كثيرون منا يتناولون وجباتهم وحيدين داخل المنزل، بل وأحيانًا خارجه، وهذه تحديدًا ممارسة أكثر صعوبة، إذ تتطلب قدرة على تحمل نظرات الفضول أو حتى الشفقة من الآخرين. فالشخص الذي يأكل وحده يثير تساؤلات عدة، تزداد الصعوبة لو كان الشخص امرأة. هنا يزداد الفضول والتشكك. «هل ستطلب الآن أم إنك في انتظار أحدهم؟»: أول سؤال منطقي يطرحه النادل عندما تجلس وحدك لفترة في مطعم.
لكن تجربة تناول الطعام دون رفقة ربما تحمل متعتها أيضًا، وهي فرصة تتيح لمن اختبرها ميزات كثيرة. هذا ما تكشفه لنا «ستيفاني روزينبلوم»، الكاتبة الأمريكية التي تكتب في مجال السفر والرحلات، في مقال نُشِر في جريدة «The New York Times».
تناول الطعام متعة بدأنا نفقدها
يقع مقهى «تيورين» الباريسي في الطابق الأول من مبنى قديم في حي «أوت ماريه»، في الجانب الأقل أناقة من الشارع الذي يقع فيه ويحمل نفس الاسم. ليس للمقهى إطلالة مميزة على الشارع، فلن ترى سوى مبانٍ ومارة، ولن تجد هذا المقهى على قائمة المطاعم التي تقدم أطباقًا لا يمكن تفويتها. لكن هذا المقهى مناسب جدًّا لمن يرغب في تناول إفطاره وحيدًا بكل أريحية. يمكنك أن تجلس تحت مظلاته الحمراء المبهجة، على بعد أمتار من صخب الشارع، وتتخيل نفسك مواطنًا باريسيًّا أصيلًا.
يقدم المطعم كميات سخية من الأكل. تحكي الكاتبة أن الساندوتش الذي أحضره إليها النادل كان كبيرًا، والبيضة المقلية في حجم البانكيك، وكمية السلطة أكثر مما يستوعبه الطبق، والبطاطس المقلية على هيئة كومة هرمية. بالكاد اتسعت الطاولة لحمل فنجان القهوة وقطعة البسكويت الموضوعة في صحنه.
نظرت الكاتبة إلى قطعة البسكويت نظرة تأمل طويلة. يحكي رجل الدين البوذي «ثيتش نهات هان»، في كتابه «Peace Is Every Step» كيف كان يستغرق نصف ساعة أو 45 دقيقة لينتهي من أكل بسكوتة واحدة اشترتها له أمه.
كان يأكل قضمة صغيرة، ثم يتطلع إلى السماء، ثم يلمس الكلب بقدمه، ويأخذ قضمة أخرى. كان يستمتع بوجوده في أحضان السماء والأرض وأشجار البامبو والزهور، ومعه قطته وكلبه.
على الناحية الأخرى، تقول الكاتبة إنه يمكنها أن تبتلع البسكوتة دفعة واحدة في ثانية. كلمات «نهات هان» لها وقع خاص في عصر ليس غريبًا فيه أن تمسك الملعقة بيد، بينما تصور طبقك باليد الأخرى لترفع الصورة على إنستغرام في انتظار إطراء متابعيك.
لم يعد غريبًا أن تأكل وحيدًا
بينما تجلس الكاتبة لتناول الفطور، يتوقف رجال يرتدون ملابس رسمية لشرب القهوة والسجائر، وفي الشارع تشاهد آباءً يصطحبون أبناءهم إلى المدرسة. بالنسبة إلى من يرتاد المقهى وحيدًا، ليس هناك أحلى من مشاهدة الطريق. فحين لا يجلس أمامك أحد في المقهى، يكون العالم بأسره رفيقك.
تقول ستيفاني إنها أكلت وحيدة في فرنسا أكثر من أي بلد آخر، باستثناء بلدها، أمريكا، الذي يأكل الأشخاص فيه وحيدين نصف الوقت. هذا يحدث الآن أكثر من أي وقت مضى، فنظرًا لضيق الوقت، يتكرر أن يتناول الأمريكيون إفطارهم وأي وجبة خفيفة دون صحبة.
لماذا تكون الوجبات التي نأكلها دون رفقة منزوعة المتعة أو مختصَرة كما لو كنا نتناولها خلال توقف قصير على طريق سفر؟
حسب إحصائية مجموعة «Hartman»، المهتمة بتحليل ثقافات الطعام والاستهلاك، فإن أكثر من 46% من الأمريكيين، يتناولون الغداء وحيدين لأنهم غير مرتبطين عاطفيًّا بأحد، أو لأن مواعيدهم تختلف عن شركائهم. نفس الأمر يحدث في بلدان أخرى.
لكن هذا ربما نزع المتعة..
تكمن المشكلة في أن الوجبات التي نتناولها وحيدين تكون سريعة ومنسية. في الولايات المتحدة، مثلًا، تقول «مجموعة هارتمان» إن تناول الأشخاص لوجباتهم وحيدين، أدى إلى تحول كل الأطعمة إلى وجبات خفيفة سريعة (Snackification Of Meals).
تتساءل الكاتبة: لماذا تكون الوجبات التي نأكلها دون رفقة، منزوعة المتعة أو مختصَرة كما لو كنا نتناولها خلال توقف قصير على طريق سفر؟ لماذا لا نتبع المقولة الفرنسية التي تؤكد أن «الحياة أقصر من أن نشرب نبيذًا رديئًا»، حتى لو اضطررنا إلى أن نأكل ونشرب وحيدين؟
فرنسا تتمسك بمتعة التذوق
لدى فرنسا نصيبها من سلاسل مطاعم الأكل السريع. لكن على مدار التاريخ كان الفرنسيون يقضون وقتًا أطول في تناول الطعام مقارنة بغيرهم من الأمم.
يستغرق تناول الطعام أكثر من ساعتين يوميًّا عند الفرنسيين، وفق دراسة توردها الكاتبة، أجرتها منظمة «التعاون والتنمية الاقتصادية». حتى لو كان الوقت مضغوطًا، يضفي المبتكرون في عالم الطهي لمسات حديثة على الوجبات السريعة والسندويتشات، مستخدمين مكونات مفيدة تجعل منها وجبات مغذية وممتعة.
جرى التقليد في الفاتيكان على أن يتناول البابا وجباته وحيدًا، لكن عام 1959 كشفت «بوسطن ديلي» عن تمرد البابا «يوحنا الثالث والعشرين» على ذلك.
تقول الكاتبة «أليس توكلاس» إن الفرنسيين «يمنحون تناول الطعام نفس التقدير والاحترام والذكاء والاهتمام المفعم بالحيوية، الذي يعطونه للفنون، كالرسم والأدب والمسرح». هذا التاريخ من الأكلات المدروسة بعناية والشغف بجودة النبيذ، جعل باريس مكانًا مثاليًا لمن يريد ممارسة فن التذوق.
لكن الاضطرار إلى تناول الطعام دون رفقة يضايق كثيرًا من الناس. كان الروائي الأمريكي «ناثانيال هوثورن» يحب العزلة، فكتب إلى زوجته في عام 1844، وهو في ولاية ماساتشوستس، يقول إن الوحدة أمر جميل، ما عدا وقت الأكل. إذ أكد في يومياته أنه «خَجِل من أنه يأكل وحيدًا»، فعندها يصبح تناول الطعام أشبه بإشباع غريزة حيوانية. رأى «هوثورن» أن تناوله الوجبات وحده أكثر ما في تجربته حزنًا.
حتى البابا لم يتحمل تناول الأكل دون رفقاء. جرى التقليد في الفاتيكان على أن يتناول البابا وجباته وحيدًا، لكن في عام 1959، السنة الأولى التي أعقب تنصيب البابا «يوحنا الثالث والعشرين»، نشرت «بوسطن ديلي» عنوانًا كشف عن تمرد البابا على ذلك التقليد: «إنه يكسر التقليد، ويرفض أن يأكل وحيدًا».
قال البابا إنه حاول أن يأكل دون صحبة لمدة أسبوع، لكنه لم يشعر بالراحة. وذكر أنه بحث في الكتاب المقدس عن دليل يقول إن عليه أن يأكل وحيدًا، فلم يجد. عندما كف عن تناول الأكل وحيدًا، تحسن الوضع.
حتى السينما لا ترحم الوحيدين
عبر السنوات، أصبحت مسألة أن تأكل وحيدًا في مكان عام أمرًا يمثل تحديًا كبيرًا. يقول عالم الاجتماع «إرفينغ جوفمان» إن الذي يأكل وحيدًا دون رفقة في مكان عام، هو الأكثر هشاشة. فالشخص الذين يتمتع برفقة آخرين يشعر بالحماية، ويتمتع بالقدرة على الاختيار والحرية أكثر من الوحيد.
حين يدخل الممثل الأمريكي «ستيف مارتن» مطعمًا مكتظًّا، في فيلم «The Lonely Guy» الذي أنتج عام 1984، ويقول للنادل إنه لا يوجد أحد برفقته، يتعجب النادل مستنكرًا :«أنت وحدك؟». ويهدأ صخب المطعم فورًا، وتتوقف الموسيقى ورنين الفضيات وثرثرة الزبائن، ويستدير الحضور ليحملقوا في ذلك الوافد الوحيد. وبعد صمت طويل نوعًا، يقول النادل أخيرًا :«اتبعني يا سيدي». ويسلط المخرج بقعة باردة من الضوء على «مارتن» وهو في طريقه إلى طاولة تتوسط الحشود الذين ما زالوا يحدقون في عجب.
يعكس فيلم «The Lobster» الذي أنتج في عام 2015، نفس المخاوف. في عالم غرائبي يتحول فيه الناس الذين يظلون عزابًا إلى حيوانات، يُجمَع العزاب في صالة فندق ويجبرون على مشاهدة مسرحيات، كانت إحداها بعنوان «رجل يأكل وحيدًا»، وفيها يختنق الرجل ويموت في أثناء تناوله الأكل، دون أن ينقذه أحد. في مسرحية تالية بعنوان «رجل يأكل مع امرأة»، يختنق الرجل نفسه مجددًا، لكن وجود امرأة تجلس أمامه على المائدة ينقذ حياته، فهي تساعده على التخلص مما علق في حلقه بمهارة، ويصفق الحضور.
تأثير بقعة الضوء
قلقُنا بشأن نظرة الآخرين إلينا مهم إلى الدرجة التي دفعت مجموعة من الباحثين، إلى تسميته «تأثير بقعة الضوء» (The spotlight effect)، وذلك من وحي معاناة بطل فيلم «The Lonely Guy». يقول «توماس جيلوفيتش»، أستاذ علم النفس بجامعة كورنيل، إن الناس يبالغون في تقدير مدى ملاحظة الآخرين لتصرفاتهم ومظهرهم.
في إحدى الدراسات، ارتدى المشاركون قمصانًا طُبعت عليها صور لأشخاص يحبونهم، مثل «بوب مارلي» و«مارتن لوثر كينغ». في دراسة أخرى، ارتدى المشاركون قمصانًا تحمل صورًا، أو عبارات يمكنها أن تكون محرجة.
وجد الباحثون أن المشاركين في الدراستين تأثروا بتركيزهم هم أنفسهم مع ما يرتدونه، بصورة شوَّهت توقعاتهم لمستوى الانتباه الذي ستحظى به تلك القمصان المطبوعة.
أظهرت دراسة أخرى راقبت أشخاصًا يشاركون في نقاش جماعي، نتائج مشابهة. فحين قيَّم المشاركون إسهاماتهم في المناقشة، بالغوا في تقدير «بروز» ما قالوه مقارنة بمشاركات الآخرين. قال الباحثون في نتائجهم إن «خطأ اجتماعيًّا واضحًا في أول موعد غرامي، أو عثرة محرجة في أول الطابور، أو ارتكاب خطأ في قراءة نص مهم في خطاب معد مسبقًا، قد تبدو أمورًا مخجلة لا يمكن نسيانها. لكنها كثيرًا ما تمر دون أن يلاحظها الآخرون».
بعض المطاعم تناسب الوحيدين، لكن التمرد مفيد
مطعم بسيط على الطراز الفرنسي، مثل «تيورين»، قد يكون مبتغاك لو نويت تناول الطعام وحدك. فروَّاده يرتدون ما يشاءون، دون تقيد بزي معين. يمكنك أن تختار الطاولة التي تفضلها للجلوس. الطاولات صغيرة، فلن تشعر بأن الصحبة تنقصك. وإذا تطلعت حولك ستجد غيرك يأكلون وحيدين، ويتناولون إفطارهم بالسرعة التي تناسبهم.
تقول ستيفاني إنها حين بدأت تناول الطعام وحيدة خارج المنزل، كانت تختار مطاعم الأكل السريع. كانت الأسعار من وجهة نظرها مناسبة، ولم يكن رأي الناس مهمًّا لأن مطعمًا مثل «ماكدونالدز»، ممتلئ بوحيدين مثلها على أي حال.
لكن هذا الاختيار كان يعني التخلي عن فرص تناول طعام أفضل جودة، وفرصة تجربة مطابخ أخرى، والاستمتاع بأشياء مثل حسن الضيافة والأجواء الأنيقة التي تميز المطاعم الكبيرة. لهذا بدأت ستيفاني تأكل في مطاعم مبهجة تقدم الأطباق المحلية. متجنبة وقت الذروة الذي يتناول فيه الناس العشاء. مكَّنها تناولها لوجباتها وحيدة من حرية اختيار وقت مبكر لتناول العشاء، وهو أمر طالما اشتهته حتى ولو سخر منه آخرون باعتباره يناسب أشخاصًا في العقد الثامن من عمرهم، لا شابة في مقتبل العمر.
تحكي الكاتبة أنها صارت أكثر جرأة مع الوقت، وبدأت تجرب مطاعم أفضل. تعلمت أيضًا كيف تطلب طاولة لشخص واحد بالفرنسية، وكانت تتلقى ردة فعل إيجابية من المضيفين الرجال والنساء على حد سواء. أصبحت أيضًا تتناول الطعام في مطاعم المتاحف، وتقول إن عددًا منها يقدم طعامًا جيدًا إلى الدرجة التي تغريك بزيارة المتحف، فقط من أجل تجربة مطعمه.
تعترف الكاتبة بأنها خجولة، وتقول إنها كانت قلقة مما سيظنه الناس بها حين تتناول الأكل وحيدة. لكنها كانت أكثر قلقًا بشأن ما ستظنه بنفسها إذا لم تجرب الأمر. لم تكن تريد أن تفقد متعة التعرف إلى مدينة جديدة والاستمتاع بالحياة لأنها خائفة. لهذا قررت الخروج والتمرد على الخوف.
ينزل الركاب من الأتوبيس، ويجلسون على الحشائش في «بلاس دي فوج»، ويتنزهون في حديقة «فندق سالي»، مستمتعين بأصوات الطيور وموسيقى الهارب. في الخلف بوابة أقدم سوق أغذية في باريس، والذي يشتري منه السكان المشمش والأجبان والخبز والزبدة والزهور، بينما يشتري الآخرون الساندوتشات والفطائر. الوحدة فرصة للتأمل.
المرأة التي تأكل وحدها، ثائرة أم فاجرة؟
يزداد الأمر غرابة بعض الشيء، عندما يكون الشخص الذي يتناول طعامه وحده «امرأة». في كتابها «A Room of One’s Own»، كتبت الروائية البريطانية «فيرجينيا وولف» أنه كان من المستحيل أن تتحرك المرأة دون رفقة. وقالت إن الروائية «جين أوستن» لم تكن تسافر أو تتحرك عبر أنحاء لندن في حافلة أو تأكل وحدها في مطعم.
بل إنه حتى بداية القرن العشرين، كانت نيويورك تناقش قوانين تتناول ما إن كان يُسمح للمرأة بالخروج لتناول الطعام دون صحبة رجل.
تنقل «نيويورك تايمز» عن إحدى عضوات «النادي الجمهوري للنساء»، عام 1908، قولها إن عدم السماح للنساء بتناول الطعام وحدهن «حماية لكل النساء المحترمات». لكن رغم هذا الاعتراض، مرر النادي قرارًا في صالح قانون يسمح للنساء بالخروج إلى المطاعم لتناول الطعام دون رجل.
غير أن التنفيذ لم يكن سهلًا على أي حال. على سبيل المثال، قال صاحب مطعم لـ«التايمز» في عام 1964: «إذا أتت سيدة جميلة دون شريك، وطلبت طاولة، يتساءل الناس عن سبب مجيئها وحدها، ولي تجربتي مع هذا الأمر». لم يكن غريبًا أن يُنظر إلى النساء الوحيدات باعتبارهن ساقطات، تمامًا مثل النساء في لوحات «فان غوخ» و«مونيه».
لم تتحسن الأمور كثيرًا في عام 1970. إذ تذكر الكاتبة مقالًا نشرته إحدى المجلات في نيويورك، عن أنه «في هذه المدينة الأكثر تحررًا من غيرها، لا تملك المرأة حقًّا قانونيًّا لدخول مطعم». عندما افتُتح أول مطعم «نسوي» بعدها بخمسة أعوام، خُصِّص مكان للنساء اللاتي يأتين إليه وحيدات. وقالت صاحبة المطعم لمجلة «بيبول» في عام 1975، إن «المرأة التي تأتي لتناول الطعام، تعرف أنها لن تشعر بأنها غريبة الأطوار، ولن يزعجها الرجال».
كلْ وحيدًا.. أو برفقة كتاب
لمن يحبون القراءة بشكل عام، قد يكون وقتهم الذين يمضونه وحدهم على المائدة، فرصتهم الوحيدة للانفراد بكتاب.
في عام 2017، سُئلت الكاتبة الساخرة «فران ليبوويتز»، عن أسماء ثلاثة من الكتَّاب الذين قد تدعوهم لتناول عشاء أدبي، فأجابت: «لا أحد»، مضيفة أن مثل هذا العشاء ستكون فيه وحيدة مع كتاب.
ينتقد الناس فكرة القراءة على مائدة الطعام. لكن من يقرأون في أثناء الأكل يعرفون أن من يفعل ذلك لا يلقي بالطعام في فمه دون استمتاع. فمن جرب هذه العادة يعرف أنه يمكن الاستمتاع بالأمرين: الأكل والقراءة معًا.
بالنسبة إلى من بدأوا تجربة السفر أو الأكل دون رفاق، ربما يكون الكتاب رفيقًا رائعًا لهم. ولمن يحبون القراءة بشكل عام، قد يكون وقتهم الذين يمضونه وحدهم على المائدة، فرصتهم الوحيدة للانفراد بكتاب. تقول الكاتبة إنها تستمتع برؤية الآخرين وهم يقرأون في عزلة.
يزداد الوحيدون.. والمطاعم تستجيب
في السابق، كان تناول الطعام وحيدًا أمرًا يخص من يسافرون في رحلة عمل. أما اليوم، فقد أصبح جزءًا أساسيًّا من الحياة اليومية. وفق ستيفاني، ففي الولايات المتحدة ارتفعت نسبة حجوزات المطاعم لشخص واحد بأكثر من 60% عام 2015، وفق «OpenTable»، وهي خدمة على الإنترنت تساعدك على حجز طاولات المطاعم. وبالمثل، ارتفعت نسبة من يتناولون الطعام وحيدين عبر أنحاء أوروبا وأجزاء من آسيا كذلك.
بدأت أجواء المدن تتغير بعدما أصبح كثير من الناس الذين يعيشون وحدهم، يتناولون الطعام خارج المنزل، يساعدهم في ذلك ظهور مفاهيم صديقة لظروفهم وأوضاعهم، مثل أماكن الأكل في محلات السوبر ماركت الكبيرة.
تهدف عدد من المطاعم اليوم إلى جذب رواد المطاعم الوحيدين من خلال إعطائهم فرصة مشاهدة التلفزيون، واستخدام «واي فاي» مجانًا، وشحن هواتفهم، واستخدام التابليت خلال الوجبة، رغم أن كل هذه المميزات تأتي على حساب الاستمتاع بالأكل نفسه.
على الجانب الآخر، يوجد «إينمال»، وهو مطعم فتح أبوابه في أمستردام عام 2003. كل طاولة فيه تكفي شخصًا واحدًا، لكن لا يوجد واي فاي. رواد المطعم يأتون وحيدين ويأكلون وحيدين، والمطعم يشجعهم على أن يكونوا من دون اتصال بالإنترنت بعض الوقت، ليقرأوا أو يرسموا أو يستمتعوا بالأكل والموسيقى. في هذا المطعم «تكون بصحبة نفسك» وفق صاحبة المكان.
باريس واحدة من المدن التي تناسب من يسافر وحده. كتب «آي جاي ليبلينغ»، المختص بالكتابة عن فنون الطعام، قائلًا في كتابه «Between Meals»، إنه تعلم في باريس فن تناول الطعام، مضيفًا: «كثيرًا ما كنت وحيدًا، لكن نادرًا ما شعرت بالوحدة»، مضيفًا أنه استمتع بقراءة الجرائد والكتب التي كانت خير رفيق له.
تستمتع الكاتبة بالتطلع إلى مظاهر الحياة في الصباح الباكر، إلى المدينة وهي تستنشق نسمات الصباح الأولى وتفتح عينيها مستقبلة صباحًا جديدًا، فتطرب لرنة الفنجان وهو يلامس صحنه، وخشخشة صفحات الجرائد، وصوت ذلك المار وهو يطلب ولاعة ليوقد سيجارته. الأهم أنها تستمتع برفقة نفسها وهي تجلس إلى طاولتها المستديرة، وتأكل البسكوت وتشرب القهوة متأملة باريس.