تعمل أدمغتنا طوال الوقت على إيجاد اتصال بين المتغيرات المختلفة في العالم. ربط المتغيرات ببعضها يساعدنا على فهم ما يحدث حولنا بشكل أفضل وإيجاد المنطق من ورائه.
مثلًا: إذا دارت طواحين الهواء بسرعة أكبر في الأيام التي تشتد سرعة الرياح، فذلك يعني أن الرياح هي ما سبب حركة الطواحين. إذا انكسر الطبق في الوقت الذي مرت به القطة بجانبه، فإن ذلك يعني أن القطة هي من كسر الطبق. الأمر بسيط، أليس كذلك؟
العلم يقول لك: لا، الأمر ليس بتلك البساطة. إذا تزامن حدثان، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن أحدهما سبَّب الآخر. يمكن أن تكون الصدفة وحدها ما جمع بين الحدثين في ذلك الوقت بالتحديد.
السبب الكاذب: «نيكولاس كيدج» يُغرق المواطنين في أحواض السباحة
يندرج ذلك كله تحت مغالطة منطقية تُعرَف بـ«السبب الكاذب» (False Cause)، وتحدث عندما نتنبأ خطأً بأن هناك علاقة سببية بين حدثين لا يوجد أي علاقة بينهما.
هناك إحصائية شهيرة تخبرنا بأن الممثل الأمريكي «نيكولاس كيدج» هو المسؤول الأول عن غرق المواطنين في أحواض الاستحمام.
أُجريت تلك الإحصائية، بحساب عدد الأفلام التي ظهر فيها نيكولاس كيدج كل عام، مع عدد الغارقين في أحواض الاستحمام في نفس العام، ورُسِمَ مُخطط يُظهر الحدثين معًا من عام 1999 إلى 2009. بالنظر إلى المخطط لن تستنتج سوى شيءٍ واحد فقط: بالفعل نيكولاس كيدج هو من يُغرق الناس في أحواض الاستحمام.
تُذكَر هذه المغالطة بشكل واسع في علم الإحصاء لتخبرنا بألا نتسرَّع في استنتاج علاقة سببية بين حدثين فقط لأن الحسابات تُظهر أنهما مترابطان.
بأخذ ذلك المبدأ إلى صورته الأعم: سنكتشف أن أشياء كثيرة مما نفهمها عن الكون ربما ليست حقيقية. ما الذي يضمن لنا أن الرياح هي التي تحرك الطواحين؟ هل فقط لأن الحدثان يتلازمان في نفس الوقت كل مرة؟ إن كان الأمر كذلك، فما الذي جعلنا نقول إن نيكولاس كيدج ليس المُتسبب في حوادث الغرق، إن كان نفس الحدثان يتلازمان أيضًا على مر السنين؟
المغالطة في الطب: ما الذي سبَّب المرض؟ وما الذي سبَّب العلاج؟
في الطب سيكون استخدام مغالطة «السبب الكاذب» أخطر مما نتصوَّر. تخيّلْ أن نظن أن شيئًا بعينه المُسبب الرئيسي لمرضٍ ما، فنظل طوال حياتنا نتجنَّب ذلك الشيء ظانين أننا بذلك سنتجنب المرض لا محالة، ثم نُفاجأ في النهاية بأن المرض أصابنا، لأن ما ظنناه المسبب لم يكن له علاقة بالمرض، والسبب الرئيسي كان حولنا طوال الوقت دون أن ندري. هذا مخيف، أليس كذلك؟
للأسف، كل ذلك ليس كلامًا نظريًّا فحسب، فأرشيفات الطب مليئة بمثل تلك الحوادث التي لم ننتبه لها إلا بعد وقت طويل.
في عام 1970 مثلًا، ظهرت دراسة تخبرنا بوجود علاقة صريحة بين القهوة وسرطان الدم. قارنت الدراسة نسب الوفيات من أنواع مختلفة للسرطان في 20 دولة مختلفة بين عامي 1964 و1965، والاستخدام السنوي للقهوة في نفس الدول. بعد إجراء الحسابات، استنتج الباحثون وجود علاقة مؤكدة بين استخدام القهوة والإصابة بالسرطان.
أشعلت تلك الدراسة المجتمع العلمي بالطبع، وظهرت بعدها دراسات أخرى تحاول استكشاف تلك العلاقة، بعضها اتفق أن القهوة فعلا من مسببات السرطان والبعض الآخر لم يتفق.
حسمت منظمة الصحة العالمية الجدل بعد سنوات، فنشرت تقريرًا تشير فيه إلى أنه بدراسة وتحليل ألف دراسة مختلفة، وجدوا أن الأدلة التي تشير إلى دور القهوة في السرطان «غير كافية». العلاقة، حتى وإن كانت كبيرة ومُثبتة بالأرقام، قد تكون تأسست بناءً على الصدفة وحدها، تمامًا مثلما حدث في حالة نيكولاس كيدج.
انتبه المجتمع العلمي لمغالطة «السبب الكاذب» فبدأ تجنُّبها بإعادة التجربة والتحكم في جميع المتغيرات، وإبعاد الانحيازات التي قد تؤثر في نتائجها.
مختلف الدراسات العلمية التي ظهرت في العقود الماضية تخبرنا بشكل أكيد، أن التدخين السبب الرئيسي لسرطان الرئة. حقيقة أن التدخين مسؤول عن 80% من حالات سرطان الرئة أمر اتفق عليه جميع الناس الآن، وأصبح متداوَلًا كحقيقة ثابتة. ماذا لو أخبرتك بأن هناك من يشكك في هذا أيضًا؟
في عام 1958، كتب عالم جينات يُدعى «رونالد فيشر» مقالًا علميًّا يشكك في العلاقة التي أسسها العلم بين التدخين وسرطان الرئة. في ذلك المقال، استخدم فيشر إحصائية أخرى ظهرت لتؤكد «حسابيًّا» وجود علاقة سببية بين نسبة واردات التفاح والطلاق. بالمنطق، بالطبع، لا يمكن أن يكون أحدهما سببًا للآخر، وإنما الصدفة وحدها ما جمع بينهما حسابيًّا، وهذا بالضبط ما حاول فيشر قوله.
بالطبع هناك أدلة أخرى تثبت العلاقة بين التدخين والسرطان، مثل اختلاف العمليات الجزيئية داخل خلايا المدخنين والتغيُّرات الضارة التي تصيب الحمض النووي. لكن فيشر هنا نبَّهنا إلى إمكانية التشكُّك في ما ترسَّخ لدينا كحقيقة ثابتة. لم يراقب العلماء تفاصيل كل ما يحدث في العالم، وكثير مما نراه حقائق مبنيٌ على التزامن فقط. ماذا لو كان كل ما نؤمن به مغلوطًا؟
تخبرنا مغالطة «السبب الكاذب» أن ما جمع بين حدثين بالذات قد يكون الصدفة وحدها، أو قد يكون عاملًا مشتركًا ثالثًا لا نعرفه. اشتد انتباه المجتمع العلمي لتلك المغالطة في السنوات الأخيرة، فظهرت طرق عدة تحاول تجنُّبها في الدراسات العلمية، مثل إعادة التجربة مرات متعددة، والتحكم الصارم في جميع المتغيرات، وإبعاد الانحيازات المختلفة التي قد تؤثر في نتائج التجربة.
كل ذلك يمكنه أن يؤكد لنا أن الصدفة لم تجمع بين الحدثين، لكن سيظل هناك دائمًا هاجس أن يكون ما جمع بينهما عامل لا نعرفه. إذا كنا لا نعرفه، فكيف نستطيع إبعاده عن التجربة؟ كيف سنتأكد إذًا أن هذين المتغيرين جمعت بينهما علاقة سبب ونتيجة؟ لن نفعل.
قد يهمك أيضًا: الانحياز اللاواعي: هل ثقتك في محلها؟
لستَ بمنأى: متى وقعت في فخ السبب الكاذب؟
نقع ضحايا مغالطة بتأسيس علاقات بين أشياء لا يوجد بينها أي علاقة، لكنها حدثت بالتزامن فصدقنا أن العلاقة موجودة.
ربما لن تُفاجأ كثيرًا الآن إن أخبرتك أنك أنت أيضًا تقع مرارًا في فخ السبب الكاذب في حياتك اليومية.
في مجتمعاتنا العربية مثلًا، ينتشر هاجس الحسد بشكل كبير. تجد من يقسم لك إنه بمجرد أن أَخبَر صديقًا بشرائه سيارة جديدة، تعطَّلت السيارة فجأة وأبت أن تتحرك. صديقة أخرى تقسم إن ابنها كان الأول على المدرسة دائمًا إلى أن علمت جارتها بذلك، فخاب الولد فجأة وقلَّت درجاته.
إن كنتَ تظن أن مثال الحسد بعيد عنك، فدعني إذًا أسألك: متى كانت آخر مرة ارتديت قميصًا بعينه لأن كل الأحداث الجيدة وقعت لك وأنت ترتدي ذلك القميص؟
بالمنطق، لا توجد علاقة حقيقية بين القميص ونجاحك في مادة الرياضيات، أو بين القميص ومقابلتك للفتاة التي أصبحت في ما بعد حبيبتك، لكنك أسست تلك العلاقة بناءً على تجارب متكررة.
قد يعجبك أيضًا: قوة الخرافة: لا أحد بمأمن من القناعات الساذجة
للأسف، نقع ضحايا مغالطة السبب الكاذب كل يوم تقريبًا. نؤسس العلاقات بين أشياء لا يوجد بينها أي علاقة، لكنها حدثت بالتزامن مرات عدة جعلتنا نصدق أن العلاقة موجودة لا محالة.
في العلم، كما ذكرنا، يمكننا أن نتأكد أن الصدفة لم تسبِّب تلك العلاقة، لكننا لن نعرف ما إذا كان هناك عامل ثالث لا ندري عنه شيئًا هو المسبب الحقيقي. لذلك، أفضل الطرق لكتابة الدراسات العلمية تكون باستخدام العبارات المراوغة مثل: «من المُفترَض»، «يُعتقد أن». الأفضل دائمًا أن تبتعد عن الكلمات التأكيدية لأن ما ستثبته اليوم قد يُدحض غدًا.
في حياتك اليومية، لن تتمكَّن حتى من معرفة ما إذا كانت الصدفة سبَّبَت تزامن هذين الحدثين بعينهما. لن تتمكَّن من التحكم في جميع المتغيرات، وقد لا يمكنك أيضًا التحكم في عدد المرات التي ستكرر فيها الشيء ذاته لترى نتيجته. لذلك، معظم علاقات السبب والنتيجة التي تؤمن بها قد يكون عقلك فقط من أوجدها.
الفيلسوف الإسكتلندي «ديفيد هيوم» كان ممن شُغلوا كثيرًا بمسألة السببية، وخصصوا لها كتابات طويلة. يخبرنا الرجل بأنه لا يوجد شيء واضح يمكننا أن نطلق عليه سببًا ونتيجة، بل «اقتران دائم لمتغيرَين مختلفَين».
يمكننا أن نرى كل ذلك تأكيدًا إضافيًّا لأننا لا نفهم كثيرًا عن هذا العالم، وأن حتى تلك الأشياء التي نظن أننا نفهم جيدًا ما وراءها، قد تكون نابعة من الصدفة وحدها، أو من عامل آخر لا ندري نحن أنه موجود في الأصل. الشيء الوحيد الذي بإمكاننا أن نتأكد منه، أننا لا نستطيع أبدًا الجزم بأي شيء.