يظهر إعلان تجاري لأحد المطاعم، يثير جدلًا بين النساء على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تشجيعه على العنف بحسب النقاشات التي دارت، وآخرون وجدوا تلك النقاشات مبالغة نسوية. تحول النقاش إلى سجالات شديدة الحدة، غضب أحد المؤيدين للإعلان قائلًا: «النسوية إرهاب فكري»، فهل كان محقًا؟
التطرف النسوي
في عام 2019، نشر الحساب الرسمي للأمن السعودي على تويتر مقطع فيديو توعويًا حول الأفكار المتطرفة. ما أثار الجدل وقتها أن الفيديو شمل الفكر النسوي ضمن هذه الأفكار، وبسبب رد الفعل القوي والمستغرب من قبل المتابعين، أعلنت رئاسة الأمن السعودي أن الفيديو كان تصرفًا فرديًا من موظف جانبه الصواب. لكن لماذا نجد الفكر النسوي في هذا السياق أصلًا؟ وما هو التطرف؟
التطرف بحسب المعجم العربي هو المغالاة فكريًا أو سياسيًا أو دينيًا أو مذهبيًا، وهو مجاوزة حد الاعتدال وعدم التوسط. ومن هذا التعريف تخرج مصطلحات التطرف الديني أو الإرهاب، والتطرف العلماني، وتطرف الأحزاب السياسية، والآن التطرف النسوي.
لكن من يحدد ما إذا كان الفكر متطرفًا: الدولة أم الأفراد؟ الدولة تحكم بكون الأمر تطرفًا إذا ما خالف مناهجها السياسية أو الاقتصادية، والأفراد مختلفون، بعضهم يتبنى فكرًا يراه حقًا وعادلًا، والبعض يرى نفس هذا الفكر تطرفَا. إذا ما أخذنا «داعش» مثالًا، فمؤيدو الدولة الإسلامية يرونها تطبق الشريعة وعلى الحق والعدل، وآخرون يرونها تتطرف دينيًا بتبني فتاوى لا تمثل الإسلام الوسطي السليم. إذًا كيف نحكم بما هو متطرف وما ليس كذلك؟
عودة إلى الفكر النسوي، فالاتهامات بالتطرف أتت نتيجة مسألتين: التطرف في المطالبات، والتطرف في الأسلوب بحسب أصحاب هذا الرأي. يرى متهمو النسوية بالتطرف أن مطالبات النسويات تجاوزت حد الاعتدال، وأنها مغالاة في تحديد وضع المرأة وحقوقها، إذ أن المطالبة بالحرية الكاملة للمرأة على سبيل المثال هو تطرف سيؤدي إلى نتائج وخيمة على أخلاقيات المجتمع، وانفلات للنساء والفتيات.
المطالبة بعدم معاقبة الزوج الذي يفاجئ زوجته وهي في وضع مخل مع رجل آخر تشجيع على الزنا، والمطالبة برفع ولاية الرجل عن المرأة زعزعة لقواعد العائلة وتحريض على العقوق، والحث على تحرير المرأة حث على نزع الستر وخلع الحجاب ومخالفة الشريعة، والتحريض على علو صوت المرأة والمطالبة بحقوقها دعوة للتمرد ونزع الحياء. هكذا يرى متهمو النسوية بالتطرف في المطالبات، فماذا عن أسلوب المطالبة؟
أسلوب مطالبة النساء بحقوقهن هو الأكثر نقاشًا في الفترة الحالية، فالصوت عالٍ، والنقاش حاد، والكلمات البذيئة متداولة. ما أن يكتب أحدهم عن المرأة أو النسوية، حتى على سبيل المزاح، حتى يُهاجَم بشدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويُسحَل حتى يخر جسده الإلكتروني داميًا. المرأة نزعت حياءها وصارت تشتم الرجال ليل نهار، وتقلع عين من يرد عليها أو يناقشها. صرن يتحدثن في أمور حساسة، والفتيات ينشرن ما يقوله لهن المتحرشون في العلن، ولم يعدن صامتات على من يتطاول عليهن في الشارع.
الغالبية تطالبهن بالهدوء والأدب واتباع قواعد الأنوثة المرسومة لهن، فهل الخطاب الناعم هو المطلوب؟ قبل ذلك، لماذا النسويات دائمًا غاضبات؟
النسويات الغاضبات
في ثورات الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، تهافتت الجماهير الغاضبة من كل حدب وصوب في عدة بلدان عربية إلى ساحات الاحتجاج، غضبًا من الفقر والظلم، مطالبة بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية وتوزيع عادل للثروة.
كان هذا الغضب مكبوتًا لسنوات عدة بفعل الحكم الديكتاتوري لتلك البلدان. حُرقت بعض المراكز الحكومية والأمنية، وحمل البعض السلاح. الشرطة غاضبة وتضرب المعتصمين، والمعتصمون غاضبون من القمع، يقذفون الشرطة بالمولوتوف. أحداث لا ينساها أحد، تتجسد في مقولة المناضل الأمريكي مالكوم إكس «لقد تعلمت مبكرًا أن الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يُحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد».
الغضب حق المضطهدين هو تعبير الألم الذي ينخر المظلوم، هو سبيل الإنسان ليحصل على حق مسلوب في عالم لا يفهم العدالة، ويقف فيه القامعون على أكفة الموازين فيثقلونها. إذًا لماذا من المبرر أن يستخدم الغاضبون هذا العنف في الشوارع مسلحين، بينما لا يجب أن تستخدم النساء كلمات غاضبة على مواقع التواصل؟
ليس السؤال حول سبب الغضب الدائم للنسويات سؤالًا حديثًا، إذ أنه يُطرح منذ سبعينيات القرن الماضي مع الموجة النسوية الثانية التي ظهرت في الولايات المتحدة، تزامنًا مع تصاعد النسوية الراديكالية، وهي إحدى المدارس النسوية التي تتبنى أدوات ثورية، وتؤمن بتفكيك النظام الأبوي كاملًا، لا إصلاحه من الداخل. تميزت النسوية الراديكالية في حينها بالتظاهرات والمطالبات بصوت عالٍ في ما يخص شكل العائلة وجنسانية المرأة والإجهاض وغيرها، حتى أصبح مصطلح النسوية الراديكالية اليوم ذا دلالة سلبية تُفهم على أنها حركة متطرفة.
ما حرصت عليه النسوية الراديكالية وغيرها من المدارس النسوية هو كسر القواعد الجندرية التي تقسم الصفات الاجتماعية والأدوار في المجتمع بين الأنوثة والذكورة دون اعتبار لاختيارات الأشخاص، وتعطي دورًا مقولبًا لكل من الجنسين لا يجب الخروج عنه، وإلا مواجهة العقاب المجتمعي.
فالذكورة تعني القوة والسلطة والصوت العالي والأعمال الشاقة والعمل في أعلى الهرم الإداري وحبس المشاعر وحمل العبء الاقتصادي والاهتمام بالألعاب الخشنة، بينما الأنوثة تعني النعومة والهدوء والخجل والأدب وعدم التسلط والانكفاء تحت العائلة والتعبير عن المشاعر والاهتمام بالألعاب الأمومية كالدمى.
الغضب حق النساء. لا يمكن أن يُسهل القانون قتلك وتواجهه بابتسامة، ولا أن يلمس شخص ما جزءًا من جسدك في الطريق فتكمل طريقك متأملًا جمال الكون.
أي كسر لهذه القوالب هو خروج عن القواعد المجتمعية، أي ضرب لها سيكون رد الفعل عليه النبذ أو التنمر أو إلحاق العار بالعائلة. فبكاء رجل في العلن وتعبيره عن مشاعره يعتبر ضعفًا وميلًا للأنوثة، واهتمامه بالأزياء مثلًا، التي جعلت القواعد المجتمعية منها اهتمامًا محصورًا على الإناث، هو ميل للأنوثة إذا ما اهتم به ذكر، فيجعل منه متهمًا بالمثلية المرفوضة مجتمعيًا أو شخصًا ذا احترام أقل.
أما الأنثى التي تعبر عن قسوة أو تحصل على سلطة أو تخرج عن قواعد الخجل وتعبر عن أفكارها بجرأة أو تطالب بحقها بصوت عالٍ أو تهتم بالألعاب العنيفة، فهي ميالة للذكورة، غريبة مجتمعيًا، ينفر منها الجميع، مسترجلة لن يتزوجها أحد.
ومن هذا كله، فالغضب والقسوة في الحديث والصوت العالي صفات ذكورة لا يُقبل اجتماعيًا أن تمارسها الإناث. تجد البعض من مناهضي النسوية على السوشيال ميديا يسأل: «هل تتزوج من نسوية؟». نعم، لن يتزوج شخص محافظ على العادات الاجتماعية وقواعد المجتمع للصفات الجندرية بفتاة تكسر هذه الأدوار وتتصف بصفات الذكور حسب اعتقاده، وعدم الزواج منها بحد ذاته عقاب مجتمعي يكرس دور المرأة بحتمية زواجها وسترها في بيت زوجها. هذا هو الدافع الرئيسي لرفض الصوت العالي الذي تستخدمه النسويات في المطالبة بحقوقهن. لكن، مجددًا، لماذا يعلنَّ غضبهن دائمًا؟
الغضب حق النساء. لا يمكن أن يُسهل القانون قتلك وتواجهه بابتسامة، ولا أن يؤيد المجتمع منعك من التعليم أو العمل أو حبسك في المنزل فتصمت، ولا أن يكون من حق الآخر قانونيًا ومجتمعيًا وشرعيًا ضربك فتضع رأسك على الوسادة ليلًا بأحلام سعيدة هانئة، ولا أن يلمس شخص ما جزءًا من جسدك في الطريق فتكمل طريقك متأملًا جمال الكون. لا يمكن أن أسلب حياتك وأطالبك بالجلوس معي بهدوء للحديث، وعدم المطالبة بمنع هذا كله وإلا ستكون متطرفَا.
هل الخطاب الناعم هو الحل؟
بعض المهتمين بمعرفة النسوية ومتابعة حركتها يشكون من الخطاب الهائج كما يصفونه، وأن الخطاب العقلاني هو المطلوب، لكن هل يُسمع الخطاب العقلاني أصلًا؟
كتبت الفيلسوفات النسويات من عدة مدارس، مثل الفرنسية «سيمون دي بوفوار» والأمريكية «أنجيلا ديفيس» والمصرية نوال السعداوي، بالإضافة إلى الناشطات والكاتبات كالأمريكية «بيتي فريدان» والإنجليزية «فيرجينيا وولف» والمغربية فاطمة المرنيسي، عدة كتب فككن فيها النظام الأبوي من عدة زوايا فلسفية.
كتبن في المشكلات التي تواجه المرأة في عدة مجتمعات وبمختلف الهويات، خرجن إلى الفضاء العام يتحدثن عن المؤسسة القمعية في الدولة، وتفكيك الهرم الذكوري الذي يلقي بحمله على أجساد النساء. استخدمن العقلانية والمنطق المطلوب من المجتمع، بخطاب تفكيكي فلسفي، فلماذا لم يستمع المناهضون إلا لأصوات الغضب؟
بعض المهتمين بمعرفة النسوية ومتابعة حركتها يشكون من الخطاب الهائج كما يصفونه، وأن الخطاب العقلاني هو المطلوب، لكن هل يُسمع الخطاب العقلاني أصلًا؟ بالعودة إلى مقولة مالكوم إكس بأن الضجيج هو ما يمكّنه من أخذ حقه، يبدو أن الخطاب الغاضب أكثر إثارة للانتباه وأسرع في الحصول على الحق في عالم غير عادل. أو كما يقال في الحرب: «ليس السلام بالاستسلام».
تتحدث بعض الناشطات عن سبب غضبهن بأنهن لن يلاحَظْن ولن يلتفت لهن أحد إلا بالصوت العالي والضجيج. في رأيي أن الخطابان يجب أن يكونا متوازيين، فالعمل التنظيري الفلسفي مهم جدًا لرفع الوعي وتفكيك الأفكار وتحليل الواقع والتمكن من استخدام الأدوات المناسبة لتغييره، والعمل على الأرض بحراك يلفت الانتباه إلى المشكلات والعراقيل التي تواجهها النساء مهم جدًا أيضًا، ولن يكون هناك وصول لأهداف النسوية سوى بالخطابين متوازيين ويعملان معًا.
لكن الأمور ليست بالسهولة المتوقعة، فحتى الكاتبات والفيلسوفات تُوجه لهن اتهامات الجنون والتطرف، وفي الحقيقة لا أفهم كيف يكون الكلام والكتابة، أو حتى لو وصل الأمر إلى السباب على السوشيال ميديا، تطرفًا في مقابل التعرض للقتل والعنف الجسدي والجنسي والنفسي والاقتصادي؟ كيف تُتهم النساء بالإرهاب الفكري لمجرد كلمات، بينما يعشن عنفًا يوميًا في بيوتهن وعملهن والشوارع؟
ما أعتقده أن الاتهام بالإرهاب الفكري هنا هو في حد ذاته إرهاب فكري. تخويف النساء من المطالبة بحقوقهن حتى لا يتهمن بالتطرف هو التطرف بعينه. أليس التطرف في التخويف والقمع هو ما أوجد لنا غالبية من النساء على مواقع التواصل يتحدثن بأسماء وهمية أو الاسم الأول فقط لتجهيل هوياتهن خوفًا من المجتمع والعائلة؟
نأتي هنا لسؤال قد يتبادر إلى الأذهان في شأن التطرف النسوي: ماذا عن ملاحقة كل من يقول كلمة لا تعجب النسويات؟ أو تصحيح كل كلمة دارجة باعتبارها مهينة؟
الصوابية السياسية: موجة تجتاح العالم
إذا كنت قد تابعت النسخة الأمريكية من مسلسل «The Office»، فأنت تعرف شخصية مايكل سكوت، وإن لم تكن قد تابعت المسلسل، فسكوت هو شخصية رئيسية في العمل تلقي الكثير من النكات التي لم تعد مقبولة اليوم حول المثليين والنساء والسود والمكسيكيين والكثير من الأقليات.
يقول «ستيف كاريل» مؤدي دور الشخصية، إنه من المحتمل ألا يعرض مسلسل «The Office» لو كان قد أنتج حاليًا، لاختلاف المناخ الاجتماعي. يقصد بذلك أن المجتمع اليوم لم يعد يتقبل الكوميديا التي كان يقدمها، والتي ترتكز على شخصية ساذجة موجودة في الواقع، لا تفكر في ما تقول ولا تتميز بفهم الحساسية المجتمعية، أو ما يسمى بالصوابية السياسية.
الصوابية السياسية أو «Political Correctness» هو مصطلح يرتبط بانتقاء الكلمات التي قد يكون لها سياق سلبي أو تسبب حساسية لدى المقصودين بها، مثل: لا تقل «سود» بل «أمريكيين من أصل أفريقي»، ولا تقل «معاقين» بل «ذوي احتياجات خاصة»، ولا تقل «فقراء» بل «مهمشين اقتصاديًا». لماذا يوضع الأسود في سياق المجرم في الأفلام؟ ولماذا لا توجد نساء مخرجات على قائمة الأوسكار؟ وهكذا.
ارتفعت موجة الصوابية السياسية كثيرًا في الفترة الأخيرة، وصار من الصعب عند البعض انتقاء الكلمات حتى لا يتحسس منها أحد، ومن أجل تجنب الوقوع في شرك الكلمات الدارجة ثم الاتهام بالعنصرية والتنمر. هذه الموجة منتشرة عالميًا، يشتكي منها الكوميديون بدعوى عدم القدرة على إلقاء نكات إلا بقيود، ويشتكي منها المدونون الخائفون من التنمر الإلكتروني إذا ما استخدموا كلمة لا تتسم بالحساسية.
من هنا نعود إلى النسوية، التي استخدمت الصوابية السياسية لصالحها لتعديل الكثير من المصطلحات الدارجة والتي تعتبر مهينة للمرأة، ولكسر الصور النمطية للنساء في الأعمال الفنية، أو محاربة النكات الكارهة لهن.
تُهاجم النسويات على هذا النوع من التصرفات باعتباره تطرفًا يخنق أي متحدث، لكن ما لا نراه هنا أن الصوابية السياسية موجة ليست متعلقة بالنسويات وحدهن، إذ أن كل الأقليات التي فاض تنميط صورها على الشاشة وفي النكات وافتُقرت الحساسية في الحديث عنها، رفعت من موجة الصوابية السياسية.
إذًا، لا يجب أن يتمحور النقاش حول النسويات وحدهن، فالموجة العالية التي وصلت لها الصوابية السياسية نقاش مهم وكبير في مدى حد هذه الصوابية ومدى ملاءمتها لحرية التعبير والرأي، خاصة إذا ما ناقشنا ثقافة الإلغاء «Cancellation Culture»، أي نبذ وإنهاء أي شخص لا يلتزم بقواعد الصوابية السياسية ولا يتنقي الكلمات المناسبة التي تفرضها على الكلام العام.
الإلغاء قد يصل إلى إنهاء وظائف بعض الأشخاص أو تدميرهم إلكترونيًا ونفسيًا، وهذا هو باب النقاش الذي يجب أن يوضع على الطاولة لتفكيكه وتحليله. من المهم بالتأكيد أن تُكسر الصور النمطية، وأن تتغير الكلمات المؤذية. لكن ما هو الحد الذي يجب أن نقف عنده حتى لا نصل إلى مرحلة قمع الرأي الآخر؟
هذا هو النقاش الذي يطول كل الفئات، لا النسوية وحدها، وإن كنت ترى أن الصوابية السياسية متطرفة فتفكيك مفهومها بحد ذاته والأدوات التي تستخدمها هو ما يجب باعتقادي التوجه له، لا المستخدمين له من فئات تشعر بالضعف تجاه الأغلبية المجتمعية، وتهدف لإعادة توزيع مراكز القوى.
الخوف من النسوية
بدأ مصطلح النسوية يأخذ دلالة سلبية عند البعض، وذلك لعدم المعرفة الحقيقية بماهيتها، وآخرون يرونها تدميرًا للمجتمع وعاداته وتقاليده، وهناك من تشكل له النسوية تهديدًا شخصيًا.
يشعر بعض الرجال بأن موجة من الكراهية النسوية تتجه ضدهم، وهذا يجب تصويبه، فالرجل الواعي بالنظام البطريركي الأبوي هو رجل حليف للنسوية، يدرك أن النساء خاضعات لأنظمة اجتماعية وقانونية واقتصادية تهدم إنسانيتهن وحياتهن. والرجل غير العارف ليس عدوًا للنسوية هو الآخر، العدو هو النظام الذي خلق هذه المسافات بين الجنسين، وخلق حربًا جندرية لم تهدأ. هذا النظام المبني على التمييز والتفرقة يشكل خطرًا على النساء بشكل أكبر، وعلى الرجال أيضًا بما يقيدهم به من أعباء وأدوار قد لا تتناسب مع خياراتهم الشخصية.
الرجال تحت هذا النظام لهم مميزات لا تحصل عليها النساء، وسلطات تخنق حياتهن. هذه المميزات بعضها يشكل عبئًا على الرجل نفسه، ولذلك يجب أن يكون هو أول من يتحالف مع النسوية لتغيير الواقع. السلطة التي يحصل عليها الرجل لخنق حياة المرأة، والتي بدورها تسهل العنف والتدمير، يجب التخلص منها حتى يحافظ الرجل على إنسانيته.
الخائفون من النسوية هم الخائفون على امتيازاتهم وسلطاتهم التي لا يرغبون في التنازل عنها، سواء كانوا مدركين لذلك أم لا، وهم الشكل الأسوأ للنظام. وهنا يأتي دور النسوية في الحفاظ على التوازن الإنساني الطبيعي بالعدالة والمساواة وهدم هرمية تعلي جنس على جنس آخر، أي جنس على آخر، فالعدالة والمساواة المطلوب تحقيقها هنا ليست عودة إلى النظام الأمومي ليصبح أعلى الهرم أنثويًا بدلًا عن أن يكون ذكوريًا.
عاشت البشرية عصورًا مديدة من التقلبات في العلاقات الجندرية، كانت المرأة فيها سيدة المجتمعات داخل النظام الأمومي لأسباب اقتصادية وسياسية، حتى جاء العصر الأبوي مغيرًا قواعد اللعبة، ليكون الذكر رب الأسرة وسيد القبيلة، ولنفس الأسباب التي سادت بها المرأة. اليوم نحن في عصر يجب أن ينتهي فيه هذا التسيد على أساس الجنس، وأن تنزح البشرية نحو عصر العدالة الجندرية لا هرميتها.
الكثير من السبل قد تحقق ذلك، ابتداء بالتربية، مرورًا بالوعي والفهم والنقاش وعرض المشكلات وتحليلها، وتغيير المفاهيم، وعدم تعميم الأخطاء الفردية، بل معالجتها وفهمها والتعلم منها والبعد عن الشيطنة الكاملة بسببها، بالإضافة إلى نقد النسوية لنفسها، لتجديد خطاباتها الكلاسيكية ولاستخدام أدوات مناسبة. الحراك الذي يبدأ في الكويت اليوم يجب أن يُدفع باتجاه نضج أكبر عبر استخدام ما سبق ذكره، والاهتمام بتقاطع القضايا، والتواصل مع جميع الفئات والأقليات.