في الانحيازات الكروية لا تُقدَّم الأسباب الموضوعية لتشجيع فريق ما أو الافتتان بلاعبٍ على الاعتبارات الأخرى التي قد تكون غير عقلانية تمامًا. وإذا كان انحيازك لصالح منتخب الأسود الثلاثة، فالأسباب العقلانية تتضاءل حتى توشك على الاختفاء.
لذلك أستهِل الحديث معترفًا بأنني لا أعرف لماذا أحب منتخب إنجلترا. كل محاولات عقلنة تعلقي بهذا الفريق لا يمكن لها أن تصمد دقيقة واحدة في مواجهة أي مشاهدة لأغلب مبارياته في المنافسات الرسمية.
أتذكر على كل حال أن الافتتان بدأ وأنا طفل أتابع كأس العالم لأول مرة في إيطاليا 1990، وهو أمر أكثر إثارة للغرابة. فهذا الجيل من اللاعبين في تقدير بعضهم آخر أجيال الأسود الثلاثة ارتباطًا بالكرة الإنجليزية العتيقة التي تعتمد على الركلات الطولية، وتحتفظ بالكرة على الأرض لأقل وقت ممكن.
لم يكن جذابًا على الإطلاق، وإن كان أكثر فعالية من كل الأجيال التي لحقته على الأقل في منافسات كأس العالم (هو آخر فريق وصل إلى نصف نهائي كأس العالم، على الأقل في منتخبات الرجال، فمنتخب إنجلترا للسيدات اعتاد الوصول إلى نصف النهائي في منافساته الدولية).
بخلاف ذلك، فقد جاء خروج مصر (بلدي) رسميًّا بعد هزيمة بهدف مقابل لا شيء أمام إنجلترا في مباراة للنسيان. وهو الفريق الذي قلب الطاولة على منتخب الكاميرون في ربع النهائي، وحرمه من التأهل في اللحظات الأخيرة (يميل قطاع كبير من مشجعي الكرة في مصر إلى تفسير تلك النتيجة تفسيرًا تآمريًّا).
وقتها، وقبل صعود «البريمير ليغ»، كانت علاقة مشجعي الكرة في مصر بالكرة الإنجليزية مختلفة كلية.
أتذكر أنه في يورو 1992، وقد صار انحيازي في الكرة الأوروبية على الأقل صريحًا لصالح منتخب إنجلترا، كان الجيل الأكبر من الأقارب دائم التذكير بالحقيقة التاريخية أن إنجلترا هي المستعمر القديم، والتي يصير معها حبي للفريق أمرًا شاذّا (اختفت هذه الصفة من خطاب مشجعي الكرة في مصر الآن، ولم يعد تشجيع المنتخب الإنجليزي بهذه الغرابة على الأقل في ما يتعلق بالاعتبارات السياسية. اليوم هو فقط أمر غريب لاعتبارات كروية بحتة).
على الأقل أعرف أن أسباب ميلي وقتذاك كان من ضمنها افتتاني بأربعة لاعبين من فريق «بوبي روبسون»: «غاري لينكر» هداف نسخة 1986 من كأس العالم، و«ديفيد بلات»، و«بول غاسكوين»، و«بيتر شيلتون» حارس المرمى.
كانت أمي دائمًا ما تذكر حبي الشديد لبيتر شيلتون أمام أصدقاء الأسرة كإحدى طرائف طفولتي. بالفعل هو أمر شديد الغرابة، فما الذي يدفع طفلًا للإعجاب بحارس مرمى، وتحديدًا بيتر شيلتون؟
لكن العاطفة كانت قد ترسخت بالفعل. سنتجاوز محطات مؤلمة وغير مهمة على الإطلاق في تاريخ الفريق الإنجليزي (منتخب «غراهام تايلور» الغريب، والخروج المبكر من يورو 92، ثم الفشل في التأهل لكأس العالم 1994) لنصل إلى المحطة الأهم في التاريخ المعاصر لمشجعي منتخب إنجلترا: يورو 96.
من الذي لا يحب غازا؟
نظرة واحدة إلى «بول غاسكوين» وهو يجري في الملعب برشاقة لا تتناسب مع وزنه الثقيل، يمكن أن تختصر المشاعر المتناقضة التي عانى منها المدربون إزاءه.
يورو 96 كانت أول بطولة كبيرة تقام على أرض إنجلترا منذ زمن طويل. قبل البطولة تولى «تيري فينابلز» مهمة تدريب الفريق الإنجليزي. لعب المنتخب تحت قيادة فينابلز كرة على قدر لا بأس به من الجاذبية كما يليق بمدرب أدار فريق برشلونة يومًا ما.
كان لدى فينابلز من الخيارات في الخطوط الأمامية كثير من المواهب: «بول غاسكوين»، و«ستيف ماكمانامان»، وهما من أمهر من لمس الكرة في الجزر البريطانية. «دارين أندرتون» و«بول إنس» والمخضرم «ديفيد بلات» كبديل، أمامهم «آلان شيرر» (أعظم مهاجم رقم 9 حظيت به إنجلترا حتى اليوم)، و«تيدي شيرينغهام»، وراءهم في الدفاع «ستيوارت بيرس» و«توني آدامز» منتظمين في 4-4-2 إنجليزية كلاسيكية.
يمكن الحديث باستفاضة عن كل عنصر من هذا الفريق. غاسكوين، الشهير بـ«غازا»، المشاكس الذي عشقته الجماهير الإنجليزية عندما بكى في كأس العالم 90 بسبب حصوله على إنذارين أضاعا عليه فرصة المشاركة في آخر مباراة لإنجلترا كان من الممكن أن تكون في نهائي الكأس.
كان غازا من القلائل في تاريخ هذا الفريق الذين امتلكوا القدرة على المراوغة واللعب الممتع. مهرج غير منضبط داخل الملعب وخارجه كان بمثابة صداع مستمر للمدربين طوال فترة احترافه، وتحولت مشكلات عدم انضباطه إلى مشكلة إدمان كحول لا تنتهي حتى يومنا هذا، وأوشكت على إنهاء حياته أكثر من مرة.
نظرة واحدة إلى غاسكوين وهو يجري في الملعب بسرعة ورشاقة لا تتناسب مع وزنه الثقيل، يمكن أن تختصر كثيرًا من الكلام عن المشاعر المتناقضة التي عانى منها المدربون إزاءه.
هناك قصة شهيرة يمكن أن تلخص شخصية بول غاسكوين: في أثناء التحضير لأوروبا 96، التقطت صورة لغاسكوين وزملائه في هونغ كونغ بعد مباراة ودية وهم يشربون الكحول ويلعبون إحدى ألعاب السُّكْر الشهيرة في إنجلترا تسمى «مقعد طبيب الأسنان» (إذ يفتح أحدهم فم المتلقي كأنه جالس على مقعد طبيب الأسنان، ثم يسكبون المشروبات في فمه مباشرة. سيجرم القانون الإنجليزي لاحقا ممارسة هذه اللعبة في البارات).
كادت هذه الفضيحة تهدد مقاعد بعض اللاعبين في البطولة. لكن غاسكوين بعدم اكتراثه المعتاد، وبعد إحراز هدفه التاريخي ضد أسكتلندا الذي قد يكون أجمل هدف سجله لاعب إنجليزي في منافسة دولية، احتفل عن طريق محاكاة للواقعة مستلقيًا على أرض الملعب في وضع كرسي طبيب الأسنان، في حين سكب زملاؤه مشروب الطاقة سيئ الطعم «لوكوزيد» في فمه، في لقطة سيريالية.
كيف أنسى هذا الهدف الذي أسعدني الحظ بمشاهدته على الهواء مباشرة في عصر المشاهدة المجانية؟ وكيف أنسى أفضل أداء جماعي لمنتخب إنجلترا في المباراة التي تلت مواجهة أسكتلندا، عندما فازت إنجلترا بأربعة أهداف مقابل هدف واحد على فريق هولندا.
وصل هذا الجيل إلى نصف النهائي، وواجه الألمان، وكان على وشك التغلب عليهم لولا فرصة ضائعة غير متوقعة من غاسكوين انتهت بالفريقين إلى ضربات الجزاء التي تفوَّق فيها الألمان كما جرت العادة. ومن بعد ذلك لم تتجاوز إنجلترا ربع النهائي (إن وصلت إليه) في أي بطولة.
ما بعد حقبة فينابلز
اتسمت سنوات «إريكسن» بالاستقرار الشديد، ورأى بعض المشجعين أنه صنع للفريق شخصية، وأنه أفضل من دَرَّب الإنجليز.. أما أنا، فلم أحبه.
ثاني أكثر فريق أحببته للإنجليز كان فريق «غلين هودل» الذي لعب في كأس العالم 98 في أول ظهور لـ«ديفيد بيكهام» و«مايكل أوين».
خرج مبكرًا في الدور الثاني أمام الأرجنتين بشكل درامي، لكنه قدم مباراة من أقوى مباريات الأسود الثلاثة في كأس العالم، ولم يحالفه الحظ في ضربات الترجيح بعد التعادل 2-2 في الوقت الأصلي. غير أننا نتذكر من هذه المباراة هدف مايكل أوين الخيالي، والذي تفوَّق عليه فقط في الخيال هدف «بيركامب» ضد الأرجنتين في ربع النهائي.
كنت أحب الكرة التي يلعبها هودل جدًّا، ولكنه لم يستمر مع الفريق الإنجليزي أكثر من ستة أشهر بعد المونديال، فقد أنهى الاتحاد الإنجليزي التعاقد معه بسبب تعبيره في الإعلام عن قناعات دينية غريبة تضمنت تجاوزات في حق أصحاب الاحتياجات الخاصة أثارت كثيرًا من السخط الشعبي ضده.
بعد تجربة «كيفن كيغان» في الفشل الذريع في يورو 2000، تولى إدارة الفريق الإنجليزي مدرب أجنبي للمرة الأولى في تاريخه عام 2001.
اتسمت سنوات السويدي «سفين غوران إريكسن» بالاستقرار الشديد مع «الجيل الذهبي» لإنجلترا الذي احترف الوصول إلى ربع النهائي في أي بطولة والخروج منها فورًا.
يرى بعض مشجعي إنجلترا أن إريكسن صنع للفريق شخصية، وأنه أفضل من دَرَّب الإنجليز، ولكن جانبه التوفيق فقط. أما أنا، فلم أحبه. كبداية، لم أسامحه على عدم إشراك ماكمانامان المتألق مع مدريد في 2002.
لعب إريكسن كرة مملة ومتحفظة لم تنجح في استغلال إمكانيات لاعبين من عينة «ستيفن جيرارد» و«لامبارد» و«بيكهام» و«أشلي كول» و«روني» وهم في قمة مستواهم، وكان مشواره دائمًا ما ينتهي عند أول تحدٍّ لاتيني أو متوسطي يأتيه في ربع النهائي (عادة ما يكون متمثلًا في شكل البرتغال).
في ذاكرتي أشعر بأن هذه الفترة طالت لعقود، وأنني شاهدت «كريستيانو رونالدو» وهو يسدد ضربة الجزاء التي تقضي على أحلام الإنجليز المتواضعة 114 مرة على الأقل. لكن في حقيقة الأمر تولى إريكسن إدارة الفريق في ثلاث بطولات (مونديال 2002 و2006 ويورو 2004) وخرج أمام البرتغال مرتين.
لا أحمل أي ذكرى محببة من تلك الحقبة إلا هدف «جو كول»، خليفة ماكمانامان على جبهة اليسار الذي لم تُكتَب له الاستمرارية، من تسديدة صاروخية في مرمى السويد.
2008-2018: الطموح مضر جدًّا بالصحة
اليوم تتمتع إنجلترا بفريق شاب غير مكبل بأعباء وضغوط الجيل الذهبي الذي كان منتظَرًا منه الوصول إلى الأدوار النهائية في أي بطولة يلعبها.
في الوقت الذي زادت فيه جماهيرية الفريق الإنجليزي بشكل ملحوظ في العالم العربي، تحديدًا بسبب هؤلاء النجوم المذكورين أعلاه، بدأ الفريق الإنجليزي في التصالح مع هويته الجديدة: الفريق الفقاعي.
فشل الفريق في التأهل ليورو 2008 تحت إدارة «ماكلارين». حقق الفريق مزيدًا من اللاشيء تحت إدارة الإيطالي «فابيو كابيلو» في مونديال 2010، ثم تحت إدارة «روي هودسون» بين يورو 2012 ويورو 2016. قبل كأس العالم 2014 صرح هودسون بأن فريقه يستطيع الفوز بكأس العالم، فخرجت إنجلترا من الدور الأول لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن. لم يرحل صاحب الأداء الباهت إلا بعد أن خرج من يورو 2016 أمام فريق آيسلندا المكون بالأساس من مجموعة من أطباء الأسنان ومخرجي الإعلانات غير المتفرغين.
اليوم تتمتع إنجلترا بفريق شاب غير مكبل بأعباء وضغوط الجيل الذهبي الذي كان منتظَرًا منه الوصول إلى الأدوار النهائية في أي بطولة يلعبها، ويتفاءل بعض المحللين بذلك. ولكن الأفضل دائمًا هو عدم التفاؤل.
جزء كبير من الفريق شارك في المشوار المحرِج في بطولة اليورو 2016. أما عن المدرب «ساوثغيت»، فيُحسَب له على الأقل أنه لا يكلف «هاري كين» بلعب الركنيات كما كان يفعل هودسون، وهي جريمة لا يمكن أن يرتكبها إلا مدرب لا يشاهد مباريات الدوري الإنجليزي.
ساوثغيت مدرب قليل الخبرة قدم مشوارًا جيدًا في التصفيات مع مجموعة من فرق أوروبا الشرقية التي لم تكن تشكل أي تهديد حقيقي على فرص تأهل الإنجليز.
يقود الفريق هاري كين الذي أصبح من أحسن مهاجمي العالم. أطمئن بقيادة كين لخط الهجوم، على الرغم من أنه يتمتع بتسريحة شعر وكاريزما محصل تذاكر في السكك الحديد (يذكرني حضوره بتاريخ طويل من الانسحاق الإنجليزي أمام اللاتينيين). لم ينس المدير الفني بالطبع اصطحاب «داني ويلبك». أجزم أن المدربين الإنجليز يتعاملون معه كتميمة حظ لا أكثر.
أما أنا كمتفرج، فأعول بشكل كبير على «ديلي ألي» زميل كين في توتنهام، وعلى مهاجم يونايتد «ماركوس راشفورد»، فلديهما من روح المغامرة ما قد يصنع الفارق عندما تصطدم إنجلترا بالعقبة المعتادة في الدور الثاني لتواجه مصيرها المحتوم.