منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت التحركات النسائية في الخليج بحثًا عن مساحات وحقوق أكبر للمرأة، بداية من حق التعليم حتى التغيير في بعض العادات والتقاليد المجتمعية التي تهضم حقوقهن كنساء.
تُعنى هذه التنظيمات والحركات بالمواطنات وحقوقهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحسب المساحة الممكنة داخل كل دولة وخصوصيتها. وقد لا يستخدم بعضها مصطلح «نسوية» في العمل والمطالبات، لذلك مع تفرقتنا بين مصطلح العمل النسائي والعمل النسوي، إلا أن وجود هذه التنظيمات هو بداية المطالبة بالمساواة والعدالة بين الجنسين بغض النظر عن التنظير النسوي، لذلك نعتبرهما في هذا السياق متماثلان.
حين بدأت هذه التنظيمات كانت الإمارات الخليجية بدأت تتنفس بسبب جريان الثروة في أيدي أفرادها، فاتسعت حركة التعليم والاحتكاك بالأفكار خارج هذه المجتمعات الصغيرة، مما أسهم في في نهضة على عدة مستويات، أحدها التوق لحقوق أكبر للنساء.
على الجانب الآخر، غيرت الثروة نظام الحياة لدى أفراد المجتمعات الخليجية، فالطبقة الوسطى التي كانت تعمل بنفسها داخل المنزل، صار من السهل عليها استقدام عمال للمساعدة في الأعباء المنزلية، وهو أمر كان مقتصرًا على الطبقة التجارية الغنية في تلك المجتمعات. مع الوضع في الاعتبار أن غالبية العمالة المنزلية لهذه الطبقة التجارية ما كانوا من الخارج، بل من الدول الخليجية نفسها في كثير من الأحيان، قبل أن تبدأ موجة الاستقدام من جنسيات أخرى عربية أو أجنبية.
بعد ذلك، صار وجود العمالة المنزلية جزءًا من كل بيت تقريبًا، فحتى عام 2018، كان عدد العمالة المنزلية في البحرين يقترب من 90 ألفًا، و715 ألفًا في الكويت حتى 2019، ونحو 2.9 مليون في السعودية، و26 ألفًا يعملون في قطاع الخدمات الشخصية والاجتماعية في الإمارات، وتشكل العمالة المنزلية الجزء الأكبر منهم، وفي قطر هناك 174 ألفًا من العمالة في قطاع العمل المنزلي، و271 ألفًا في عمان.
«ميري جيبي شاي»
من المهم قبل الحديث عن أي وضع للعمالة المنزلية، الحديث عن قانون الكفالة المتبع في الدول الخليجية، وهو السلطة التي يملكها صاحب العمل في مواجهة العامل.
لا يمكِّن القانون العاملين من الاحتفاظ بأوراقهم الرسمية ولا تغيير عملهم إلا بإذن من الكفيل، وغالبًا ما يستلزم هذا دفع مقابل مالي، بالإضافة إلى عدم مقدرة العامل على تحديد ساعات عمله أو راحته أو أيام إجازاته. ويتكرر كثيرًا أن يتوقف صاحب العمل عن دفع الرواتب لفترات طويلة.
وعلى الرغم من التغييرات التي تجريها دول الخليج في قوانين العمل لديها، فإن الأوضاع بقيت بشكل كبير كما هي في الواقع العملي، إذ أن هذه القوانين لا توضح آلية لمراقبة أصحاب العمل في إعطاء حقوق عمال المنازل التي وردت في التعديلات القانونية، والتي صارت حقوقًا مكتوبة لا تنفذ، طالما لا توجد آلية محددة للتأكد من تنفيذها ولا وعي لدى العامل بها.
عند هذه النقطة يجب أن نبدأ في التفرقة بين عمال المنازل من الرجال وعاملات المنازل من النساء. ورغم أن الاثنين يشتركان في الوقوع تحت مطحنة الكفيل التي قد تهرسهما أو تُبقي عليهما حسب رحمته وأخلاقه، فإن نوع الانتهاكات يختلف بين الطرفين، فالتمييز الجندري يطال هذه الفئة أيضًا.
تواجه العاملات المنزليات انتهاكات متعلقة بجنسهن. ولأجل اعتبارهن تحت سلطة أصحاب العمل بشكل كامل ولسن موظفات، فإنهن يخضعن لجزء كبير مما تخضع له النساء في المجتمع الخليجي، لكن بدرجة أعمق.
على سبيل المثال: في الكثير من المنازل الخليجية تُمنع عاملة المنزل من الخروج دون مرافقة أصحاب العمل، ولا تعتبر امرأة بالغة قادرة على اتخاذ قرارها، ولا موظفة تستحق إجازة خارج مقر عملها، عوضًا عن منعها في أحيان كثيرة من استخدام الهاتف والتواصل مع من هم خارج المنزل.
تختلف درجة الحبس والسماح بالخروج من منزل لآخر، بحسب ما تتعامل به الأسرة مع النساء بشكل عام، ومع امرأة وعاملة أجنبية عليها ضِعف السلطة من قبلهم بشكل خاص.
إذا ما قارنا مسألة الخروج بين العامل الرجل والعاملة المرأة، سنرى أنه يسهل على الرجل الخروج والتنزه، فغالبية العمال الرجال في المنازل من سائقي سيارات أصحاب العمل، أو العاملين في الحراسة أو الزراعة، وكلها أعمال منزلية لكنها تتيح الفرصة للخروج من مقر العمل.
النظام المجتمعي هنا يحكم بشكل كبير، وهو نفس النظام الذي تشتكي منه نساء المجتمع أنفسهن، سواء في ما يتعلق بامتيازات الرجل التي تفوق امتيازات المرأة، أو توزيع الأدوار الجندرية في الأعمال.
مثال آخر: العاملات عرضة لجرائم التحرش والاعتداء الجنسي في المنازل، وسبيلهن للشكوى ضعيف، إما بسبب صعوبة الوصول للأمن بسبب الحبس داخل المنزل، أو صعوبة إثبات حدوث الاعتداء في حال نجاحها في الهروب من المنزل وتقديم شكوى. وقد توأد الشكوى قبل ولادتها لأسباب مختلفة، منها الشبكات الاجتماعية لدى المواطنين وعدم المساواة العملية أمام سلطات إنفاذ القانون بين المواطن والأجنبي في حالات كثيرة، والخيار الأكثر اتخاذًا هنا هو الصمت.
تكمن المشكلة الأكبر في ما لو اشتكت العاملة لصاحبة المنزل، إذ تُلام الضحية على ما تعرضت له: لبسك؟ طريقتك في الكلام؟ هل ذهبت إلى غرفته؟ هل حاولت إغواءه للوصول إلى مال أو وعد بالزواج؟ وتنتهي المسألة غالبًا بإيقاف العاملة عن العمل وإعادتها إلى بلدها، دون أن تتخذ شكوى التحرش الجنسي مسارها الطبيعي كجريمة قانونية وإنسانية.
هنا أيضًا نعود إلى النظام المجتمعي الخليجي، الذي يلوم ضحايا التحرش من النساء على ما تعرضن له. وهنا نتحدث عن اللاتي يتمكنَّ من الشكوى، بخلاف الأعداد الكبيرة التي لا تقدر على ذلك. النساء هنا كتلة واحدة (مع اختلاف شرائحهن والمشكلات الخاصة بكل منها)، يخضعن لنظام مجتمعي واحد، ويعامَلن بطريقة واحدة في قضايا الاعتداء الجنسي: الإسكات واللوم، لا فارق بين عاملة منزل أو صاحبة هذا المنزل.
نظام أبوي يلد نظامًا أصغر
النساء من المواطنات الخليجيات هن أرباب العمل الحقيقيات بالنسبة لعاملات المنازل، فالعاملة تعتبر مساعدة لربة الأسرة، وراعية لحاجاتها وحاجات أبنائها وزوجها. إذًا، هل تستفيد هذه المرأة من قمع تلك؟
نحن أمام نظام أبوي داخل النظام الأبوي الكبير، نفس القيود والقواعد السلطوية والتمييز الجندري الذي يمارَس على نساء المنزل من رجاله أو من المجتمع، تمارسه نساء المنزل على المرأة الأجنبية العاملة، بغض النظر عن ثقافتها المختلفة عن المجتمع الذي تعمل فيه، وبغض النظر عن أنها موظفة في مقر عملها، لا جزء من الأسرة وعليها اتباع قواعدها، ودون وعي إلى أن الضحية تعيد إنتاج القمع الذي تخضع له وتمارسه على ضحية أخرى، حتى لو كان القمع الذي تخضع له ربة المنزل غير مباشر، أي ليس من رجل المنزل نفسه، بل من نظام المجتمع بشكل أكبر.
وجود هذه المرأة العاملة يتيح للمرأة الخليجية العيش في مساحة أكبر من الرغد، ويوفر لها وقتًا لنفسها ولزوجها ولحياتها خارج المنزل، ويسهم في جعلها تبدو امرأة أفضل وأكثر قبولًا في محيطها، فالبيت نظيف مرتب، والطعام جاهز، والأطفال يرتدون ملابس نظيفة، والزوج لا يشكو من وجبة الإفطار كل صباح. هذا ما توفره تلك المرأة الأجنبية التي تقيم في المنزل الخليجي، سواء كانت تفعل هذا كله وحدها أو بمساعدة أخريات في نفس وضعها، بحسب الحالة المادية للأسرة وعدد أفرادها.
لو حقَّ للعاملة الخروج من مقر العمل بعد انتهاء ساعاته، والحصول على أيام مقررة للإجازة، وإمكانية إنهاء العقد وترك العمل، وكثير من الحقوق الأخرى التي يجب أن تحصل عليها، لشكَّل ذلك خطرًا على رفاهية العيش والمساحة والشكل الاجتماعي لسيدة المنزل. فعدد ساعات راحتها سيقل، ونشاطاتها في الخارج ستكون مرهونة بجدول العاملة وأيام إجازاتها، وستضطر إلى مزاولة العمل المنزلي بنفسها.
هنا فقط نتمكن من إجابة سؤالنا السابق: هل تستفيد هذه المرأة من قمع تلك؟ نعم، بكل تأكيد.
الأمر أشبه بالمسألة الإقطاعية، فتحرير العبيد تسبب في مشكلة اقتصادية لأصحاب الأراضي، فكان إبقاؤهم عبيدًا مهمًا لاستمرارية العمل الزراعي دون توقف، من أجل ربح أكبر وعيش رغد لصاحب الأرض. المرأة الخليجية هي المستفيد الأول من وجود امرأة أجنبية ناقصة الحقوق في منزلها، وبدلًا من أن نُعيد الرجل إلى المنزل ليكون شريكًا حقيقيًا داخله، يسهم في أعمال بيته الذي يعيش فيه، نستقدم امرأة أخرى لتدخل في نفس العجلة التي تدور داخلها ربة الأسرة.
حقوق المرأة.. أي امرأة؟
لخصت البحرينية هناء بوحجي التسلسل الزمني لتاريخ الحركات النسائية المنظمة في الخليج، والذي بدأ في البحرين عام 1955 مع «جمعية نهضة فتاة البحرين»، تلتها «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» في الكويت عام 1963، ثم «جمعية المرأة العمانية» عام 1972، وبعدها «جمعية نهضة المرأة الظبيانية» في الإمارات عام 1973، والتي صار اسمها «مؤسسة التنمية الأسرية» حاليًا، بينما تغيب الحركات النسائية المنظمة عن قطر والسعودية.
خلال سنوات إنشاء تلك الجمعيات والتنظيمات الأولى داخل المجتمع الخليجي، كان التعليم العالي والنشاط الاجتماعي والسياسي والعمل الحقوقي والوعي بحقوق المرأة قضايا ينتشر عند طبقة اقتصادية معينة، تملك تكاليف السفر للتعلم في الخارج، ولدى نسائها الحرية الكافية للدراسة والعمل بسبب «انفتاح» أولياء الأمور في تلك الطبقات، ولديهن فرصة الاحتكاك بالأفكار الأخرى في الخارج، أو حتى داخل البلد بسبب القرب من الوفود القادمة من الخارج.
هذه الاعتبارات وغيرها جعلت من التنظيمات النسائية أقرب إلى أن تكون حكرًا على عضوات من طبقة اقتصادية/اجتماعية معينة، مما أضفى طابعًا برجوازيًا على الجمعيات النسائية، انعكس على نوعية المطالبات واستمر حتى الآن في بعضها.
صار بعض هذه الجمعيات والتنظيمات أشبه بالنسوية البيضاء الغربية، التي اهتمت بحقوق المرأة البيضاء دونًا عن غيرها من النساء من الأعراق والطبقات والأقليات الأخرى، ونظرت إلى مشكلاتها فقط على أنها مشكلات المرأة بالمطلق، وتغاضت عن اضطهاد بقية النساء، دون اعتبار لتقاطع العرق أو الطبقة مع الجندر.
النسوية البيضاء نسوية مجحفة ومتعالية وقاصرة، بسبب الامتيازات التي تحوزها، ولا تناهض النظام الأبوي لكونها ضد هرميته التي تُعلي من شأن الذكر على الأنثى، بل تناهض أن يعلو شأن الذكر على أنثى بيضاء. وتحورت النسوية البيضاء أكثر، فصارت نمطًا فكريًا يتكرر لدى الطبقات والألوان الأخرى التي تمارس نفس التصرفات.
هذا ما ينطبق على بعض العمل النسوي أو النسائي الخليجي، فالمرأة المقصودة في بعض التنظيمات الخليجية هي امرأة محددة، إما من عرق معين أو طبقة معينة، أو قد يصل الإقصاء إلى الميل السياسي أو الجنسي. كيف يمكن قلب النظام الأبوي وجعله نظامًا مساويًا وعادلًا إذا كانت المطالِبات به لا يتمتعن بحس العدالة ولا يؤمنَّ بالمساواة بينهن؟
إذا ما أخذنا «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» في الكويت مثالًا، سنجد اهتمامات الجمعية بمعزل عن بعض الطبقات، ولا تصل حركتها إلى بعض فئات وشرائح المجتمع مثل نساء القبائل، بالإضافة إلى أن الجمعية لا تعتبر النساء غير الكويتيات اللاتي يعشن في الكويت من أولوياتها، فليس من برامجها المعتمدة ما يتعلق بالنساء البدون (عديمات الجنسية)، ولا العمالة المهاجرة مثل عاملات المنازل.
هذا الانفصال مدعاة للتساؤل: أي امرأة هي المقصودة عند المطالبة بحقوق المرأة؟
إذا كانت الإجابة هي اقتصار العمل على حقوق المرأة الكويتية، أليس هذا انفصالًا عن واقع أن كل النساء في الكويت يواجهن نفس الأنظمة التمييزية، وباختلاف مشكلاتهن فإنهن يتقاطعن في نفس المساحات القمعية؟ ألسنا هنا نتحدث عن نوع اجتماعي واحد داخل نفس البقعة الجغرافية؟ وهذا قد يسري على تنظيمات أخرى في الخليج.
نحو نسوية خليجية جديدة
بعد عام 2011، والذي تسيدت فيه النسوية السعودية الساحة الحقوقية، وأسهمت بشكل كبير في عودة الفكر النسوي للخليج وتعالي الأصوات المطالبة بالحقوق والعدالة والمساواة، صار كثير من النساء في الخليج يعبرن عن نسويتهن بشكل أكثر وضوحًا، وأسهمت البارزات منهن في تجديد الخطاب النسوي العربي ليصبح أكثر تقاطعية وأكثر انفتاحًا ووعيًا بمشكلات الأقليات.
رائدات هذه الموجة الجديدة من النسوية في الخليج فتيات تجاوزن الانفصال الطبقي لسابقاتهن، وتقاطعن مع عاملات المنازل وغيرهن من الفئات باعتبارهن يخضعن لنفس النظام الأبوي المجحف.يعمل بعضهن على نشر الوعي لمناهضة نظام الكفالة، وتوعية العاملات بحقوقهن، وتحريك الرأي العام في حال ظهرت بعض الانتهاكات.
إلا أن هذه الجهود تبقى فردية بشكل كبير، اجتهادات شخصية لا تشكل تنظيمًا واضحًا، مما يبعثر الجهود رغم أهميتها. لهذا من المهم أن تشمل التنظيمات النسوية أو النسائية في الخليج الفئات المسحوقة والتي لا صوت لها، إذ أن النوع الاجتماعي (الجندر) لهذه الفئات هو المساحة المشتركة، والتي على أساسها يحصل التمييز والمعاناة.
في نص لها بعنوان «كوماري»، كتبت منى كريم:
«عزيزتي كوماري، لا أعرف طبعًا إن كان اسمك كوماري أو غيره، جرت العادة في الخليج أن يغيروا اسم الخادمة فور وصولها، تقول لك الماما: اسمك مريم/فاطمة/كوماري/جاندرا، حتى قبل أن تعطيك دراعتك القطنية، ذاتها التي استخدمتها كوماري التي سبقتك قبل أن تهرب وتصبح حرة محشورة في غرفة واحدة مع 10 أخريات استبدلن الجدران بصور بهتت تحت المكيفات.
يا كوماري، قد يحدثونك بالإنجليزية ويعطونك غرفة لك وحدك، لكنهم سيلبسونك «يونيفورم» زهريًا، فليس على الجارية أن تكون مغرية بعد الآن.
أو قد يحدثونك بالعربية وبلغة الأصابع، تلك التي تعتمد على الإشارات في أحيان وعلى خدك في أحيان أخرى.
لربما ستضطرين لمساعدة الابن في اكتشاف رغباته الجنسية، أو حتى التضحية من أجل خيبات الأب الجسدية. في الحالتين، لا تركضين إلى مركز الشرطة، من هناك يأتي كل الآباء والأبناء.
كوماري، عليك قص شعرك بشكل مستمر، ماما قد تغضب ذات يوم وتأخذ ضفيرتك حبلًا في يدها.
اكتبي كل الأغاني التي تحبينها في دفتر، فلا يمكن إيجاد أي موسيقى منسية هنا.
اغضبي يا كوماري، اشنقي نفسك بحبل الغسيل، استخدمي سكينك خارج حدود الطبخ، لقني الماما والبابا و"البچه" درسًا، دعيهم يختلقون كل تلك الأساطير عن آلهتكم التي تطلب منكم في المنام دماء خليجية تروي كرش التاريخ.
اهربي يا كوماري واسرقي كل ما تجدين، على الأشباح أن تتصرف كأشباح».