كرة القدم، تلك اللعبة التي تجري في عروق الإنجليز، يتنفسونها ويعيشون من أجلها، كانت ممارستها يومًا محل غضب واستياء من المجتمع الإنجليزي.
كان العام 1914، وأوروبا تشتعل بحرب شعواء أُطلق عليها لاحقًا «الحرب العالمية الأولى». الدولة بأكملها تنشغل بالحرب، لكن لاعبي كرة القدم المحترفين والهواة لا يزالون بعيدًا عن تلك الأحداث، يخوضون معاركهم الخاصة على أرض الملعب، ويتنافسون في ما بينهم على الألقاب والبطولات.
لكن أي عالم موازٍ هذا الذي يعيش فيه هؤلاء اللاعبون؟ ألا يشعرون بما تمر به أمتهم؟ كيف لهم أن يلعبوا كرة القدم بينما يموت الشباب على جبهات القتال؟ كانت تلك هي مشاعر الإنجليز تجاه نجومهم الذين كانوا قبل أيام فقط يهتفون بأسمائهم، مشاعر ستغير مسار عدد من هؤلاء اللاعبين ليخوضوا مباراة خارج حدود الملعب، مباراة كان الفوز بها مسألة حياة أو موت.
سمعة كرة القدم على المحك
كنتيجة للضغوط والمعارضات لاستمرار لعب كرة القدم في ظل الحرب، صدر القرار بتكوين كتيبة عسكرية من لاعبي كرة القدم.
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، لم تكن قط كأي حرب عرفتها إنجلترا من قبل، لكن كرة القدم لم تتوقف في بلاد مهدها. كان شغف الإنجليز باللعبة أكبر من أن يوقفه حرب، لكن مع مرور الوقت تحول الشغف باللعبة إلى غضب تجاه ممارسيها، وجرت مناقشة ساخنة على صفحات عدد من الصحف الإنجليزية حول استمرارية كرة القدم الاحترافية خلال فترة الأزمة الوطنية.
أبدى عدد من الشخصيات البارزة حينها معارضتها استمرار لعب كرة القدم في ظل الحرب، منهم الرياضي والطبيب الشهير «ويليام غريس»، أحد أهم مطوري لعبة «الكريكيت»، والقائد العام للجيش البريطاني السابق «فريدريك روبيرتس». وكانت المقولة الشهيرة للسير «آرثر كونان دويل»، الكاتب البريطاني ومبتكر شخصية «شارلوك هولمز»: «إذا كان لاعب الكرة يملك قوة في أطرافه، فاجعلوهم يؤدوا الخدمة العسكرية وينطلقوا إلى أرض المعركة».
أثيرت القضية في مجلس العموم البريطاني، ووصل الأمر إلى حد انتشار أخبار عن اقتراح على الملك «جورج الخامس» أن يسحب رعايته لاتحاد كرة القدم.
بنهاية نوفمبر 1914، كانت سمعة لعبة كرة القدم تعاني في نفس الدولة التي رفعتها يومًا إلى السماء، وكان على المسؤولين في اتحاد الكرة الإنجليزي، أن يستمعوا ويأخذوا في الحسبان الرأي العام. وكنتيجة للضغوط والمناقشات بين اتحاد الكرة الإنجليزي ومكتب الحرب، صدر القرار بتكوين كتيبة عسكرية من لاعبي كرة القدم.
مباراة المباريات
الأهداف من تكوين هذه الكتيبة كانت واضحة، وأولها تشجيع الشباب على التطوع في الخدمة العسكرية، وإثبات أن لاعبي كرة القدم مستعدون لأداء دورهم من أجل بلدهم، وبخاصة بعد التشكيك في وطنيتهم في الفترة السابقة.
كذلك كان الجيش البريطاني يدرك الميزة التي تحملها لعبة كرة القدم في تدريباته، إذ استخدم اللعبة خلال الحرب العالمية الأولى بين قواته لتعزيز لياقتهم البدنية وتعليمهم العمل الجماعي والالتزام ورفع معنوياتهم.
أسندت مهمة تكوين الكتيبة إلى عضو البرلمان المحامي «ويليام هيكس» الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للداخلية. ورغم أنه لم يمتلك أي معرفة باللعبة، لم يحدد أي وقت لتنفيذ مهمته. في 15 ديسمبر 1914، عُقِد أول اجتماع في مجلس مدينة فولهام، برئاسة «هيكس» وحضور عمدة المدينة ورؤساء عدد من الأندية، على رأسها أرسنال وتشيلسي وكريستال بالاس وتوتنهام وفولهام.
كان هيكس حصل في اليوم السابق للاجتماع على موافقة بتشكيل الكتيبة، بعد الاتفاق على عدد من الشروط، أهمها أن اللاعبين المحترفين الذي يربطهم بناديهم عقد يُمكِّنهم من الحصول على إجازات من التدريب العسكري للمشاركة مع فرقهم، ما يسمح لكرة القدم بالاستمرار حتى نهاية المواسم الذي تنص عليه عقودهم. كانت إنجلترا في ذلك الوقت تحتوي على قرابة 2000 لاعب محترف، كرة القدم عملهم الوحيد، بجانب عدد مماثل يعمل في مهن أخرى بجانب ممارسة الكرة.
في الاجتماع، وقف هيكس ليوجه كلمة حماسية للاعبين، مستخدمًا مصطلحات كرة القدم، قال فيها: «أنا لا أدعوكم إلى نزهة، هذه ليست مباراة سهلة أمام فريق من الدرجة الثانية. هذه مباراة المباريات ضد أحد أفضل فرق العالم».
إنجاز كروي على جبهة القتال
أول اللاعبين المتطوعين «فريد باركر»، (28 عامًا)، قائد فريق كلابتون أورينت، والملقب بـ«العنكبوت». تبعه الدولي الإنجليزي ولاعب برادفورد، «فرانك باكلي»، و«آرشي نيدهام»، لاعب برايتون.
لم يمر اليوم إلا وكان تطوع في الكتيبة 35 لاعبًا من 11 ناديًا مختلفًا، بينهم لاعبا توتنهام «جورج بولر» و«وليام أوليفر»، وثلاثي تشيلسي و«يليام كروغ» و«ديفيد غرغوود» و«إدوارد فوورد»، إضافة إلى مساعد مدرب أرسنال «توماس رادكليف».
أما أكثر الأندية التي تطوع لاعبوها للذهاب إلى الحرب، فكان «كلابتون أورينت»، إذ تطوع 10 لاعبين للخدمة يوم الاجتماع، فيما ارتفع العدد لاحقًا ليصبح 41 لاعبًا.
رغم أجواء الحرب لم يستطع أعضاء الكتيبة التخلص من عشق اللعبة الذي يجري في عروقهم.
انتهى تكوين الكتيبة في ربيع 1915، بينما ضمت 200 لاعبًا من أكثر من 60 ناديًا مختلفًا في الدوري الممتاز والدرجات المختلفة، إضافة إلى لاعبين هواة وأعضاء أجهزة فنية وإدارية وبعض الجماهير التي كانت ترغب في الخدمة بجانب لاعبيها المفضلين. وبينما خاضت الكتيبة التدريبات العسكرية، استمر بعض أعضائها في الذهاب إلى أنديتهم حتى نهاية موسم 1914-1915، حين جرى تعليق النشاط الكروي بشكل رسمي خلال فترة الحرب.
بعيدًا عن أنديتهم، خاض فرق الكتيبة مباريات أمام بعض أندية الدوري الإنجليزي وأندية الهواة. فيما كان الهدف منها جذب متطوعين جدد وجمع المال. بعد قرابة عام كامل على اجتماع مجلس مدينة فولهام، أُرسلت كتيبة لاعبي كرة القدم إلى جبهة القتال لأول مرة.
في نوفمبر 1915، وتحديدًا حول لوس شمال فرنسا، كانت أولى تجاربهم في الحياة داخل الخنادق. لكن رغم أجواء الحرب المحيطة لم يستطع أعضاء الكتيبة التخلص من عشق اللعبة الذي يجري في عروقهم، ليخوضوا أولى المباريات بعد بضعة أسابيع من وصولهم إلى موقعهم على الجبهة، ضد الكتيبة 13 إسيكس، ضمن بطولة الكتائب، واستطاعوا الفوز بنتيجة كبيرة (9-0)، واكتسحوا في الدور الثاني الكتيبة الثانية جنوب ستافورد بسداسية نظيفة، وفي نصف النهائي سقط أمامهم فريق الكتيبة الأولى لسلاح البندقية الملكي بسداسية جديدة.
أقيم النهائي يوم 11 إبريل 1916، بين كتيبة اللاعبين واللواء 34 مدفعية الميدان الملكي في هرسين. لم يستطع فريق اللواء 34 مدفعية أن يزُود عن مرماه الذي تلقت شباكه 11 هدفًا، لتحصد الكتيبة أول بطولة لها على جبهة القتال.
لا وقت للاحتفال
كان الفوز بالبطولة يتبعه توزيع ميداليات فضية على الفريق الفائز. لكن حين حانت تلك اللحظة، كان أربعة نجوم ممن خاضوا المباراة النهائية فارقوا الحياة بالفعل. فبعد بضعة أسابيع من نهائي البطولة، نُقلت الكتيبة 17 ميدلسكس جنوبًا إلى فيمي ريدج، حين خاضوا قتالًا لأول مرة، قبل أن يشتبكوا مجددًا مع الألمان في معركة شرسة في ديلفيل وود، بين 27 و29 يوليو، لينتقلوا بعدها إلى القتال في أماكن أخرى.
مع نهاية تلك المعارك، كانت الكتيبة عانت من خسائر كبيرة تطلبت تجنيد 716 جنديًّا جديدًا في الكتيبة. وكان ضمن الخسائر إصابة عدد من أعضاء الكتيبة، من بينهم «فرانك باكلي» لاعب برادفورد سيتي، و«فريد كينور» لاعب كارديف سيتي، و«تيد هاني» لاعب مانشستر سيتي، وقُتِل «ألين فوستر»، لاعب ريدينج، و«نورمان وود»، لاعب ستوكبورت، إضافة إلى نجوم المباراة النهائية «ويلهاوس» و«سكوت» و«بيكر» و«جوناس».
جوناس تحديدًا، وصديقه «ريتشارد ماكفادن»، لاعبا فريق كلابتون، كانا أيقونتي المجتمع الإنجليزي. إذ اشتهر ماكفادن بعد إنقاذه طفلًا من الغرق، ورجلًا في بيت يحترق. أما جوناس، فكان لاعبًا ماهرًا وهدافًا بارعًا، ذا كاريزما عالية جذبت إليه عددًا من المعجبات، لدرجة جعلت ناديه يشير في إحدى إصداراته المطبوعة إلى أن لاعبه متزوج ويعيش سعيدًا مع سيدة تدعى «ماري جين»، وقبل تطوعه في الجيش، كان نادي ميدلسبره وعدد من أندية القمة يسعون لضمه.
روى ماكفادن لحظات مقتل صديقه نجم الكرة الإنجليزية، في أثناء معركة ديلفيل وود، موضحًا أنه بعد ثلاثة أسابيع من بداية العملية، وجد ماكفادن وجوناس نفسيهما في وضع لا يحسدان عليه، محاطين بالألمان، بعيدًا عن المنطقة الآمنة، وكان عليهما أن يكسرا حصارهما. «وداعًا ماك»، قال جوناس لصديقه، «حظًّا سعيدًا، انقل حبي إلى حبيبتي ماري جين وتحياتي الحارة إلى الرفاق في أورينت».
أما ماكفادن، فلم يمنحه القدر الفرصة للرد على صديقه، موضحًا في رسالة إلى ناديه: «قبل أن أرد عليه قفز خارج الخندق، وانتهى كل شيء بمجرد أن قفز خارج الخندق. قُتل صديقي منذ 20 عامًا أمام عيني، الكلمات لا تستطيع التعبير عن مشاعري في هذا الوقت». مع وصول الخطاب إلى أورينت كان ماكفادن قد فارق الحياة هو الآخر.
في العام التالي، قادت القوات البريطانية هجومًا على الدفاعات الألمانية بالجبهة الغربية، وتحديدًا مدينة آراس الفرنسية. كانت الكتيبة 17 ميدلسيكس (كتيبة اللاعبين) ضمن الكتائب المشاركة في القتال، وتعرضت لأكبر خسائرها في يوم واحد من القتال يوم 28 أبريل 1927، حين حاربت لفتح طريقها إلى قرية أوبي قبل أن يعزلها الألمان ويحاصروها.
بعد قتال يائس، استسلم للألمان بقية الكتيبة، وكان معظمهم مصابين. ضمن من وقعوا في الأسر كان «جو ميركر»، لاعب نوتنغهام فورست، و«تشارلز أبس»، لاعب نورويتش سيتي، و«ويلف نيكسون»، لاعب فولهام. وكانت الحصيلة النهائية لخسائر الكتيبة بين قتيل وجريح ومفقود، 11 ضابطًا و451 جنديًّا.
بعد عدة معارك آخرى، عانت فيها الكتيبة من خسائر متتالية بعد دعمها مجددًا عقب سقوطها في أوبي، ورغم سجلاتها المميزة في الشجاعة القتالية، جرى تسريح الكتيبة 17 ميدلسكس في فبراير 1918، بعد نقص القوى العاملة في الجيش البريطاني، ونُقِل بقية الضباط والرجال إلى وحدات أخرى. يُقدَّر أنه في وقت حَلِّ الفريق لم يكن هناك سوى 30 لاعبًا محترفًا لا يزالون في صفوفها.
لاحقًا، كتب اللاعب الدولي السابق وعضو الكتيبة الرائد «فرانك باكلي» أنه في منتصف الثلاثينيات كان أكثر من 500 من 600 عضو الأوائل الذين تكونت منهم كتيبة اللاعبين، فارقوا الحياة، إما في أرض المعركة وإما بسبب إصابتهم في أثناء القتال.
كتيبة اللاعبين الثانية
لم تكن الكتبية 17 الوحيدة التي تضم لاعبين، لكنها كانت الأكثر شهرة. ففي أثناء الحرب العالمية الأولى، تأسست كتيبة ثانية من لاعبي كرة القدم، حملت اسم «23 ميدلسكس»، لكنها كانت أقل شهرة من «17 ميدلسكس»، أسسها هيكس في مايو 1915. بعد تلقيها التدريب المعتاد في بريطانيا، أُرسلت إلى الجبهة الغربية، فيما شاركت لأول مرة في القتال في معركة فليرس-كورتليت يوم 15 سبتمبر، والتي شهدت استخدام الدبابات في الحرب أول مرة، وخسرت نصف قوتها خلال تلك المعركة.
تعرضت الكتيبة لعدد من الخسائر في أثناء مشاركتها في معارك ميسنس ريدج وبيلكيم ريدج ومينين رود. في نوفمبر 1917، أُرسِلت الكتيبة «23 ميدلسكس» إلى الجبهة الإيطالية في أعقاب الانتصارات الألمانية في كاباريتو، قبل أن تعود إلى الجبهة الغربية مجددًا في مارس 1918 للمشاركة في صد عدة هجمات ألمانية.
شاركت الكتيبة أيضًا في التقدم إلى النصر. وبحلول أواخر عام 1918، وقت إعلان الهدنة، كانت الكتيبة متمركزة بالقرب من نيدربراكل في بلجيكا. قُتِل أكثر من 1500 ضابط وجندي من كتيبتي لاعبي الكرة خلال الحرب.
كانت الكتيبتان في مقدمة المسهمين في المجهود الحربي من عالم كرة القدم في أثناء الحرب العالمية الأولى، إذ ساعدا في جذب المتطوعين، وشاركا في بعض أكثر المعارك دموية في الحرب.
في أكتوبر 2011، كُشف الستار عن نصب تذكاري تخليدًا لذكرى كتيبتي لاعبي كرة القدم في قرية لونغوفال شمال فرنسا، وسمح الاتحاد الدولي لكرة القدم، بشكل استثنائي، للاعبي المنتخب الإنجليزي بارتداء رمز «زهرة الخشخاش» التذكارية في أثناء مباراة أمام المنتخب الإسباني، وارتدى لاعبو الأندية الإنجليزية الرمز نفسه خلال مبارياتهم الأخيرة في الدوري الإنجليزي الممتاز، تخليدًا للذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى.
كتب قائد الكتيبة 17 ميدلسكس، في نوفمبر 1915، واصفًا تجربته مع لاعبي كرة القدم: «لم أكن أعرف شيئًا عن اللاعبين المحترفين عندما تسلمت المسؤولية هنا، لكني تعلمت أن أقدِّرهم. سأذهب إلى أي مكان مع هؤلاء الرجال. إنهم يتمسكون بروح الفريق. هذا الشعور بسبب كرة القدم، الرابط المشترك بينهم. كرة القدم لها وقع عظيم على هؤلاء الرجال وعلى الجيش كله».
كذلك خلدهم نادي أرسنال بعبارة نشرها قائلًا: «في الحياة المدنية كانوا أبطالًا، وقد أثبتوا أنفسهم أبطالًا على أرض المعركة».