هل أثبتت كمامات كورونا أن النقاب لا يهدد الأمن؟

الشرطة الفرنسية تلقي القبض على كنزة دريدر - الصورة : Getty - التصميم: منشور

نور الشيخ
نشر في 2021/06/04

لطالما كان لتغطية الوجه دلالات ثقافية متفاوتة بين الجماعات، وحتى داخل الجماعة الواحدة. أحيانًا كان علامة على الالتزام الديني، وأحيانًا أخرى كانت له دلالات ثقافية مثل حماية النساء من نظرات الرجال غير المرحب بها ومساعدتهن في التنقل مع مراعاة القواعد الاجتماعية، كما تقول «حنة بابانيك».

ومع سيطرة جائحة كورونا، لم يعد فعل تغطية الوجه نسائيًا فحسب، واختلفت دلالاته. في الخليج، أصبحت الكمامة ترمز للمواطَنة الصالحة، وتعرض المواطنون للفرز على أساس ارتدائها، بين من يتبع إرشادات وزارة الصحة ويحمي نفسه وغيره من الوباء، والمستهتر الذي يجازف بصحته وسلامة الآخرين.

على وسائل التواصل الاجتماعي، كثيرًا ما كان من يلبسون الكمامة بشكل خاطئ يتعرضون للتنمر، فضلًا عن تجريم الدول عدم لبسها، وجعل المخالفين للقانون يدفعون غرامات مالية.

لم يكن أحدهم ليتوقع أن فعل تغطية الوجه، الأمر الذي كان استثناء، هو ما سيصبح ضرورة في ظرف صحي لحماية المجتمع من تبعات مرضية غير محمودة. نحن هنا لسنا بصدد عقد مقارنة دلالية بين النقاب والكمامة، فالدلالات التي يحملها كل منهما مختلفة، ولكن نطرح سؤالًا عمليًا هو: ما الذي تغير في الإشكال الأمني وإخفاء الهوية بين النقاب والكمامة؟ لا شيء. ما تغير فعليًا كان الآليات المتبعة لاستيعاب هذا التغير الطارئ في حال الكمامة، والرغبة في خلق هذه الآليات كرد فعل لأمر طارئ.

مواجهة تشريعات حظر النقاب

شرطي يخالف امرأة لارتداء النقاب في بلجيكيا - الصورة: Getty

أخذ الموضوع الأمني حيزًا كبيرًا في أدبيات حظر النقاب، وكثيرًا ما استُخدم عذر الإرهاب وارتداء الإرهابيين للنقاب قبل تنفيذ عمليات إرهابية كدليل قاطع على وجوب حظر النقاب في المساحات العامة.

بغض النظر عن التفنيد الرائد لهذه الحجة، القائل بأن أغلب العمليات الإرهابية نفذها إرهابيون مكشوفو الوجوه، فإن النقاب أصبح إشكالًا أمنيًا بحتًا، حتى في دولنا وفي المجتمعات المسلمة، رغم عدم وجود أدلة منطقية قاطعة على تهديده للأمن. الآن، وبعد مضي أكثر من سنة على انتشار فيروس كورونا وتطبيع إخفاء الناس لوجوههم عدا العينين، أصبحت الحجة الأمنية لتبرير حظر النقاب مهزوزة أكثر منها في السابق.

لم تصدر قوانين في الخليج بشأن منع ارتداء الكمامة أثناء القيادة، إذًا، فالكمامة لا تشكل خطرًا على المرور كما يفعل النقاب، ولا تشكل خطرًا أمنيًا بإخفائها هوية الشخص.

يُحظر إخفاء الوجه خلال القيادة في عدة دول خليجية، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، عُمان. ووُضعت مخالفات مرورية لمن تتخلف عن القانون. ورغم كل العنف الذي يحمله القرار، ورغم إقصائه شريحة من النساء (لا يهم حجمها)، فإن هذا العنف يجب أن يذيَّل بكلام يبدو مراعيًا لحقوق المرأة ومحترمًا لخياراتها، على شاكلة «تستطيع أن تختار بين ألا تقود أو أن تقود من غير نقاب».

من الملفت أن المسؤولين يحاولون نفي تقييدهم لحرية المرأة بطريقة غير مباشرة، من خلال قولهم إنها تستطيع أن تختار ألا تقود إن كان ذلك لا يناسبها، أو تنزع النقاب إن كانت تود ذلك، لذا، فهي حرة. والحقيقة أن عُمان ليست وحدها من يستخدم هذا النوع من منطَقَة حظر النقاب. باختصار، بإمكان المرأة أن تتحجب ما دامت في منزلها وبعيدة عن الأماكن العامة. هذا المنطق لا يعني أي شيء، ولا ينفي عن نفسه تهم العنصرية الإقصائية الموجهة إليه.

في المقابل، لم تصدر قوانين في الخليج بشأن منع ارتداء الكمامة أثناء القيادة، بل إن المرور عند نقاط التفتيش لا يشترط نزع الكمامة للتحقق من الهوية. إذًا، فالكمامة لا تشكل خطرًا على المرور كما يفعل النقاب، ولا تشكل خطرًا أمنيًا بإخفائها هوية الشخص.

إن عقد هذه المقارنة لا يهدف لتبسيط المعادلة وتبسيط سؤال ما الفرق بين النقاب والكمامة، لأن الفرق بالتأكيد لا يكمن في الدور الذي تؤديه، وهو تغطية الوجه، بل في الغرض من كل منهما، والحمولة الثقافية والسياسية لموضوع النقاب، التي تجعل مساواته بالكمامة أمرًا مستبعدًا.

لذلك فإن الرغبة في خلق سياسات متغيرة لمواكبة مستجدات كورونا والتعامل مع الأزمة بكثير من المرونة، لن تقابلها رغبة في تغيير السياسات لاستيعاب اختلاف النساء وحرياتهن. ومن المؤسف أن تُشحذ الهمم لإيجاد مبررات كثيرة للإقصاء، بينما يصعب البحث في آليات لاستيعاب النساء بكل اختلافاتهن.

في مسألة حظر النقاب، أيًا كانت الحجج والمبررات، هناك نرجسية غير مبررة توهم المدافعين عن هذا الرأي بأن لهم الحق في فرض لبس ومنع آخر، في «السماح» بشكل معين من الحجاب ومنع آخر، في شعور الاستحقاق بالتحكم في أجساد النساء وحرياتهن، والمعنْوَن رغم ذلك بالدفاع عن الحريات.

إنقاذ النساء المسلمات

مظاهرات في سيدني - الصورة: Getty

لعل أدبيات إنقاذ النساء المسلمات كانت من أبرز الأدوات الثقافية والإعلامية التي استُخدمت لتبرير الحروب والاستعمار، والانتقاص من الشعوب والهيمنة عليها. ورغم أن الأدبيات التي تتناول هذه الظاهرة في منطقة الخليج محدودة، فإننا كثيرًا ما نرى تجلياتها في مجتمعاتنا.

في بحثها «هل المرأة المسلمة بحاجة إلى إنقاذ؟»، تلفت ليلى أبو لُغد الانتباه إلى «النسوية الاستعمارية» في مثال حرب الولايات المتحدة على أفغانستان، والتي استعملت المرأة الأفغانية وتحريرها لتطبيع حربها على أفغانستان.

هذه النسوية تعتبر الحرب والدمار تحريرًا في سبيل تغيير لبس الأفغانيات، دون أن تكترث بما يرغبن فيه، إنها نسوية تتعامل مع النساء الأفغانيات كموضوع، وتشيّئهم لتحقيق صورة لهن تحلم بها الإمبريالية الغربية، نسوية مهووسة بتشكيل النساء وفق ما ترتضيه لنفسها، نسوية لا تحترم إمكانية الاختلاف بين الشعوب، ولا تعي موقعها السياسي المهيمن على دول العالم الثالث. إنها نسوية المنقذ، بدلًا من نسوية التضامن.

في مقال آخر، يلفت الكاتب «باول إيلي» إلى دور الطبقية في الخطاب الاستعماري عن النساء الأفغانيات، من خلال نشر صور للمفارقة بين أفغانستان في الماضي بنسائها اللاتي يرتدين التنورات القصيرة، وأفغانستان في الحاضر بنسائها اللاتي يرتدين البرقع. لا يجند هذا الخطاب الإعلامي الأسلحة الثقافية لتبرير الحرب فقط، بل ينتقي ما يخدمه من الماضي. لم توجِد طالبان البرقع، ولم تكن جميع النساء سالفًا كمن في تلك الصور. كانت الغالبية من النساء محجبات أيضًا، واقتصرت التنورات القصيرة على نساء النخبة فقط. وبالتالي فإن حتى صورة الماضي هذه لا تستوعب الجميع، بل تستثني شريحة من النساء، وتعتبر شريحة أخرى هي الممثل الوحيد للمجتمع الأفغاني آنذاك.

النقاب في الخليج العربي

الصورة: Getty

وإن اختلف السياق، فإن موقف المجتمعات في الخليج أيضًا إزاء النقاب إما يكون تمظهرًا للطبقية، أو وجهًا للاستشراق الذاتي.

يُعتبر الحجاب أمرًا شائعًا في المجتمعات الخليجية، وقد يعتبره البعض علامة دالة على الثقافة في الخليج. غير أن هناك اختلافات في ارتداء الحجاب وحتى دلالاته بين مجتمع خليجي وآخر، وبين الجماعات داخل كل مجتمع خليجي. يشير شكل الحجاب في كثير من الأحيان إلى الانتماء الطبقي والإثني (قبائل، بدو، حضر...)، والمرتبط أيضًا بالطبقة الاجتماعية. لذا، فعندما يعلق أحدهم على لباس امرأة أو ينتقص من قدرها، فإن التعليق يرمز لأمر مبطن وأكثر عمقًا، مثل انتمائها الطبقي.

إذا كان الاستشراق هو استعمال الأدوات الثقافية للسيطرة على الشعوب واستعمارها، فإن الاستشراق الذاتي هو تبني الشعوب المستعمَرة لهذه الأنظمة الفكرية، وشعورهم الذاتي بشيء من الهوان والسادية تجاه ما يتعلق بثقافتهم، وسعيهم لتغييرها. من هنا، نستطيع أيضًا استبدال النسوية الاستعمارية بالنسوية الاستشراقية، لأنهما تمارسان نفس الدور، غير أن الأخيرة مصنوعة بأيد محلية.

تُحدثنا «أ. ع.»، إحدى النساء العمانيات اللاتي عشن تجربتين مختلفتين، واحدة بالنقاب وأخرى بدونه، عن تعرضها للتمييز الأكاديمي على يد أستاذها في الجامعة بالكويت. في كل فرصة ممكنة، كان أستاذها يمارس الوصاية عليها ويشككها في صحة قرارها قائلًا: «لمَ تلبسين النقاب؟ ليس من عاداتكم العمانية الأصيلة».

النساء لسن بحاجة إلى منقذ، خصوصًا إذا كان هذا المنقذ صوت المستعمر وضميره الداخلي، وخصوصًا إذا كان هذا المنقذ برجوازيًا.

في حالة عمان، ليس النقاب مشاعًا في ثقافة المجتمع كما هو في دول خليجية أخرى (كالكويت مثلًا)، ما جعل الأستاذ يستعمل الأصالة كسلاح لينتقص من قرارها بارتدائه، دون أن يجد في ارتداء الكويتيات للنقاب في الفصل أي إشكال. ولكن، ما الذي يغير أي شيء في ما إذا كان النقاب أصيلًا في ثقافتها أو لا؟ ما الذي يعطي الآخرين الحق في التنمر والتمييز والإقصاء لأن لباسها أصيل في ثقافتها أو لا؟ ألسنا جميعًا نرتدي ما هو ليس أصيلًا في ثقافتنا دون أن يخل ذلك بشعورنا وانتمائنا الثقافي لمكان ما؟ أليست الثقافات في استمرارية من التلاقح والتنوع؟ سيكون من المثير للسخرية توجيه تعليق لأحدهم لأنه لبس الجينز غير الأصيل في ثقافته، ولكن لِمَ يكون تعليق «النقاب ليس أصيلًا في ثقافتك» عاديًا؟

بعد أن قررتْ نزع الحجاب، استطاعت أن ترى المجتمع العماني بشكل مختلف، ومن منظور طبقي. لاحظت احترامًا غير مسبوق معها، اعتقادًا من الناس بأنها تنتمي إلى عائلة من طبقات النخبة، وذلك لأن النساء غير المحجبات في عُمان تحديدًا عادة ما ينتمين إلى طبقات اجتماعية مرفهة. هذا الاحترام في الحقيقة ليس موجهًا إليها، ولا تعتبره احترامًا، لأنه لا يحترم خيارها هي، بل يحترم صورة انتمائها الطبقي في أذهان الناس.

من جهة أخرى، يُسمح لبعض النساء في الخليج أن يلبسن الحجاب بطرق مختلفة، دون أن يجعل ذلك منهن «أقل تحضرًا وحداثة»، لأن الطبقة الاجتماعية هي التي تفرض هالة من التحضر. بينما تلحق بنساء لا يمتلكن الامتيازات ذاتها وصمات اجتماعية كثيرة، وتتعرضن لكثير من الاحتقار والتمييز، ويتساءل كثيرون ممن يخطئون إصابة الهدف دائمًا: هل كان اختيارها أم لا؟ دون أن يكترثوا بالتفكير في ما تعايشه خلال حياتها اليومية.

النساء لسن بحاجة إلى منقذ، خصوصًا إذا كان هذا المنقذ صوت المستعمر وضميره الداخلي، وخصوصًا إذا كان هذا المنقذ برجوازيًا. العنف ضد النساء في ما يخص لباسهن، وفرض الاحتشام بالقوة، موجود بالطبع. ولكن ماذا لو جربنا الحديث عنه دون أن ينتقص ذلك من نساء أخريات، ويُظهرهن مسلوبات الإرادة، منزوعات القدرة؟ ماذا لو توقفنا عن معاملة النساء المنقبات والمحجبات كموضوع، لأنهن أطراف في الحوار، وأطراف محورية أيضًا؟ ماذا لو تغيرت كل القواعد المعلنة وغير المعلنة التي تمنع النساء المنقبات من الظهور في الفضاء العام؟ ماذا لو أصبح النقاب كما الكمامة، شيئًا يقدر على تطويع أنظمتنا الحالية، بعيدًا عن دراما الخطر الأمني والحاجة الملحة لرؤية الوجوه؟

هل نشهد مستقبلًا أكثر تقبلًا للنقاب؟

بعد مرور ما يقارب العامين من معايشة العالم لكورونا وقبوله فكرة تغطية الوجه حتى في الأماكن الحساسة أمنيًا مثل المطارات، هل سيفصل الحديث عن الأمن في كل مرة يُثار فيها الحديث عن النقاب؟ الإشكال، واقعًا، أكبر مما يبدو. التعذر بالأمن مجرد غطاء يحتمي به الاستشراقيون المحليون، والمجددون للطبقية تحت نظام الوصاية الأبوية.

مواضيع مشابهة