الموسيقى لغة تُفهم بسلاسة ودون تلقين، ولا تحتاج عادةً إلى دراسة مسبقة لتذوقها، لهذا كانت الوسيط الأقرب الذي يستخدمه الإنسان ليُعبر عن حزنه وفرحه وحماسته، سواء بالاستماع إليها أو تأليفها وعزفها.
يُعرِّف جبران خليل جبران اللغة بأنها «ابنة الملامح الصامتة، ووليدة العواطف الكاشفة عن نفسيّة الإنسان، الواعي لحقيقةٍ ما»، بينما تحاول الفيلسوفة والموسيقية «جيني جود» في مقال نشرته مجلة «Aeon»، أن تخوض في عالم الموسيقى وتربطها بالفلسفة ومخلوقات العالم أجمع، ولتجد في كل مكان ومخلوق إيقاعًا موسيقيًّا مختلفًا.
تيار وعي مختلف
خاضت جيني تجارب موسيقية كأنها من عالم آخر. كانت تشعر أحيانًا بأن جسدها يُستثار بطريقة لا تفعلها دماغها حين تتسمّر على الكرسي بسبب إيقاعات الطبال التي تعصف بالذهن، أو البراعة الموسيقية لعازف الغيتار المرتجِل، ووجدت أنها تستجيب جسديًّا لتفاصيل موسيقية صغيرة تمُر قبل أن تبدأ في صياغة أفكار حولها حتى.
يبدو إدراك ما تسمعه مسألة غير معرفية، يأتي عميقًا وبشكل غير مفهوم.
في كثيرٍ من الأحيان، يترك الإنسان نفسه تنجرف مع ما يدور حوله دون أن يتجرد عنه، مثل أن ينجرف مع عرض موسيقي.
تُعرِّف الفلسفة العقل بأنه آلة تدير مجموعة من الصور التي تنوب عن الظروف الحياتية، ثم تعيد تجميعها منفصلةً بطريقة خاصة وبعيدة عن البيئة المحيطة. لذا فإنه من وجهة نظر فلسفية، يكون الأمر غامضًا عند الحديث عن الإدراك الباطني أو ما يسمى «visceral grasping».
بطبيعة الحال، يعكس البشر ملامح العالم، ويؤدون مزيجًا من العمليات العقلية والمعلوماتية. لذا يدين الجنس البشري بكثير من نجاحاته البارزة لهذه العمليات وللقدرة على أدائها، إذ بنى عن طريقها كل ما أنجزته الحضارة، من القنوات المائية حتى المحركات البخارية وأجهزة الكمبيوتر.
لكن في كثير من الأحيان، يترك الإنسان نفسه تنجرف مع ما يدور حوله دون أن يتجرد عنه، مثل أن ينجرف مع عرض موسيقي، فهذا بالتحديد واحد من النشاطات البعيدة عن «حوسبة المعلومات» والقريبة جدًّا من المشاعر الإنسانية. لو أن أحدهم يعيش حياته بطريقة ممنهجة ومدروسة، فإنه في لحظة ما سيجرفه التيار أيضًا.
تعتقد كاتبة المقال أنه من الخطأ تجاهل مثل هذه التجارب باعتبارها عديمة النفع أو تندرج ضمن مفهوم الوعي الباطني المجرد لشيء يحمل معنيين. بل العكس، فوعينا حين نستمع إلى الموسيقى يضع الفلاسفة في تحدٍّ أمام أنفسهم، ليوسعوا مفاهيمهم عن ماهية العقل وكيفية عمله.
خلف حدود الإدراك
يحتوي العالم الحالي على أشياء تتخطى حدود إدراكنا. فمثلًا، من غير المعقول أن أجد «جَذرًا تربيعيًّا» في درج جواربي، أو «ضرورة حتمية» كامنة خلف الأريكة. رغم ذلك، يمكن للإنسان أن يدرك الأشياء المادية ويستنبط حجمها وشكلها ولونها بمجرد التمعُّن فيها فقط.
يستطيع البشر أيضًا أن يدركوا الأحداث الدائرة من حولهم، وكيف ترتبط ببعضها في الوقت ذاته. لكل الأشياء المادية والأحداث العادية تركيبٌ بنائي، فمصباح المكتب له أجزاء (قاعدة مربعة وعنق وحاجز دائري) ترتبط ببعضها بعضًا بطريقة معينة في الفراغ، فالقاعدة موصلة بالعنق، وكلاهما متصل بالحاجز الضوئي، وهكذا.
لكن هناك فارق جوهري بين الأحداث والأشياء، بمعنى أنه لو أراد شخص أن يتفحص أجزاء مصباح مكتبي أو يكتشف كيف ترتبط ببعضها، فيمكنه ببساطة أن يمسكه في يده ويفعل، بينما لا يمكن فعل هذا مع طَرقات الباب.
يُمكننا كذلك أن ندرك بعض الخصائص المشوشة لإيقاع الطبل عبر الاستماع فقط، لكن من الصعب أن نكتشف تركيبها الزمني الدقيق. الأمر أشبه بإلقاء نظرة سريعة على هيكل معماري معقد من خلال ضباب كثيف، ودون أن تكون قادرًا على مسح الهواء.
لكن مهما بلغت صعوبة إدراك هذا الهيكل الزمني، فإنه ليس خارج نطاق قدرتنا المعرفية. فبإمكاننا أن نحرك أجسادنا استجابةً لتفاصيل زمنية لنختبرها في وعينا.
في دراسة نشرت عام 2000، طلب عالم النفس «برونو ريب» من مجموعة من الناس أن يطرقوا بأصابعهم بتتابع إيقاعي من النغمات، ثم أخّر كل النغمات بعد نقطة معينة في التتابع بمسافة متساوية.
لاحظ ريب أن أنماط الطّرْق تعوِّض التغيُّر الحادث بسرعة، رغم أن المتطوعين لم يكونوا على علم بهذا التغيير. أما خارج المعمل، في العروض المباشرة، عادةً ما تتضح التغيرات في التركيب الزمني التي لا يلاحظها العازفون خلال عزفهم، مثل زيادة سرعة الإيقاع سهوًا.
إيقاع، لا مجرد أصوات
الاختلاف الإيقاعي ليس الجانب الموسيقي الوحيد في الكلام، فالاختلاف بين التعبير عن حسن النية أو السخرية يكون باختلاف طبقات الصوت ومدة المقطع اللفظي ونطق الحروف.
التتبع اللاشعوري للتركيب الزمني لا يحدث فقط عندما نستمع ونعزف الموسيقى، بل هو أيضًا عنصر أساسي في كيفية فهمنا للكلام اليومي. الكلام مليء بصور موسيقية مصقولة، وهي ضرورية لنفهم بعضنا بعضًا. اكتشاف التركيب الزمني في الأصوات هو ما يجعلنا ندرك خفايا ما نسمعه حولنا.
لكن نجاح محادثة حقيقية ينطوي على أكثر من مجرد ثرثرة مفهومة ومعالجتها، انظر في مثل هذه المحادثة اليومية:
- صباح الخير، كيف حالك؟
= أنا بخير، شكرًا، وأنت؟
- أنا بخير أيضًا. الجو جميل جدًّا اليوم.
= إنه جميل فعلًا.
الآن، تخيل هذه المحادثة القصيرة تُعاد مرةً أخرى، لكن هذه المرة كل جملة ستُقال قبل أن تنتهي الأخرى بفارق نصف ثانية. أو تخيل أن كل جملة تُقال بعد عشر ثوانٍ من قول الجملة التي سبقتها.
هذا يوضح أن المهم ليس فقط ما تقوله في حديثك أو كيفية قولك إياه، بل توقيته وإيقاعه مُهمان كذلك.
الاختلاف الإيقاعي ليس الجانب الموسيقي الوحيد الموجود في الكلام. فمثلًا، الاختلاف بين التعبير عن حسن النية أو السخرية مرتبط بالاختلاف بين طبقات الصوت ومدة المقطع اللفظي وطريقة نطق الحروف.
يقول «شيشرون»، الكاتب والخطيب الروماني، في كتابه «تاريخ الوعاظ المشهورين»، إن «من أراد أن يكون سيدًا للخطابة، يجب أن يكون في كلامه نوع خفي من الموسيقى».
قد يكون هناك أيضا نوع خفي من الحركة يؤثر في الكلام. ففي دراسة أجريت في عام 1970، لاحظ عالم النفس «آدم كندون» أنه عندما يوجه كلامه بشكل خاص إلى شخص ضمن مجموعة، فإن الشخص الواقع عليه التمييز يبدأ بتحريك جسده ورأسه.
يفسر كندون ذلك بأن الشخص الذي اختير يميل تلقائيًّا إلى تمييز نفسه بين الحاضرين، ويشعر بأن عليه أن يزيد من قوة الرابطة الواقعة بينه وبين المتحدث، ويحاول أن يزامن تحركاته بتحركات المتحدث الذي ميزه، مثله مثل العازف، الذي يبدأ في تحريك جسده متماشيًا مع الموسيقى قبل أن يبدأ حتى في عزف الجزء الخاص به.
للحركة دورٌ مهم في الكلام، لكن بالطبع دورها مختلف عن ما تُشكِّله في الموسيقى. إذا ما انتبه الحضور إلى التزامن الشديد بين حركة المتحدث والمستمع، سيكون الأمر مُحرجًا، وربما ينهار المشروع التواصلي بأكمله، لكن التزامن مع الموسيقى يُعمقها ويعطيها حضورًا خاصًّا. فمثلًا، يصبح الرقص أكثر إمتاعًا إذا ما انتبه الراقص أكثر إلى خطواته وحركاته هو ومن حوله.
نحن لا نسمع الموسيقى، بل نشعر بها. الإيقاعات الموسيقية تستدعي الحركة الواعية بطريقة لا تفعلها الإيقاعات البصرية واللمسية، وحتى المنطوقة، لكن كيف يمكن أن نشعر بالصوت في المقام الأول؟
في عام 1665، كتب «كريستيان هايغنس»، عالم الفلك والفيزياء، رسالة إلى عالم الرياضيات «رينيه فرانسوا دي سلويز» ليخبره عن الظاهرة الغريبة التي رصدها في ورشة عمله.
بعدما علّق هايغنس ساعتين ذاتا بندول على عارض خشبي مشترك، ووضعه على ظهر كرسيين متباعدين، تركهما ومضى. وعند عودته وجد أن الساعتين تُظهران «انسجامًا غريبًا»، إذ تزامن البندولان وصارا يتحركان معًا، رغم أنه تركهما يلفان في مدارين مختلفين.
احتار هايغنس، لكنه أدرك في النهاية أن كل ساعة تُصدر ذبذبات صغيرة في العارض الخشبي، وأدى التداخل بين نمطي الاهتزاز إلى هذه الحركة المتناغمة.
منذ ذلك الحين، أصبحت المزامَنة التلقائية للنظم المتذبذبة تُعرف باسم «entrainment»، وهي ظاهرة تعني أن الأجسام لها آلية لا إرادية تجعلها تتزامن مع الإيقاعات القوية الخارجية، كالنبضات أو الدقات أو الاهتزازت. نحن نتناغم مع الإيقاعات التي تحدث حولنا دائمًا، رغم جهلنا بوجودها.
لوحظت هذه الظاهرة في مجموعة واسعة من النظم الفيزيائية والبيولوجية، ابتداءً من ضربات أجنحة طائر الإوَزّ المُحلق بحرية، وصولًا إلى مَيْل أي جمهور إلى التصفيق بشكل تزامني.
المخ يبحث عن الأنماط
عندما نتحرك لنستجيب لشيء إيقاعي ونتوافق مع تركيبه الزمني، هذا شيء فطري.
تؤكد الكاتبة أن عددًا من الدراسات أظهر بالفعل أن مجموعات الخلايا العصبية في أدمغتنا تنجذب إلى المحفزات الإيقاعية. فمعالجة الإيقاع تتضمن زيادة الاقتران بين القشرة السمعية والقشرة الحركية الأمامية للمخ، وهي جزء من الدماغ يشارك في التخطيط والتنفيذ للحركة الجسدية، وتوظف العقد العصبية القاعدية، وهي مجموعة من التركيبات الدماغية التي تشارك في التحكم الحركي والاختيارات السلوكية والتعلم.
من المثير للاهتمام أنك عندما لا تتمكن من التحرك لتستجيب لما تسمعه، تبدأ العقد العصبية القاعدية معالجة هذه الضربات السمعية، حتى إن لم تتزامن مع إيقاعات بصرية منتظمة. من يعانون من ضعف وظيفة العقد العصبية القاعدية، مثل المصابين بالشلل الرعاش، يُظهرون عجزًا في قدرتهم على مزامنة نقرات أصابعهم والإيقاعات السمعية حولهم.
من الواضح أننا حين نتحرك لنستجيب لشيء إيقاعي ونتوافق مع تركيبه الزمني، هذا شيء فطري، فالتزامن في الموسيقى وغيرها مسألة متعلقة بأن تدع نفسك للصدى الطبيعي والعفوي الموجود بين جسدك ودماغك ومحيطاته الزمنية لعالمك الصوتي.
الموسيقى هي التذكير لفلاسفة العقل بأن الخبرة الإدراكية لا تُستنفد بالتخيل، بل تؤكد أن تجربة الوعي تجربة ديناميكية تشمل الحركة والتغيير. وتسترعي الموسيقى أيضًا انتباه الفلاسفة نحو أن الجسد له صداه الخاص، وأن مفهوم العقل أوسع من اعتباره مجرد آلة حاسبة متطورة.