال» الأثري وسط الأردن، الذي يعود تاريخ سُكناه إلى 10 آلاف عام.
موقع عين غزال هو أثر لقرية من بين أول المجتمعات التي عرفت الزراعة في التاريخ، وتقدم كل تفاصيل ذلك الموقع لمحة عن أحد أهم التحولات في تاريخ البشرية، هي الفترة التي شهدت بداية تحول الإنسان إلى استئناس الحيوان والزراعة المنظمة، ممَّا فتح الباب أمام الأثريين للبحث عن هُوِية أول من عرفوا الزراعة، وكيف انتشروا في أنحاء الأرض ليصبحوا حجر أساس حضارتنا الحديثة، وعرضت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية تقريرًا يجيب عن تلك الأسئلة.
الفلاح وأصل الحضارة
تضم منطقة «الهلال الخصيب» أدلة قاطعة على تقدم الزراعة منذ نحو 11 ألف عام، منها محاصيل وثروات حيوانية وأدوات إعداد طعام.
يمكننا الحصول على إجابات لبعض تلك الأسئلة من الحمض النووي للهياكل العظمية التي اكتُشفت في عين غزال وغيره من المواقع في منطقة الشرق الأدنى، وهي الاكتشافات التي أسهمت في تغيير الأفكار القديمة عن أنشطة الزراعة واستئناس الحيوانات. وباستخدام الحمض النووي أيضًا، فوجئ الباحثون بأن مزارعين من أيرلندا والهند ترجع أصولهم إلى القرى الأثرية التي أقيمت في الشرق الأدنى منذ عشرات آلاف السنين.
بسبب الثورة الزراعية، تغير وجه كوكبنا وما عليه من أنواع حية، ويمكن تحديد بداية تلك الثورة ببدء الجماعات البشرية التي تعيش على الصيد في التحول إلى تربية الحيوانات وترك حياة البدو إلى حياة الاستقرار في قرى وتجمعات ثابتة، وساعدت الزراعة وتربية الحيوانات كذلك في إيجاد مصدر ثابت للغذاء، وأدى ذلك بدوره إلى تكون المدن والممالك التي امتدت على مئات الأميال.
عرف العالم القديم الزراعة في عدد قليل من المراكز، إلا أنه من المرجح أن تكون أولى مناطق العالم التي شهدت الزراعة كانت «الهلال الخصيب»، وهو المصطلح الذي أطلقه عالم الآثار «جيمس هنري برستد» على المنطقة التي تضم حاليًّا العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن، والتي اكتُشف فيها أدلة قاطعة على تقدم أنشطة الزراعة تعود إلى نحو 11 ألف عام، منها محاصيل زراعية وثروات حيوانية وأدوات إعداد طعام.
هل كان «الهلال الخصيب» البطل الوحيد؟
خلصت الدراسات التي أُجريت في تسعينيات القرن الماضي إلى أن الزراعة بدأت في منطقة الهلال الخصيب، وتحديدًا في الأردن وفلسطين، وهو الإقليم الذي يُعرف بمنطقة جنوب الشام. وتقول «ميليندا زيدر»، الباحثة في المتحف القومي الأمريكي للتاريخ الطبيعي، إنه كان يُعتقد في ما مضى أن جميع الأنشطة الزراعية بدأت في هذه المنطقة ثم انتقلت إلى أنحاء العالم.
ظل هذا المعتقد سائدًا حتى السنوات القليلة الماضية، عندما اكتشفت زيدر وزملاؤها أن هناك مناطق خارج الهلال الخصيب عرفت الزراعة تقريبًا في نفس الوقت، منها على سبيل المثال منطقة جبال زاغروس في إيران، التي عرفت استئناس الماعز الجبلي منذ أكثر من 10 آلاف عام.
وفي الثمانينيات اكتشف الباحث «داني نادل» وزملائه موقعًا أثريًّا على بحيرة طبرية يُدعى «أوهالو الثاني»، عمره نحو 23 ألف سنة، وجدوا فيه ستة أكواخ يحتوي أحدها على 150 ألف نوع من بذور الفواكه والمحاصيل الأخرى، مثل اللوز والعنب والزيتون، لذا يُعتقد أن سكان تلك المنطقة عرفوا الزراعة قبل وقت أطول ممَّا كان يُعتقد في الماضي.
الزراعة تخبرنا عن أصولنا
ترجع أصول الشعوب الأوروبية الحالية إلى المجتمعات الزراعية وتجمعات الصيادين.
أظهرت فحوصات عينات الحمض النووي أنه، منذ ثمانية آلاف عام فقط، سقطت الحواجز بين المجتمعات الزراعية في منطقة الهلال الخصيب، وبدأ الاختلاط في ما بين السكان بالزواج. ويرجح عالم الوراثة «ديفيد رايتش» هذه النظرية، لأنها تبدو منطقيةً بعد تمدد المجتمعات الزراعية الذي أدى إلى ازدهار الأنشطة التجارية، ومن ثَمَّ اختلاط المجتمعات التي كانت منعزلة في ما مضى.
لم يقتصر هذا الاختلاط على منطقة الهلال الخصيب فحسب، بل ميَّز العلماء الحمض النووي للمزارعين الأوائل لدى عدة شعوب في ثلاث قارات.
يبدو للباحثين أن المزارعين الأوائل في تركيا توجهوا إلى غرب بلادهم، ثم إلى مختلف أنحاء أوروبا منذ نحو ثمانية آلاف عام، ولم يقابلوا في طريقهم أي مجتمعات زراعية، إذ كانت أوروبا في ذلك الوقت موطنًا لجماعات الصيادين لمدة تجاوزت 30 ألف عام، فاستولى المزارعون الأتراك على أراضيهم وحوَّلوها إلى أراضٍ زراعية دون أن يختلطوا بهم بالزواج.
تمسكت جماعات الصيادين بوجودها لعدة قرون، لكن من المحتمل أنها في نهاية المطاف ذابت في المجتمعات الزراعية الأكبر حجمًا، ومن يتتبع أصول الشعوب الأوروبية الحالية يجد أنها ترجع إلى تلك المجتمعات الزراعية وتجمعات الصيادين.
أما المزارعون القدامى في المنطقة المعروفة حاليًا بإيران فقد انتشروا إلى جهة الشرق، وأظهرت الدراسات الوراثية أنهم أجداد الشعوب التي تعيش حاليًّا في الهند، إذ وجد العلماء أن الحمض النووي للمزارعين الإيرانيين القدامى يشكل جزءًا كبيرًا من حمض الهنود النووي.
تمدد سكان عين غزال، في الأردن حاليًّا، إلى شرق إفريقيا، وأحضروا معهم المحاصيل والحيوانات، لذا نجد شعوب شرق إفريقيا ترجع في أصولها إلى المزارعين الأوائل في جنوب الشام، وعلى سبيل المثال، تعود أصول ثلث الحمض النووي للصوماليين إلى شعوب جنوب الشام.
تستمر حيرة العلماء بشأن وجود بعض الفراغات في خريطة الجينات لسكان منطقة الهلال الخصيب، فلم يتوصل أحد حتى الآن إلى تحليل الحمض النووي في أحد أقدم المجتمعات الزراعية، إذ يحتاج من يريد كشف المزيد عنها إلى أن يغامر بإجراء الدراسات وسط الحرب الدائرة في سوريا.