تأتي صورة ضحية بين الأخبار، فتثير العواطف، وتُحدِث ضجة في قنوات التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، ويسارع جميع الناس للتعليق قولًا أو كتابة على هذه الصورة، مطالبين الجهات المعنية بالتحرك لفعل شيء. الصورة بما تحتويه من مزايا جمالية يمكنها بشكل رقيق أن تجذب انتباه المشاهدين، وتجعل القضايا موضع الخلاف أكثر وضوحًا وحيوية.
في مقال نشرته مجلة «ذي أتلانتيك»، يستعرض كاتب المقال ثلاث أحداث كان لظهور صورة الضحية فيها دور بارز في التأثير على الرأي العام وخلق حالة من التعاطف تسببت في تغيير مجرى الأمور. يتساءل المقال حول أسباب قدرة صور الضحايا على أن تؤثر في تفاعلنا مع قضايا العالم المختلفة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو بيئية، ثم يتطرق المقال إلى ما يُعرَف في علم النفس بـ«أثر الضحية المُعَرَّفَة».
ماذا يمكن لصورة الضحية أن تفعل؟
بعد مرور أعوام على الحرب في سوريا، وارتفاع تعداد القتلى من السوريين إلى مئات الآلاف، وتحول الملايين إلى لاجئين في مختلف دول العالم، استطاعت الحرب في سوريا الحضور في نشرات الأخبار، لكن الكارثة الإنسانية لم تُعط التغطية الإعلامية التي يقتضيها حجم الكارثة الإنسانية.
تبدَّل ذلك في سبتمبر 2015، حينما تضاعف التركيز الإعلامي حول الحرب في سوريا، وأصبح السؤال عن حل قضية اللاجئين يحتل صدارة الصفحات الأولى للجرائد العالمية والحملات الانتخابية في أوروبا والولايات المتحدة. ما الذي تغير؟
حدث التغيير في جزء كبير منه نتيجة صورة محزنة انتشرت على نطاق واسع للطفل إيلان كردي ممدًا على شاطئ البحر وقد فارق الحياة. الطفل إيلان، ذو الثلاثة أعوام، غرق في عرض البحر، ثم سحبته الأمواج إلى الشاطئ التركي، وذلك خلال محاولة عائلة الطفل السورية الوصول إلى اليونان باستخدام قارب مكتظ بالركاب. استطاعت صورة إيلان إثارة العالم، وخلقت موجة من التعاطف مع معاناة اللاجئين.
علق «جيريمي كايل»، مذيع التوك شو البريطاني، على الأثر الذي أحدثته صورة الطفل إيلان، قائلًا: «كأن خسائر الحرب سُجِّلت في عقولنا دون أن تحرك قلوبنا، صورة واحد كسرت قلب العالم».
أدت صورة للأسد «سيسيل» وهو مقتول، إلى بداية حملة عالمية لتقييد صيد الحيوانات. بعد أن قُتِلَ على يد طبيب أسنان يمارس هواية الصيد.
حادثة ثانية كان محورها لاعب في الدوري الوطني الأمريكي لكرة القدم الأمريكية يدعى «غريغ هاردي» الذي كان قد حصل على عقد قيمته 11.3 مليون دولار من فريق دالاس كاوبويز، وذلك بالرغم من اتهامه بضرب صديقته السابقة «نيكول هولدر».
أدين اللاعب، لكن صديقته نيكول رفضت المشاركة في جلسة استئناف القضية، فأُسقِطَت التهم. وبسبب الاتهامات الموجهة إلى اللاعب تعرَّض فريق دالاس كاوبويز لهجوم من الناشطين، لكن الضجة في عالم لعبة كرة القدم الأمريكية اُخمِدَت نسبيًّا.
كاد الموضوع يُنسَى إلى أن نشرت صديقة اللاعب السابقة نيكول، صورة لجسمها يظهر عليه آثار الضرب والاعتداء على يد اللاعب، ما تسبب في غضب عارم بين الجمهور والإعلام تجاه اللاعب.
الصورة الصادمة لآثار جروح صديقة اللاعب جعلت «ستيفن أ. سميث»، أحد معلقي اللعبة، والذي كان قد دافع في السابق عن غريغ هاردي، يقول بعدما عُرِضَت الصورة: «ما نتحدث عنه هو لاعب غير جدير بأن يكون في الدوري الوطني. يجب أن يُفصَل هذا اللاعب على الفور، نحن نعيش في عالم من المظاهر، أنا ضحية ذلك، عندما رأيت هذه الصورة، قلت يا إلهي، لماذا يلعب شخص كهذا في الدوري الوطني للعبة».
في حادثة أخرى تخص الحفاظ على البيئة هذه المرة، أدت صورة للأسد «سيسيل» وهو مقتول، إلى بداية حملة عالمية لتقييد صيد الحيوانات. كان هذا الأسد قد قُتِلَ على يد مواطن أمريكي يعمل طبيب أسنان، ويحب ممارسة هواية الصيد.
صورة الأسد سيسيل الذي كان محبوبًا داخل المحمية الطبيعية التي كان يعيش فيها في تنزانيا، والذي امتاز بلبدة داكنة تسببت في زيادة المطالبات بحماية الحيوانات من أخطار الصيد، يقول رئيس «منظمة المجتمع الإنساني للولايات المتحدة»، وهي منظمة غير ربحية تُعنَى بحقوق الحيوان: «قتل سيسيل غيَّر الأجواء بالنسبة إلى التعامل مع تذكارات الصيد حول العالم. أعتقد أنه ترك مساحة أقل لمشرِّعي القوانين للمناورة والتحايل».
بعد انتشار صورة الأسد المقتول، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، أنها ستشرع في حماية الأسود الإفريقية تحت بند الأنواع المعرضة لخطر الانقراض. يهدف القرار لتنفيذ إجراءت صارمة بخصوص جلب أسود حية، أو تذكارات عبارة عن أجزاء من الأسود، من وسط إفريقيا وغربها إلى داخل الولايات المتحدة. وأراد الإجراء ألا تتعرَّض ممارسة هواية الصيد الأسود الإفريقية إلى الاقتراب من خطر الانقراض، ومن ناحية أخرى، اتخذت فرنسا كذلك قرارًا يطبِّق حظرًا كاملًا على استيراد أي جزء من أجساد الأسود، كالرؤوس والجلود.
صُوَر الأسد سيسل وصديقة اللاعب السابقة «نيكول هولدر» والطفل إيلان كردي تعكس قدرة ظهور صورة الضحية للعلن على التأثير في الرأي العام، وإحداث تغيير في الواقع. لكن لماذا كان لهذه الصور هذا التأثير الكبير؟
قد يهمك أيضًا: مرآة التاريخ: 3 أعمال فنية تخلِّد الوجود الإنساني
«أثر الضحية المعرَّفة»
العامل المشترَك في الصور الثلاثة هو عرضها حادثة لضحية فردية، عملًا بمقولة «موت واحد مأساة، موت مليون رقم إحصائي». علينا لإدراك المأساة أن نرى الضحية بحالتها الفردية الحقيقية. علماء النفس يطلقون على هذه المفارقة اسم «أثر الضحية المُعَرَّفَة»، ويقصدون بهذا الضحية التي لم تعد اسمًا أو رقمًا، بل صارت مُعَرَّفَة ومدرَكة لدينا بعد رؤيتها.
يعرف العاملون في المجالات المتعلقة بالتعاطف الإنساني جيدًا «أثر الضحية المُعَرَّفَة»، وإن لم يستخدموا الاسم. يستخدم عدد من منظمات الأطفال العالمية، على سبيل المثال، ومنذ مدة بعيدة، أسلوب دعوة المتبرعين لرعاية أطفال محددين يتعرف إليهم المتبرعون شخصيًّا، وعلى ذلك يحصل الأطفال على النقود اللازمة لتسديد احتياجاتهم، مثل الرعاية الصحية، بينما يتلقى المتبرعون متعلقات تخص الأطفال، وتُرسَل إليهم كل عام صور لهؤلاء الأطفال من أجل عقد تواصل بين الطرفين.
عدد من المنظمات الخيرية اتبعت نفس الأسلوب. ويعود السر في نجاح هذا الأمر، كما يوضح المختص في علم النفس «بول سولفيك»، إلى أنه «يحدث للعقل تحفيز أكبر عند التجاوب مع شخص واحد فقط، سواء كان هذا الشخص الواحد هو نحن أو شخص آخر أمامنا».
في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وضع باحثان في جامعة كارنيغي ميلون اختبارًا عبارة عن سيناريوهات مختلفة لمواقف خطيرة، وسألا المشاركين في الاختبار عن الضحايا التي لها الأولوية في الإنقاذ. من نتائج الاختبار خلص الباحثان إلى أن «أثر الضحية المُعَرَّفَة» يرجع إلى أن الضحية المُعَرَّفَة تؤلف نوعًا من جماعة بمفردها. لو ماتت الضحية المُعَرَّفَة، فإن الجماعة التي هي المكون الوحيد لها تموت.
في سنة 2013، وضع المختص النفسي بول سلوفيك، مع زملائه، عددًا من المتطوعين تحت جهاز ماسح للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وراقبوا ما يحدث في الدماغ خلال اتخاذ المتطوعين قرارات التبرع لمجموعة من الأيتام. وجد الباحثون أن الأشخاص المتطوعين كان يختارون التبرع أكثر إذا وجدوا صورة فوتوغرافية للطفل اليتيم، مما لو وجدوا اسم اليتيم فقط، أو مجرد صورة ظلية له.
وجد الباحثون كذلك أن عملية العطاء والكرم يبدو أن لها ارتباطًا بزيادة نشاط منطقة في المخ تسمى «النواة المتكئة»، وهذه المنطقة ذات علاقة بمشاعر المكافأة والبهجة. وألمحت دراسة الباحثين إلى أن الصور ربما تمتلك قدرة خاصة لخلق «تأثير الضحية المُعَرَّفَة» من خلال تحفيز الصور إثارة موجية في الدماغ.
قد يعجبك أيضًا: الجمال المزعج والمأساة الفنية: كيف تؤثر فينا الصورة؟
بين تأثير الصورة والفيديو
مثلما للصور قيمة عالية في منحنا القدرة على رؤية العالم، فللصور سمعة مشبوهة في اختزال الأحداث، واقتطاع القصص من سياقها، وتحويل قضايا معقدة إلى بضعة لحظات أيقونية، إلى جانب العبث بمشاعر المشاهدين عبر الاستعانة بوجوه كاريزمية، فعبر تصغير الصور العالم إلى بُعدين، يمكن لعمق العالم أن يختفي.
يساعدنا العلم بالفعل، في شرح كيف تكون للصور مثل هذه القوة، لكنه لا يخبرنا كيف نستخدم هذه القوة لصالحنا. المسؤولية ملقاة على عاتقنا نحن لاستخدام الصور في ما فيه نفعنا.
في حياتنا العربية كان لصور، مثل خالد سعيد والبوعزيزي والطفل محمد الدرة، تأثير واسع نتج عنه حراك شعبي ينادي بالتغيير.
من المغري أن نأمل في أن نتمكن من استعمال «أثر الضحية المُعَرَّفَة» حتى نجعل المجتمع يترك أنانيته ونغذيه بالتعاطف مع المحتاجين. لكن المشكلة التي ستواجهنا هي أن مدى انتباه الإنسان ضيق ومحدود، فكثير من الجمعيات الخيرية تستخدم بالفعل صورًا لأطفال توجع القلب، وتستعين بـ«أثر الضحية المُعَرَّفَة» لتأكيد وصول رسالتها، لكن الفرصة ليست كبيرة لنحصل كل يوم على صور كصورة إيلان تعاطفنا ليس دائمًا حين نحتاجه.
نحن لا نتعاطف مع كل ما يجري حولنا، لكن فرص تأثرنا بما نراه دائمًا أكبر وأعمق. يحاول هذا المقال استكشاف هذه الفجوة بين التعاطف البشري المشروط ورؤية من نتعاطف معهم. كردي والأسد سيسيل، لنستطيع جذب بصر شعوب العالم لقضايا خطيرة، مثل مأساة اللاجئين السوريين وضحايا الاعتداء الأسري وأزمات البيئة.
في حياتنا المصرية والعربية كان لصور، مثل خالد سعيد والبوعزيزي والطفل محمد الدرة، تأثير واسع في الجمهور العربي نتج عنه حراك شعبي ينادي بالتغيير، صورة الضحية بألف كلمة بما تحتويه من دلالات تصعب على المحاججة.
لم يتحدث المقال المعروض عن صورة الفيديو وتشابهها أو اختلافها مع الصور الفوتوغرافية، ما يجعلنا نتساءل: ماذا لو كانت صورة إيلان كردي بدلًا عنها مقطع فيديو لإيلان يُشَاهَد ضمن نشرة الأخبار، هل كان لمقطع الفيديو الحصول على نفس تأثير الصورة؟
تتميز الصورة بثباتها وجمودها، ما يقوِّي من تأثيرها فينا. تظهر الصور الفوتوغرافية كأنها نهاية اختيرت لقصة ما. صورة الضحية ثابتة، تواجه الجمهور كدليل إدانة، الشخص ساكن في الصورة لا تصدر عنه حركة، يبدو ككائن فوق البشر ينوي معاقبة الجميع. صورة الضحية كارثة محبوسة في مكانها تنتظر من يوقعه حظه لرؤيتها، على الفرد بعد رؤيتها فعل شيء لتخليص نفسه، يعود إلى صورة الضحية مرة تلو مرة، فيجدها كما هي محتفظة بتفاصيلها.
تقول «سوزان سونتاغ»، في كتاب «حول الفوتوغراف»، إن التلفزيون تيار من صور أقل انتقائية، كل واحدة منها تلغي سابقتها، كل صورة فوتوغرافية ساكنة لحظة متميزة تحولت إلى شيء بسيط، «الصور تتحول إلى توق شديد للجمال، لنهاية ما يجري تحت السطح، لتطهير جسد العالم أو الاحتفاء به».