كتبت: د. شهد الشمري و د. حسين العنيزي
كثيرًا ما يدور الجدل حول الاستخدام الأمثل لمصطلحات الإعاقة، فنجد على سبيل المثال بعض الناس يؤيد استخدام مصطلح «ذوي الاحتياجات الخاصة»، وآخرون يؤيدون استخدام مصطلحات أخرى مثل «المعاقين» أو «ذوي الإعاقة». والحقيقة أن لكل مجموعة من هؤلاء ما يستند إليه من مبررات وحجج لاستخدام المصطلح الذي يراه ملائمًا عند الإشارة للأفراد المعاقين.
«المعاقون» مصطلح مستخدم بشكل واسع في بريطانيا، وخاصة من قبل أنصار النموذج الاجتماعي للإعاقة، الذين يقولون إن الإعاقة نابعة من المجتمع، أي أن المعاقين معاقون بشكل رئيسي بسبب العوائق الاجتماعية. أما مصطلح «ذوي الإعاقة» فيشيع في أمريكا وفي الاتفاقيات الدولية، ويربط الإعاقة بشكل أساسي بالجسد (People First Language).
في هذا الموضوع، نستكشف المصطلحات والمفاهيم المختلفة للإعاقة، وارتباطها بنماذج الإعاقة التي ظهرت بشكل أساسي في العالم الغربي.
دراسات الإعاقة وتطور المصطلحات
يرتبط تطور المصطلحات المستخدمة في مجال الإعاقة بشكل أساسي بتطور دراسات الإعاقة في العالم الغربي، فكثيرًا ما روجعت المصطلحات وتغيرت عبر حقب زمنية مختلفة، حسب تطور الأرضيات المعرفية المرتبطة بمجال الإعاقة.
عندما يُشار إلى المعاقين، يرتبط المصطلح المستخدم ارتباطًا وثيقًا بالسياق أو المجال الذي يستخدم فيه. فنجد على سبيل المثال استخدام مصطلح «ذوي الاحتياجات الخاصة» بشكل واسع في المجال الطبي أو عند التشخيص الإكلينيكي، وبذلك يرتبط بما يسميه علماء دراسات الإعاقة النموذج الفردي/الطبي للإعاقة (The Individual Model of Disability).
انعكس الاستخدام الواسع لهذا المفهوم على المجال التربوي، إذ ظهر ما يسمى بمفهوم «الاحتياجات التعليمية الخاصة» (Special Educational Need). ويمكن إرجاع هذا المصطلح إلى تقرير لجنة التحقيق في تعليم الأطفال المعاقين والشباب (The Education of Handicapped Children and Young People)، برئاسة الفيلسوفة الإنجليزية «ماري وارنوك» في العام 1978، إذ طُرحت ثلاثة نماذج لدمج الأطفال المعاقين مع غير المعاقين: الدمج المكاني، الدمج الاجتماعي، الدمج الوظيفي.
بناء على هذا المفهوم، أُسست مدارس خاصة للمعاقين تعتني بمجموعات مختلفة من الإعاقات، فتدعم احتياجاتهم الطبية، والعقلية، والنفسية، والمعرفية. ومع ذلك، تشجع القوانين الدولية دمج الأطفال المعاقين في المدارس العامة متى سنحت الفرصة.
في بريطانيا على سبيل المثال، ينص قانون التعليم لعام 1981 على أنه يجب تعليم الأطفال في المدارس العامة كلما كان ذلك ممكنًا. وبهذا، ظهر مفهوم جديد للدمج (Integration)، وهو أن يكون التلميذ المعاق جزءًا من المدرسة في التعليم العام، بينما يُخصص له فصل دراسي مجهز ودعم إضافي حسب نوع إعاقته.
مع ذلك، وجد كثير من الباحثين في دراسات الإعاقة إشكاليةً في مفهوم تعليم الاحتياجات الخاصة، وأيضًا مفهوم الدمج المقدم بهذا الشكل، مشددين على أن هذه المفاهيم تؤدي إلى زيادة في عزل المعاقين عن أقرانهم غير المعاقين، وكذلك عن المجتمع. بالإضافة إلى أن إشكالية هذه المدارس تكمن في حصر الإعاقة في الجانب الجسدي، من خلال وضع اللوم على المعاق ومحاولة «إصلاحه» ليتكيف مع النظام المعمول به (المخصص بشكل أساسي للأفراد غير المعاقين)، وليس إصلاح النظام ذاته ليكون ملائمًا للمعاق.
الإعاقة اجتماعية أم جسدية؟
ظهر مفهوم جديد للدمج (Inclusion) يتيح للأفراد المشاركة والاندماج بشكل كامل في المجتمع وفي جميع مناحي الحياة.
وبناءً على هذا المفهوم الجديد، وضعت منظمة اليونسكو بيان سالامانكا لعام 1994، الذي شدد على مبدأ استيعاب المدارس لجميع الأطفال ليكونوا مدمجين مع أقرانهم غير المعاقين في نفس الفصول الدراسية بغض النظر عن أي إعاقة. ويتماشى هذا المفهوم الجديد مع النموذج الاجتماعي للإعاقة (The Social Model of Disability)، الذي وضعه عالم الاجتماع والناشط في مجال حقوق الإعاقة البريطاني «مايكل أوليفر» عام 1981.
يشدد النموذج الاجتماعي للإعاقة على أن الإعاقة، بشكل كبير، اجتماعية وليست متعلقة بالجسد بشكل رئيسي. لذلك فُرِّق بين الإعاقة الجسدية (Impairment) والإعاقة الاجتماعية (Disability). ومن هذا المنطلق، شدد باحثو الإعاقة الرواد والمناصرين للنموذج الاجتماعي للإعاقة، مثل أوليفر و«فيك فينكلشتاين» و«كولين بارنز»، على إصلاح المجتمع ليكون ملائمًا للأفراد المعاقين.
بذلك، تغيرت النظرة الطبية السائدة التي تركز على «إصلاح» جسد المعاق، وجرى توجيهها إلى وضع اللوم على المجتمع وإصلاحه، من خلال تجهيز المباني التي تسهل حركة المعاقين داخل المجتمع، والعمل على رفع الوعي لدى غير المعاقين بقضايا الإعاقة، والحد من التمييز ضد المعاقين في التعليم والوظائف، والحد من القمع الممارس ضدهم.
لم يهتم منظرو النموذج الاجتماعي بالعمل على تغيير اتجاهات الأفراد غير المعاقين وسلوكهم نحو المعاقين فحسب، بل اهتموا أيضًا بالجانب اللغوي عند التعبير عن الإعاقة، باعتبار أنها تعطي دلالات سلبية في الذهن. فنجدهم، على سبيل المثال، يبتعدون عن كل مصطلح يعرِّف الإعاقة من الناحية الطبية أو يركز على الإعاقة الجسدية، فتُرفض مصطلحات مثل «ذوي الاحتياجات الخاصة» أو «ذوي الإعاقة» أو «المشلولين»، لأن جميعها يقصر الإعاقة على الجانب الجسدي والطبي، ويهمل الجوانب الاجتماعية للإعاقة.
يرى منظرو النموذج الاجتماعي أن هذه المصطلحات لا تساعد المعاقين على الدمج الاجتماعي والتحرير (Emancipation). ويرفضون كذلك عبارات أخرى تنظر إلى المعاقين بنظرة عاطفية أو تراجيدية، مثل عبارة «يعاني من إعاقة» أو «ضحية إعاقة»، واستحدثوا بدلًا منها عبارات أخرى مثل «لديه إعاقة» أو «معاق»، مشددين على أن المعاقين معاقون بسبب العراقيل التي وُضعت من قبل المجتمع، وهو الذي يجب أن يُلام وليس أجساد المعاقين.
اهتم المنظرون كذلك بالمصطلحات المتعلقة بالجوانب التفصيلية للإعاقات، خاصة الإعاقات التعليمية (Learning Disabilities)، فنجدهم على سبيل المثال يرفضون بشدة وصف المعاقين التعليميين بكلمات مثل «أحمق» أو «متخلف عقليًا» أو «معاق ذهنيًا»، ويرشحون عبارات مثل «الإعاقات التعليمية» أو «صعوبات التعلم». كذلك، رُفضت كلمات تستخدم عند الإشارة إلى غير المعاقين، مثل «عاديين» أو «أسوياء» أو «أصحاء»، باعتبارها جارحة بالنسبة للمعاقين، وجرى تغييرها إلى كلمة «غير المعاقين».
السرد الجسدي: المنظور الثقافي للإعاقة
لم يقتصر الاهتمام بالجانب اللغوي على أصحاب النموذج الاجتماعي، بل وصل ذروته مع المهتمين بما يسمى المنظور الثقافي للإعاقة (Cultural Disability Perspective)، إذ اهتم أصحاب هذا المنظور بدراسة كيفية تشكُّل مفهوم الإعاقة والخطابات حولها عبر عدة ثقافات وحقبات زمنية مختلفة. وبدأت صياغة هذا المنظور الثقافي في التسعينيات، بالتركيز على كيفية بناء الأفكار والخطاب والأيديولوجيات حول الإعاقة في ثقافات مختلفة.
يمكن تقسيم علماء المنظور الثقافي إلى مجموعتين: الأولى ظهرت في أمريكا الشمالية وتنتمي إلى قسم الجامعة «دراسات الإعاقة الثقافية» (Cultural Disability Studies)، والثانية تنتمي إلى المدرسة البريطانية والأوروبية بما يسمى «دراسات الإعاقة النقدية» (Critical Disability Studies).
تتضمن المجموعة الأولى أعمال مؤلفين مثل «لينارد ديفيس» و«شيلي ترمين» و«روزماري غارلاند تومسون»، في حين أن المجموعة الأخرى تضم أعمال كل من «مارغريت شيلدريك» و«دان غودلي» و«هيلين ميكوشا».
تأثر علماء المنظور الثقافي (من مدرسة أمريكا الشمالية والمدرسة الأوروبية) بشدة بكتاب ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، مثل «جوديث بتلر» و«ميشيل فوكو». واهتموا بشكل أساسي بتفكيك النصوص أو الخطابات اللغوية المتعلقة بالإعاقة من خلال تفكيك الثنائيات المتناقضة، مثل «معاق/جسم غير طبيعي» (Disabled/Abnormal Body) ونقيضه «الجسم القادر/الطبيعي» (The Able/Normal Body). وبالتالي، تركز اهتماماتهم على دراسة وفك الارتباطات الثنائية بين الإعاقة الجسدية (Impairment) والاجتماعية (Disability)، وبين الجسد (Body) والمجتمع (Society).
ومن هذا المنطلق، يرى المنظرون الثقافيون أن الإعاقة الجسدية لم تعد بيولوجية، وإنما تتعلق بشكل واسع بحياة الأفراد المعاقين، ويمكن التعبير عنها من خلال الخطابات المتعلقة بالتجارب الجسدية مع الإعاقات والألم والمرض. ومن هنا أتت أهمية ما يسمى بـ«السرد الجسدي» (The Body Narrative).
السرد الجسدي يُطلق عليه أيضًا «سرد المرض» (Illness Narrative)، وهو نوع مهم من الكتابة حول الإعاقة أو المرض نابع من الأفراد المعاقين، ويمكن تسميته بأدبيات المرض.
تعد الإعاقة في معظم الروايات الأدبية بمثابة مشهد مخيف. فكِّر على سبيل المثال في رواية «أحدب نوتردام». في هذه الرواية، يصور مؤلفها «فيكتور هوغو» بطلها الأحدب «كوازيمودو» على أنه شخص مرعب ومروع، وذلك بسبب إعاقته الجسدية. ويصوره كذلك على أنه منعزل وغير مندمج في المجتمع، ولا يجد فرصة العثور على الحب المناسب، وعندما يخرج من عزلته يعامله الجميع بأسلوب الشفقة.
عندما نفكر في الأمر، نجد أن الإعاقة والمرض يشكلان جزءًا كبيرًا من الحياة. كثير منا لديه مرض أو إعاقة خفية. لن يتمكن كثير منا من خوض الحياة إلى الأبد بصحة جيدة أو من غير إعاقة. بعضنا ستحصل له إعاقة في وقت لاحق في الحياة. ومع ذلك، يُنظر إلى الإعاقة كعقاب مأساوي ويجب الخشية منه.
هذا من شأنه أن يقلل تجارب الناس الحياتية. فعندما نقول «الحمد لله والشكر» فإننا، بينما نشكر الله على النعم التي لدينا والصحة الجيدة، نهمش ونرفض في الوقت ذاته شخصًا يعيش بإعاقة معينة ويشكر الله على نِعم مختلفة. هناك حساسية ثقافية بحاجة إلى التفكير فيها بدلًا من بساطة التفكير في «هل نستخدم لفظ الاحتياجات الخاصة لنكون أكثر حساسية؟». الأيديولوجيا المحيطة بالإعاقة أعمق بكثير من مسألة الاحتياجات الخاصة.
في القرن العشرين، ازداد عدد الكتابات عن المرض والإعاقة. فحتى الروائي وكاتب القصة القصيرة التشيكي فرانز كافكا، الذي كُسرت ساقه ذات مرة، كتب عن التجربة باعتبارها انقطاعًا عن الحياة. لكنه علق أيضًا على الكيفية التي أتاح له بها هذا الانقطاع مجالًا للتفكير في الحياة من زاوية مختلفة.
يفضل أنصار نموذج الأقلية للإعاقة استخدام مصطلح «ذوي الإعاقة»، المستخدم أيضًا في الاتفاقيات الدولية للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية.
حاليًا، هناك طفرة في مجال السرد المرضي. يعد الجسد الآن موضوعًا للاستكشاف في عالم الكتابة. على سبيل المثال، هناك كتاب «عندما تتحول الأنفاس إلى هواء» للدكتور «بول كالانيثي»، وهو أحد أفضل الكتب مبيعًا، ويمكنك العثور عليه بسهولة في مكتبات الكويت. هذا الكتاب ألفه طبيب يجد نفسه في مقعد المريض، ويُدرَّس الكتاب في عديد من كليات الطب اليوم. بعض الجامعات تدرِّس العلوم الإنسانية الطبية، التي هي عبارة عن مزيج من الطب والأدب وعلم الاجتماع وعلم النفس، لتذكير الأطباء بأصوات الأقليات، وفي هذه الحالة، صوت المريض الذي استُبعد من قبل المجتمع الطبي.
في هذا الموضوع، لم نتطرق إلى جميع العبارات والمصطلحات المتعلقة بالإعاقة، ولم نتطرق لجميع نماذج الإعاقة، وإنما تحدثنا عن أكثر نماذج الإعاقة هيمنة. يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، نموذج الأقلية للإعاقة (The Minority Model of Disability)، ويفضل أنصاره استخدام مصطلح «ذوي الإعاقة» المستخدم أيضًا في الاتفاقيات الدولية للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. أراد أنصار هذا النموذج تقديم الصفة الإنسانية (Humanity) على التصنيف أو التمييز (Labelling). وهم متأثرون بالناشطين الحقوقيين الذين يطالبون برفع المكانة الاجتماعية للسود في أمريكا. وقد أثر ذلك في اهتماماتهم بدراسة الإعاقة وربطها بالسلالة والعرق.
في النهاية، لا توجد إجابة صحيحة وخاطئة تمامًا في ما يتعلق بالمصطلحات المستخدمة في مجال الإعاقة والطريقة التي يجب أن نتحدث بها حول قضاياها، ولكن توجد تجارب عديدة نابعة من الأفراد المعاقين أنفسهم، وقد شكلت هذه التجارب دراسات الإعاقة الغربية منذ البداية. لذلك، نجد أنه من الملائم استخدام المصطلحات والكيفية التي يفضلها المعاقون ومجتمع الإعاقة عند الحديث عنهم، وليس ما يُقرر من قبل الأفراد غير المعاقين.