الحسد: قرين الحب، ابن المساواة

اللوحة: Théodore Géricault

ياسمين أكرم
نشر في 2018/10/04

منذ بداية إدراك الإنسان ذاته، في لحظات التاريخ الأولى، والحسد قرين هذا الإدراك. ندرك ذواتنا، فندرك وجود الآخرين واختلافاتهم عنا.

تتكرر كلمة «الحسد» في مجتمعنا العربي، بطرق تختلف باختلاف التعامل معه. فهناك من يرى الحسد محض خرافة منشؤها الجهل وتَضخُّم الذات، بينما يؤكد آخرون وجود الحسد، إما عن تجربة شخصية، وإما عن قناعة دينية.

تُحدثنا «سارا بروتاسي»، الأستاذ المساعد بقسم الفلسفة بجامعة «Puget sound» في ولاية واشنطن، بمقال لها في موقع «Aeon» عن الحسد من وجهة نظر فلسفية، بأنه الجانب المظلم للحب، بينما الحب هو جانبه المُضيء.

تتحدث سارا باستفاضة عن شعور إنساني يخجل الناس من الاعتراف باختبارهم إياه، وبخاصة إذا ارتبط بمشاعر حقد أو ضغينة.

يربط الناس تلقائيًّا بين الحسد والكراهية، لأن تمنِّي زوال نعمة الغير فعل شرير، بينما تؤكد سارا أن الحسد شعور إنساني ينشأ ويزدهر في نفس الظروف التي ينشأ ويزدهر فيها الحب. وتأخذنا الكاتبة في رحلة تستعرض خلالها آراء الفلاسفة وعمالقة الأدب في مفهوم الحسد، وتُشركنا أيضًا في تجاربها الشخصية معه، والتي دفعتها إلى التعمق في هذا المفهوم لمحاولة تفسيره.

الحسد اللاواعي

اللوحة: Tom Roberts

تعود سارا إلى مرحلة المراهقة وتحكي عن صديقتها في المرحلة الثانوية، الطويلة ذات القوام النحيل والشعر الأسود الداكن.

أحبَّا بعضهما للغاية، وتشاركا كثيرًا من التجارب الإنسانية، لكن هذا الحب لم يخلُ من الحسد من جانب الكاتبة: «حسدتها على ما ظننت أنها تفوقت علي به: جمالها وثقتها بنفسها والكيفية التي اجتازت بها مصاعب هذا العالم القاسي  (...) كنت أستعير تنورتها، ثم أقول لها، دون أن أعي ومن دون قصد لجرح مشاعرها، إن الآخرين انتقدوا هذه التنورة، ووصفوا من ترتديها بالعاهرة».

تساءلت الكاتبة عما إذا كانت صديقتها حسدتها أيضًا على والديها المتساهلين وتربيتهما المميزة لها، وإنجازاتها المدرسية. لكن الأكيد أنها شعرت بأن صديقتها استقبلت هذه الطاقة من جانبها، ولم تناقشها فيها. افترقت الصديقتان بعد انتهاء المرحلة الثانوية دون إبداء أسباب، وحزنت الكاتبة على هذه الخسارة.

الحسد كوصمة عار

اللوحة: Bronzino

تمتلئ «أعمدة المشورة» بالجرائد والمجلات، بقصص عن العلاقات السامة من هذا النوع. وغالبًا ما تُطلب أو تؤخذ المشورة من شخص لديه مناعة ضد الحسد. دائمًا ما يلوم الشاكي الطرف الآخر في العلاقة، لكنه لا يلوم نفسه أبدًا.

ترى الكاتبة أن وصمة العار الأخلاقية والاجتماعية التي تحيط بهذا الشعور، تجعل من الصعب على أيٍّ منا أن يعترف بشعوره بالحسد تجاه الآخر، وبخاصة إذا ارتبط هذا الشعور بمشاعر حقد أو ضغينة. الأهم إن وُجِّه إلى من نُحب».

الشركاء العاطفيين يمكنهم أن يشعروا بالحسد تجاه بعضهم، خاصة إذا تمتعا بعلاقة متكافئة.

أول جريمة قتل ذُكرت في الكتاب المقدس، كانت بسبب الحسد، عندما قتل قابيل أخاه هابيل لأنه شعر بالغيرة لتقبُّل الله قربان هابيل ورفضه قربانه. وذُكرت القصة أيضًا في القرآن الكريم.

تملك قصص قتل الأشقاء بعضهم بسبب الحسد أو الغيرة قدرًا كبيرًا من الأصالة والتجذُّر، جعلها تنتشر في كثير من الأساطير والأمثال والقصص والكتب المقدسة. على سبيل المثال: أسطورتا «رومولوس وريموس» و«ثيستوس وأتريوس»، وقصة «يوسف وأخوتِه». بكل تأكيد، نادرًا ما يتطور الأمر إلى هذا الحد في عالمنا الحقيقي.

تنتشر ظاهرة تنافس الأشقاء بين الأولاد والبنات، ولا تتأثر في كثير من الأحيان بمجهودات الأبوين للسيطرة عليها. فالغيرة والحسد أكثر ما يميز علاقة الأشقاء ببعضهم رغم وجود الحب. الأمر يماثل ما يحدث مع أصدقائنا المقربين، فعاطفتنا تجاههم وتقديرنا لصفاتهم الشخصية وتشاركنا لأصل واحد أو ثقافة واحدة أو نشاطات مفضلة، من الممكن أن يزيد، لا أن يُقلل، من شعورنا بالحسد تجاههم.

الشركاء العاطفيين يمكنهم أيضًا أن يشعروا بالحسد تجاه بعضهم، وبخاصة إذا تمتعا بعلاقة متكافئة، إضافة إلى مصادفتها لكثير من حالات التنافس في مجال العمل بين الأزواج، وأحيانًا يكون التنافس على نفس الوظيفة، ما يُصعِّب من مهمة الشريك الأقل نجاحًا في أن يبقى داعمًا لشريكه الأكثر نجاحًا.

بحسب الكاتبة، فإن أحد أعظم المحظورات هو ظاهرة الحسد بين الوالدين وأبنائهما، والتي لم يجرؤ على تحليلها والتعمق فيها دون خجل وعلى نطاق واسع إلا علم النفس، مع تأكيده على أنها مشاعر غير واعية أو مقصودة، وكذلك الأدب الذي تناولها بصورة أقل مباشرة من خلف ستار الخيال.

قد يهمك أيضًا: كيف ساوى الحسد بين قبائل «البوشمن» في ناميبيا؟

الحسد بعيون «جيوتو دي بوندوني»

اللوحة: Giotto di Bondone

تختلف الكاتبة مع مقولة «القديس بول» الشهيرة: «الحب لا يعرف الحسد»، وتؤكد على استحالة وجود الحب من دونه. فهي بخلاف القديس، تحلل المشاعر الإنسانية المركبة، وترسم لنا صورة دقيقة لها، وليست صورة لما يجب أن تكون عليه.

لعل أبرز الأعمال الفنية التي جسدت التناقض بين الحب والحسد، لوحة من فن «الفريسكو» (الرسم على الجبس اللين باستخدام الألوان المائية) رسمها الرسام والمعماري الإيطالي «جيوتو دي بوندوني» في عصر النهضة، وتوجد في كنيسة «سكروفيني» بمدينة بادوفا الإيطالية.

تعرض اللوحة سبع فضائل يقابلها سبع خطايا، يظهر الحسد خطيئة أساسية تقابلها فضيلة التصدق أو الإحسان، وهي واحدة من الفضائل اللاهوتية الثلاثة.

يُصوَّر الحسد مجازًا في هيئة امرة شيطانية لها قرون، يخرج ثعبان من فمها ليعميها، كناية عن «عين الشيطان» التي يؤمن كثير من الناس من مختلف الثقافات بقدرتها على إلحاق الأذى بالآخرين. لديها أيضًا أذنان كبيرتان، إذ إن الأشخاص الحسودين دائمًا فضوليون ومنتبهون لنعمة الغير. وتحمل هذه المرأة كل متعلقاتها بيدٍ واحدة، أما يدها الثانية، فعلى هيئة خطاف مستعد لسرقة كل ما ينقصها ممن تحسدهم.

المرأة الأخرى، التي تمثِّل الإحسان، لا تبالي بكل أكياس المال الملقاة تحت قدميها. تحمل بإحدى يديها سلة بها فاكهة وحبوب، وباليد الأخرى تقدم قلبها قربانًا للإله.

الحسد من وجهة نظر فلسفية، «كانط» مثالًا

اللوحة: Edvard Munch

نظرة الدين للحسد سلبية في مجملها. فهو يعني الانشغال بالآخر، والنظر إلى ما لديه وما يتميَّز به، وفي هذا انشغال عن النفس. لهذا تتفق غالبية الأديان على نبذ الحسد وتقبُّل الحب دون إجابة لسؤال: هل هذا ممكن إنسانيًّا؟

الرغبة في الحصول على الاحترام الاجتماعي مؤسسة في نزعة الفرد إلى مقارنة نفسه بالآخرين.

في مقال للفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط»، بعنوان «فكرة من أجل التاريخ العالمي لهدف عالمي» يقارن كانط بين شعورين إنسانيين متداخلين، الأول: أن البشر حيوانات اجتماعية مدفوعة بنزعة إنسانية نحو الخير والتعاطف، تُمكِّنهم من التضحية بأنفسهم من أجل الآخر. والثاني: هم أيضًا مدفوعون بالتنافس والحقد، وقادرون على ارتكاب أبغض الأعمال وأبشعها.

أطلق كانط على الميول البشرية الموجودة جنبًا إلى جنب، لقب «المؤانسة اللااجتماعية»، وشرع هو وفلاسفة معاصرون آخرون، أمثال «توماس هوبز» و«جان جاك روسو»، في شرح الكيفية التي تعمل بها.

وفقًا لما ذكره هوبز في كتابه «Leviathan»، فإن البشر يجدون متعة كبيرة في كل ما هو مرموق. يريدون أن يعترف أقرانهم بأنهم جديرون بالاحترام والتقدير، وأن يُكرَّموا ويُنظر إليهم بعين الاعتبار. لكنهم وسط كل هذا يغيب عنهم أن الشرف موضعي بشكل حتمي.

فإذا كُرِّمنا جميعًا، تفقد فكرة التكريم قيمتها أصلًا. التكريم والمكانة يتطلبان تصنيفُا ومقارنة، فالرغبة في الحصول على الاحترام الاجتماعي مؤسسة في نزعة الفرد إلى مقارنة نفسه بالآخرين.

الرغبة أساس «المؤانسة اللااجتماعية». وهو هنا يعني أننا لكي نتقدم ونحوز أشياء أكثر وأهم، فإننا نحمل رغبة بداخلنا في أن يتأخر عنا آخرون، ويفقدوا أشياء يرونها قيِّمة، نحصل نحن عليها.

أما جان جاك روسو، فإنه يناقش العلاقة المتناقضة بين الحب والحسد، في الجزء الثاني من كتابه «خطاب في اللامساواة»، إذ يقول: «اعتاد الرجال النظر عن قرب، إلى كل ما يرغبون فيه، وأن يعقدوا مقارنات من نوع: مَن رقص أو غنى بشكل أفضل؟ مَن كان الأقوى أو الأكثر وسامة أو الأكثر براعة أو الأكثر بلاغة؟ وفي أي الحالات السابقة يكون الفائز هو الأجدر بالاحترام؟ هذه هي الخطوة الأولى نحو اللا مساواة، وفي الوقت ذاته نحو الرذيلة، لتنتج خليطًا مُهلِكًا للبراءة والسعادة».

تشعر الكاتبة بأن وصف روسو يُلائم بدقة مرحلة الدراسة الثانوية، حين يتوق الناس إلى أن يثبت كلٌّ منهم في مجموعته أنه الأكثر ثباتًا ووقاحة، وفي المقابل ينجذبون للأشخاص الرائعين، ولا يُدركون حقيقة أن الأكثر شعبية أو من ينال أكبر قدر ممكن من الحب في مجموعته، هو الأكثر تعرضًا للحسد.

لا حب يخلو من الحسد، ولا حسد دون المساواة

ينشأ الحسد عندما نتصور أننا أقل شأنًا من شخصٍ آخر، وفقط في نطاق يؤثر في مفهومنا عن ذواتنا في ما يتعلق بشيء نهتم به.

تعمق أرسطو في تحليل هذه الظاهرة، بكتابه «الخطابة». ولاحظ أننا غالبًا ما نشعر بالحسد تجاه من يتساوى معنا في مكان الميلاد والسن والعلاقات والطبيعة الشخصية والوجاهة الاجتماعية، وأخيرًا الثروة. ويستكمل شرحه قائلًا: «إضافة إلى أننا نشعر بالحسد تجاه من تكون نجاحاتهم بمثابة توبيخ لنا، وهؤلاء الناس هم جيراننا، ونظراؤنا، الذين يوضحون دون قصد منهم أن الخطأ كله يقع على عاتقنا بخصوص أننا لم نحقق مرادنا مثلما فعلوا».

سبق أرسطو علم النفس الاجتماعي المعاصر في الوصول إلى هذا الاستنتاج، وهو أن «الحسد لا يمكن أن ينشأ بين شخصين في حال غياب عنصر المساواة أو التكافؤ بينهما». فمقارنتنا لأنفسنا بالآخرين تُمكِّننا من معرفة إن كنا موهوبين أو أصحاب مظهر جميل أو ناجحين، ولكن لتُسفر هذه المقارنات عن نتائج مُرضية ومعلومات قيمة يجب ألا تكون بين شيئين أو شخصين غير متكافئين.

تضرب الكاتبة مثالًا على هذا فتقول: «لكي أعرف إن كنت سباحًا ماهرًا أم لا، يجب عليَّ أن أقارن نفسي بسباحين آخرين، وليس بلاعبي التنس. إضافة على ذلك، يجب أن أقارن نفسي بسباحين في سني تقريبًا، ومن نفس الجنس، وفي نفس مستوى المهارة، وإلا ستكون المقارنة غير دقيقة».

هكذا ينشأ الحسد عندما نتصور أننا أقل شأنًا من شخصٍ آخر، وفقط في نطاق يؤثر في مفهومنا عن ذواتنا في ما يتعلق بشيء نهتم به.

الحسد شعور مركب أكثر مما نتصور

«المساواة والتماثل يخلقان الوئام»، هذا ما يؤكده أرسطو في «الأخلاق النيقوماخية»، والتي يفسح فيها المجال لقدر كبير من النقاش حول مدى تأثير التماثل في الصداقة أو الحب الأخوي، أو كما يسميه اليونانيون «Philia»، وهو مصطلح يشمل في نطاقه الواسع عددًا من علاقات الحب المعاصرة، مثل العلاقة بين الأزواج، وبين الآباء والأبناء.

لكن اتضح في ما بعد أن أنواع المساواة والتماثل نفسها التي تدعم الصداقة، هي ذاتها التي تدعم الحسد.

الحسد الشيطاني هو الذي دفع قابيل إلى قتل أخاه هابيل. على الجانب الآخر، الحسد الذي ينشأ بين الرياضيين قائم على المنافسة الطبيعية التي تجعلنا نتطوَّر.

تقول الكاتبة، إن راقصة البالية غير المحترفة لن تشعر بالحسد تجاه راقصة بالية محترفة، مثل «ميستي كوبلاند». بل بالعكس، لن تحمل لها سوى مشاعر الإعجاب والاحترام. لكن عندما يتعلق الأمر براقصة هاوية مثلها تحضر معها نفس دروس الرقص، وترقص بخفة ورشاقة أكثر منها. هنا فقط يولد الحسد.

لا يعني هذا أن الفتاتين في حالة أنهما صديقتان، لا يذهبان إلى الأوبرا معًا، أو يتشاركا مقاطع الفيديو المفضلة لديهما على يوتيوب، أو يأخذا بنصائح بعضهما عندما يتعلق الأمر بإتقان رقص الباليه. لكن في كل مرة يبتهجان فيها بالصحبة، وفي كل مرة يتشاركان فيها نشاطًا محببًا، تتاح الفرصة في الوقت ذاته للحسد كي يطل بوجهه.

الأوجه المختلفة للحسد

اللوحة: William-Adolphe Bouguereau

لكن هل الأمر دائمًا بهذا السوء؟ بالطبع يمكن للحسد أن يُسمم كثيرًا من العلاقات الإنسانية إلى حد إنهائها. غير أن فلاسفة معاصرين يذكروننا بوجود عدد من أنواع الحسد، التي تختلف من حيث هيكلها النفسي الداخلي ومظاهرها السلوكية وقيمتها الأخلاقية.

«الحسد التنافسي» لا يتمنى زوال محاسن الآخرين، لكن ينظر إليهم كمثل أعلى يمكن أن يصل إليه الشخص في حال طور من قدراته.

النوع الذي جسده «جيوتو دي بوندوني» في لوحته حسد شيطاني، وهو الذي دفع قابيل إلى قتل أخاه هابيل. على الجانب الآخر، نجد أن الحسد الذي ينشأ بين الرياضيين مثلًا، والعاملين في نفس المكان، والقائم على المنافسة الطبيعية التي تجعلنا ببساطة، نتطوَّر، ويجعل كلًّا منا يحاول أن يزيد من قدراته وأساليبه، ويتبنى استراتيجيات جديدة في اللعب أو التفكير أو الممارسة.

هناك دليل قائم على الملاحظة بخصوص بعض أنواع الحسد، التي يعتقد بعض الباحثين أنها أكثر فعالية في تحفيز كثيرٍ من الناس على تطوير ذواتهم، من مشاعر أخرى كالإعجاب والاحترام.

تعتقد الكاتبة أن النوع الوحيد من الحسد الذي تراه لائقًا، وربما مفيدًا في العلاقات الإنسانية، هو «الحسد التنافسي». يحفز هذا النوع من الحسد ثقة الحاسد بقدرته على الحصول على الجيد الذي يمتلكه الخصم، أو المنافس. الشخص الذي يتملكه هذا النوع من الحسد لا يتمنى زوال محاسن الآخرين القيِّمة أو صفاتهم، لكن ينظر إليهم كمثل أعلى أو كمثال على ما يمكن أن يصل إليه من نجاحات في حال طور من قدراته.

يمكننا أن نُطلق على هذا الشعور المركب اسم «الحسد التطلعي» أو «الحسد المتفائل»، لأنه يؤمن بقدرة الإنسان على تحقيق الأفضل.

بالطبع يختلف الحسد التنافسي عن الإعجاب، ووضح الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركغارد» الفارق بينهما في جملة موجزة وحادة تضمنها كتابه «المرض طريق الموات»، فقال: «الإعجاب استسلام سعيد للذات. أما الحسد، فهو تأكيد غير سعيد للذات». الإعجاب في النهاية شعور سعيد أقرب إلى الدهشة. فإعجابنا بشخص ما يتماثل مع إعجابنا بمنظر طبيعي. في كلتا الحالتين، نجد في أنفسنا الرغبة في حماية ما نُعجب به عوضًا عن الرغبة في أن نكونه.

الإعجاب شعور يجعلنا في حالة أفضل. فهو لا يتضمن أي أحكام مبنية على المقارنات. مع ذلك، لا يمكننا أن نرى الإعجاب البديل الأكثر نبلًا للحسد التنافسي، فهو لا ينشأ في نفس ظروف المساواة والتماثل التي ينشأ فيها الحسد، ولا يدفع الإنسان إلى أن يكون على قدم سواء مع منافسه.

هل يساعدنا الأدب دائمًا في فهم ظواهر مماثلة وتحليلها؟

تجيب الكاتبة عن هذا السؤال قائلة: «الأدب هو المكان الذي تُكشَف فيه حقائق الطبيعة البشرية دون تفسير. وكفيلسوفة أنا ممتنة لذلك، لأن أدواتنا التحليلية في بعض الأوقات، تفشل في تفسير بعض الظواهر، وكل ما نتمكن من فعله حينذاك أن نشير إليها».

نعم، الحسد قد يجعل حياتك أفضل

اللوحة: Lawrence Alma-Tadema

عند قراءتك رواية «صديقتي المذهلة» للكاتبة الإيطالية «إيلا فرانتي»، لا يسعك سوى أن تتساءل: كيف يمكن للحسد التنافسي أن يُعزِّز ويقوِّي الصداقة بين شخصين، بل ويجعلها تنجو وتشفى من الجراح التي تخلفها أنواع الحسد الأكثر ضررًا؟

تحكي الرواية عن «ليلا» و«لينو»، وهما امرأتان استثنائيتان نشأتا في حي فقير في مدينة نابولي بإيطاليا.

لينو هي الراوية في القصة، ودائمًا ما تتحدث عن حسدها ليلا، وحسد ليلا لها. يحيرنا عنوان الرواية حتى النهاية، لأننا نعتقد من كلام لينو عن صديقتها، وعن سردها طوال الوقت لمحاسنها، أن ليلا الأكثر تميزًا، إذ تخطت الفقر والفقدان والأذى النفسي والمعنوي من كل نوع. لكن مع تطور القصة، نكتشف أن ليلا نفسها تعتقد أن لينو التي أصبحت كاتبة مشهورة، هي الصديقة المذهلة.

بنهاية الرواية، يتضح للقارئ أن «الصديقة المذهلة» هي كلتا المرأتين، ما يجعل الرواية مشوقة، ويجعل صداقتهما شديدة المرونة رغم التحديات والخلافات الكثيرة التي واجهتها هذه الصداقة.

الحسد الذي نشأ بين الصديقتين يحفزهما بصورة مستمرة على أن يصبحا في حال أفضل، وأن يكونا أكثر قوة وسعادة. فقد تنافستا طوال حياتهما في المجالين المهني والعاطفي، وكانت المنافسة بينهما ضمنية، أي غير مكشوفة أو مباشرة. لكنها كانت عنيفة، وفي بعض الأحيان انتقامية ودنيئة. لكن الأكيد أنه لولا وجودهما معًا، ما كانت لتصل أيٌّ منهما إلى ما هي عليه الآن.

الحل؟ كن حكيمًا في محبتك

كيف استطاعت الصديقتان الحفاظ على علاقتهما؟ الحل وفقًا للكاتبة، يكمن في المحبة الحكيمة. فالمحبة الحكيمة تشتمل على عدد من المشاعر الطيبة، مثل التعاطف والانعكاس الحيادي أو غير المنحاز للذات. تشتمل أيضًا على مشاعر الحسد التي تنشأ بداخلنا تجاه من نحب، لكن بطريقة بناءة، وليست مدمرة.

تقع على عاتق المحبة الحكيمة مهمة حماية العلاقات التي تسودها المحبة، لكن يظهر فيها الحسد.

ينطوي هذا الالتزام على تشجيع الطرفين على الرغبة في التنافس. بل والحسد. إذ يتيح الحسد فرصة ازدهار طرفي العلاقة.

ففي حالة الحسد التنافسي، تغتنم المحبة الحكيمة مشاعر التنافس بين الطرفين، كفرصة لازدهار مشترك وأصيل، وفرصة للحصول على دعم الطرف الآخر.

مشاعر الحب بين لينو وليلا تندرج تحت مشاعر «الحب الأخوي» (Philia) التي تحدثنا عنها. لكن هناك أشكالًا عدة للحب تستلزم طرقًا مختلفة للتعامل مع الحسد.

على سبيل المثال، يُفترض أن يكون الآباء قدوة لأبنائهم، لذلك عليهم تبنِّي سلوك تربوي واضح للتعامل مع حسد الأبناء. أما الأبناء، فيجدر بهم تبني سلوك متسامح ومتعاطف تجاه غيرة آبائهم، التي قد تظهر في حالة نجاح الابن وقدرته على تجاوز ما حققه الآباء.

بمجرد أن نتقبل فكرة أن الحسد هو الجانب المظلم للحب، سندرك أن الحب هو جانبه المضيء.

استراتيجيات التعامل مع الحسد يجب أن تُصمَم خصيصًا لكل علاقة، ويجب على الناس أن يعتمدوا في حل مشكلاتهم على كل الطرق التي تمكنهم من تجاوزه، ومن ثمَّ توظيفه. سواء كان هذا عن طريق العلاج النفسي، أو حتى الفلسفة.

يهدد الحسد علاقاتنا القائمة على المحبة، ويجعل النسيج الهش الذي خُلق منه الحب يتآكل عندما يكون مُدمرًا وحقودًا. لكن في النهاية، لا نستطيع أن ننكر أن ارتباط بعض أنواع الحب شرطيًّا بالحسد، وتعايشهما معًا نتيجة رسوخهما العميق في الطبيعة البشرية.

بمجرد أن نتقبل فكرة أن الحسد هو الجانب المظلم للحب، سندرك أن الحب هو جانبه المضيء. ولن يقتصر دور المحبة الحكيمة على جعلنا نتسامح مع الحسد القائم على المنافسة، بل ستسهم في ازدهار الحب الذي نشعر به تجاه بعضنا.

مواضيع مشابهة