في أوائل مايو 2018، تابع العالَم باهتمام سفر العالِم الأسترالي «ديفيد غودال» إلى سويسرا، لينهي حياته داخل ما يُعرَف بـ«عيادات الانتحار» هناك.
كان غودال، الذي عُرف يومًا بأكبر عالم مُعمِّر في أستراليا، قد اختار إنهاء حياته بعدما بلغ 104 أعوام ونالت منه آلام الشيخوخة. وقبيل وفاته، خاض حملة واسعة تنادي بحق كل إنسان في القتل الرحيم، وتطالب الحكومة بتمرير قوانين تسمح بذلك النوع من الانتحار، حتى لا يضطر أحد للسفر إلى الخارج لتنفيذه.
لم يكن غودال الأول، ولن يكون الأخير. في الطب أنواع مختلفة من الموت تحت إشراف الأطباء، ما هي؟ ولِمَ تُسبب جدلًا واسعًا؟
ما الموت المقنَّن؟
في الطب أشكال عدة للقتل تحت إشراف الأطباء، أشهرها «القتل الرحيم». يُعرَّف القتل الرحيم بأنه إقدام طبيب على إنهاء حياة شخص يعاني المراحل الأخيرة من مرض سيقتله لا محالة. يُجرَى هذا النوع من القتل، في الأغلب، بحقن المريض بجرعة زائدة من مسكن أو مخدر بناءً على طلبه وهو بكامل وعيه. كانت هولندا أول دولة في العالم تُقنِّن هذا النوع من القتل في إبريل 2002.
ينقسم القتل الرحيم قسمين أساسيين:
- قتل إرادي: عندما يطلب الشخص بنفسه، ، وهو في كامل وعيه، من الأطباء أن ينهوا حياته، وهذا هو النوع القانوني في بعض دول العالم
- قتل لا إرادي: عندما لا يكون الشخص في وعيه بسبب غيبوبة عميقة مثلًا، ويَتخذ القرار بدلًا منه وصيُّه أو الشخص الأكثر قرابةً له، وهذا النوع غير قانوني في كل دول العالم
تفاجئنا بعض المصادر بأن تاريخ القتل الرحيم يمتد إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حين كان المرضى يطالبون الأطباء بضخ السموم في أجسادهم ليخلصوهم من معاناة المرض.
وبالرغم من أن مصطلح القتل الرحيم لم يُعرف إلا مؤخرًا، فقد كان ذلك النوع من القتل منتشرًا بشكل تلقائي في مواقف مختلفة، مثل ذبح الجنود ذوي الإصابات القاتلة في الحرب العالمية الثانية لتقليل معاناتهم، أو التعلُّق بأرجل المحكوم عليهم بالإعدام لتسريع موتهم، إن لم يقتلهم الحبل بالسرعة المطلوبة. أما أول محاولة رسمية لتقنين القتل الرحيم في أمريكا فوقعت عام 1906، عندما قُدِّم قانون في ولاية أوهايو يطالب بإباحة إنهاء حياة المرضى لو طلبوا ذلك، بفضل حملة قادتها سيدة لإنهاء حياة والدتها التي عانت طويلًا من مرض مزمن ومؤلم، لكن السلطة التشريعية في الولاية رفضت القانون.
القتل الرحيم لا يقبع وحده في قائمة قتل المريض بإشراف الأطباء، فهناك أيضًا ما يُعرَف بـ«العناية المُلطَّفة».
تُمنح العناية الملطفة للمرضى الذين وصلوا إلى المرحلة الأخيرة من المرض. في تلك اللحظة، يرفع الأطباء مشارطهم عن الجسد، يطفئون أجهزتهم، يعلنون أنه ما من شيء يمكنهم أن يفعلوه.
ينتقل المريض، في الغالب، إلى دار خاصة تقدِّم هذه الرعاية. وفيها يحاول المختصون منحه أدوية تخفف من أعراضه، لكن دون معالجة السبب الأصلي للأعراض. لذلك، فإن المرض يأخذ مساره الطبيعي داخل الجسد، ويقضي على المريض بعد أشهر قليلة من المكوث في الدار.
وفي حين يشتد الجدل بشكل ملحوظ حول القتل الرحيم، فلا أحد حقًّا يجادل في مسألة الرعاية المُلطَّفة. لا أحد يقتل المريض بشكل مباشر هنا، فالقتل يأتي بطيئًا بِتَرك المريض حتى ينال منه المرض.
نوع ثالث من أنواع ذلك القتل يُسمى «الانتحار المُساعَد». في هذا النوع، يطلب المريض من أحد مساعدته على إنهاء حياته. في تلك الحالة، ربما يطلب من طبيب أن يبيعه جرعة قاتلة من دواء ما، أو يطلب من صديق أن يساعده في لف حبل المشنقة حول رقبته.
رغم أن ذلك النوع من القتل يعد جريمة في كثير من دول العالم، فإنه أحيانًا قد يمر بالنظر إلى الحالة وأسباب القتل.
هل يكون المريض بكامل وعيه فعلًا تحت تأثير الألم؟
في عام 1911، على سبيل المثال، طلبت امرأة من رفيقاتها في المسكن مساعدتها على إنهاء حياتها.
عاشت المرأة سنين تعاني صعوبة شديدة في التنفس بسبب تلف إحدى رئتيها. وافقت رفيقاتها بالفعل وأنهين حياتها، وأُلقي القبض عليهن بعد وقت قليل. لكن في المحكمة، بالنظر إلى حيثيات قضيتهن ودوافعهن وراء الفعل، أُسقِطت القضية وأُطلِق سراحهن جميعًا.
تشير المصادر إلى أن تلك القضية بالذات أدت إلى ارتفاع الأصوات بتقنين ذلك النوع من القتل، من أجل تخفيف معاناة المريض.
كيف يتعامل الإنسان مع الألم؟
الجدل حول القتل الرحيم على أشده منذ عصور طويلة. يرفع المعارضون لافتة الدين وقدسية حياة الإنسان، ويرفع المؤيدون لافتة حرية اختيار الفرد لتقليل معاناته.
لن نتطرق إلى ذلك الآن، لكننا سننظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة قليلًا: كيف يتعامل الإنسان مع الألم؟ ما الذي قد يجعل إنسانًا يتوسَّل إلى من حوله من أجل «إنهاء حياته»؟ البلاد التي تُقنِّن القتل الرحيم الإرادي تضع شرطًا أساسيًّا أن يكون المريض في كامل وعيه وهو يطالب بذلك الأمر، لكن هل يكون المريض في كامل وعيه فعلًا تحت تأثير الألم؟
إدمان المرضى للمسكنات من أكثر أنواع الإدمان انتشارًا. وتحت تأثيرها، يفقد المريض تحكمه في الدواء مع الوقت، ويجنح لأخذ جرعات أكثر لفترات زمنية أطول في محاولة للسيطرة على ألمه.
على سبيل المثال، في عام 2007، تسبب إدمان عقار «الميثادون»، مخفف الآلام، في مقتل 785 فردًا في ولاية فلوريدا الأمريكية. استخدمه هؤلاء بنسبة أدت إلى عدم تحمُّل أجسادهم في النهاية. إحصائية أخرى تخبرنا بأن 44 أمريكيًّا يموتون يوميًّا بسبب جرعة زائدة من مسكنات الآلام. بينما نجد من يخبرنا أنه في الولايات المتحدة تسبَّب إدمان مسكنات الآلام، خلال خمس سنوات، في ضرر أكبر مما سببه إدمان الكوكايين في 50 عامًا.
الإنسان إذًا يُظهِر استعدادًا لفعل أي شيء من أجل التخلص من ألمه. لا نتحدث هنا عن إدمان أنواع المخدرات مثلًا، أو عن طرق التخلص من ألم نفسي، لكننا نتحدث عن إدمان قد يصل إلى قتل أشخاص حاولوا التخلص من آلامهم الجسدية.
ليس هذا فحسب، فوفقًا لدراسة علمية، الأمراض النفسية (وعلى رأسها الاكتئاب) من أكثر العوامل التي تزيد من رغبة ذوي الأمراض المستعصية في الموت. نسبة الإقبال على القتل الرحيم من مرضى السرطان المُشخَّصين بالاكتئاب تبلغ أربعة أضعاف نسبتها عند المرضى غير المصابين بالاكتئاب. وبالرغم من ذلك، نجد إحصائية تخبرنا بأنه في ولاية أوريغون الأمريكية، في عام 2007، لا أحد ممن قُتِلوا بالفعل تحت إشراف طبيب خضع لتقييم نفسي قبل الإقدام على الفعل.
من يعطي صك إزهاق الأرواح؟
الجدل حول أشكال القتل المُقنَّن في الطب ليس دينيًّا أو أخلاقيًّا فحسب، بل يمتد إلى أعمق من ذلك بكثير.
إعطاء الحق لإنسان بأن يُنهي حياة إنسان آخر، بحجة تقليل معاناته، قد تفتح علينا أبوابًا أوسع مما نتصور. لِمَ لا نقتل كل من وُلِد مشوَّها، مثلًا، لإنهاء المعاناة النفسية والجسدية التي سيتعرض لها طوال حياته؟
فكرة تقنين القتل في الطب تروِّج للانتحار. إن كان الأطباء يُقدِمون على إنهاء حياة المريض لوضع نهاية لمعاناته الجسدية، فما المشكلة إذًا في من يُقدِم على الانتحار لوضع نهاية للآلام النفسية المهولة التي يعانيها؟
الرعاية المُلطَّفة أيضًا تروِّج لاستسلامنا للمرض بشكل كبير. إن كان على الأطباء أن يتركوا المريض وحده لينال المرض منه، فلماذا كانت رحلة العلاج من البداية؟ هناك أمراض لم يعرف لها الإنسان أي علاج إلى يومنا هذا، مثل التصلب المتعدد أو مرض «باركنسون». منذ البداية يعرف المريض والأطباء أن الدواء سيخفف الأعراض، لن يعالج، فلماذا يخوض المريض رحلة العلاج إذًا، إن كان نفس الأطباء سيرفعون أيديهم عنه في مرحلته الأخيرة مع المرض؟
المشكلة تمتد إلى حقه في خوض الحياة إلى آخرها، وحقه في أن يجد من يحارب معه في رحلة مرضه، ولا يتركه للموت. الإنسان هش وضعيف جدًّا أمام الألم. المرأة في أثناء الولادة تصرخ في الجميع أن يخلصوها من الألم، فهل يعني ذلك أن ننهي حياتها؟
لكن على الجانب الآخر، أبسط أشكال الحريات تخبرنا بأن من حق الإنسان أن يختار الطريقة التي يحيا بها حياته، ومن ضمن ذلك، حقه في عدم مواجهة معاناة غير ضرورية، إن أراد ذلك.
من يعطي صك إنهاء الحياة على أي حال؟