أنتمي إلى ذلك الجيل الذي عرف كرة القدم في التسعينيات، الجيل الذي تناول كرة القدم طازجة تمامًا، فلعبها في الشارع وحاكي كل المهارات التي شاهدها في التلفزيون، قبل أن تدخل كرة القدم عصر السرعة المطلقة والتنظيم التكتيكي.
تقع جماهير كرة القدم بأجيالها المتعاقبة فريسة للنوستالجيا دومًا. يمكنك أن تلاحظ ذلك بوضوح ما إن يبدأ نقاش بين أجيال مختلفة. يقسم أبي إن «بيليه» كان يقف في الهواء لجزء من الثانية قبل أن يوجه الكرة برأسه في المرمى. يقسم زملائي حديثي التخرج في العمل إن ميسي من اخترع «فليب فلاب» و«الرابونا» و«الروليت»، وكل مهارات المراوغة في كرة القدم.
اعتدت تلك المبالغات، وأصبحت أجيد المراوغة في مثل تلك النقاشات. لا اعتقد أبدًا في صحة المقارنات في كرة القدم، خصوصًا تلك التي تُجرى بين لاعبين مارسا اللعبة في زمنين مختلفين. لكني دومًا أحتفظ بالورقة الأخيرة التي لا تخيب: «دينيس بيركامب».
هل يشك أحد في تأثير كرويف في كرة القدم؟ حسنٌ، سأستعير حديث كرويف عن أنه «لا يوجد ما يسمى أفضل لاعب في العالم. لكن عندما تفكر في كلمة لاعب كرة قدم، يجب أن يكون هناك صورة ما في ذهنك. ربما يتهمني أحدهم بقصر النظر، لكني لو فكرت في عازف الغيتار أرى كيث ريتشاردز. لو فكرت في الرسام، فهو يوهانس فيرمير. لكن إذا سألني أحدهم عن لاعب كرة قدم، فإنني أميل إلى رؤية بيركامب»
من بين كل لاعبي الكرة كان بيركامب يملك لمسة أولى مختلفة. لا يهم كيف تصل الكرة إليه، عالية أو قوية أو حتى متعثرة. يمكن لدينيس أن يستقبل أي كرة وبلمسة واحدة، بل ويصنع منها فرصة أكيدة للتهديف، مختصرًا عشرات التمريرات العادية. تشعر أنه بطيء، لكنه لا يخسر سباق سرعة أبدًا، بل في الغالب لا يضع نفسه مطلقًا في ذلك السباق.
قصتي مع بيركامب تبدأ منذ تابعت كرة القدم للمرة الأولى، أما قصة بيركامب نفسه مع الكرة، فقد حكاها بالفعل في كتابه الذي يتناول سيرته الذاتية «Stillness and Speed: My Story» (السكون والسرعة).
دعنا نمزج القصتين معًا في محاولة للحديث عن هذا الرجل بشكل من الاستحقاق.
ما وراء هدف بيركامب في الأرجنتين
«التوقيفة حلوة، والترقيصة أحلى، والجون أحلى وأحلى يا بيركامب»، هكذا صرخ المعلق المصري ميمي الشربيني بهتاف حفظته من وقتها، بعد هدف بيركامب في مرمى الأرجنتين خلال مباراة ربع النهائي لكأس العالم 1998.
بدأ دينيس يمارس الكرة على أرض من الخرسانة، حيث التوازن أهم شيء. وكان مولعًا بفكرة السيطرة على الكرة وامتصاصها حين تكون في الجو.
ظللت لأيام أحاول أن أفهم كيف للاعب أن يتجاوز مرحلة التفكير في السيطرة على كرة في الهواء، إلى مرحلة استغلال تلك الكرة في مراوغة المدافع الملتصق به. هرعت إلى الشارع، فوجدت الدهشة عامة: كيف فعلها؟
اتفقت مع ثلاثة من أصدقائي أن نجرب. يرسل أحدنا الكرة عالية في الهواء، ويقف الثاني موضع المدافع الأرجنتيني «أيالا»، ويحاول الثالث عبثًا أن يستقبل الكرة على وجه قدمه، بينما تتهادى في كل مرة عكس اتجاه حركته. باءت كل محاولاتنا بالفشل، حتى وصل ثلاثتنا إلى يقين أن وجه قدم بيركامب يختلف عما نملكه تمامًا.
لكن بيركامب كان لديه تفسير آخر.
قرر السيد «ويم» الذي كان يعمل كهربائيًّا، أن يسمي ابنه الأصغر دينيس نسبةً إلى مهاجم مانشستر يونايتد: الإسكتلندي «دينيس لو».
كان دينيس الابن الأصغر. لم يكن لديه كثير من الأصدقاء، بل اكتفي بإخوته وكرة القدم. بدأ يمارس الكرة على أرض من الخرسانة، حيث التوازن أهم شيء. لم يكن مولعًا بالمراوغة قط، بل بفكرة السيطرة على الكرة وامتصاصها تمامًا، خصوصًا حين تكون في الجو.
عشق دينيس كرة القدم على نحو مختلف تمامًا. يمكنني أن أتخيله هناك أسفل نافذة غرفة نومه في جيمس روسكايد، يركل الكرة إلى الجدار، فترتد إليه. اعتاد أن يفعل ذلك لساعات وأيام وسنين.
«كنت وحيدًا معظم الوقت. أركل الكرة ضد الجدار، وأراقب كيف ترتد، وكيف سأسيطر عليها. وجدت الأمر مثيرًا للاهتمام. جربت ركل الكرة بكل الطرق، بقدم واحدة ثم بكلتا القدمين، بباطن القدم ووجه القدم وخارج القدم. أحاول التحكم في الإيقاع: تسريعه أو إبطائه. ربما أقرر أن أركل الكرة في قالب قرميد معين من الحائط. لاحقًا، اقتنعت بأن كل تمريرة يجب أن يكون وراءها فِكر ما. لذا، عندما أركل الكرة في الجدار، ألعب لعبة الاحتمالات الناتجة من ارتداد الكرة. كنت مفتونًا بكيفية تحريك الكرة والسيطرة عليها».
كان هدف بيركامب في الأرجنتين كفيلًا بأن يبقيك متابعًا للهولندي أينما كان. وقتها كان دينيس في لندن لاعبًا في صفوف آرسنال الإنجليزي. لم أكن شاهدته في أياكس او إنتر ميلان، لكن ما رأيته مع آرسنال كان مثالًا حيًّا لفكرة أن متعة الكرة لا تقتصر على المراوغة. التحكم في مجريات الملعب كله عن طريق دقة تمرير الكرة في المكان وبالقوة اللازمة، تبقى متعة أكبر وأرقى.
قد يهمك أيضًا: هكذا أصبحت كرة القدم أكثر الألعاب شعبية في العالم
بيركامب إنتر ميلان: الرجل الخطأ في المكان الخطأ
كانت نتيجة منطقية لموهبة الهولندي المتقدة أن يصير لاعبًا في ناشئي فريق أياكس. تزامن ذلك مع بداية مشوار «يوهان كرويف» التدريبي، إذ تولي كرويف تدريب أياكس أمستردام عام 1985، وبعد عام واحد قرر أن يضم في تشكيلته اللاعب صاحب الـ17 عامًا فقط آنذاك. تألق بيركامب رفقة أياكس خلال سبعة مواسم، حين كان جزءًا من نجاح أياكس الأوروبي رفقة كرويف وخطته المبتكرة آنذاك 3/4/3 خلال مواسم بيركامب الأولى، ثم رحل كرويف لتدريب برشلونة. لم يشهد أياكس نفس النجاح أوروبيًّا إلا بتولي المدرب «لويس فان خال»، الذي استغل الإرث الكروي لكرويف وتألُّق بيركامب الذي كان يتطور مستواه بشكل ملحوظ.
كانت النتيجة الطبيعية أن ينتقل إلى جنة كرة القدم حينئذ: الدوري الإيطالي. وصل دينيس إلى إنتر ميلان عام 1993، رغم أن كرويف كان يريده معه في برشلونة، فإن الدوري الإسباني كان يقتضي وجود أربعة محترفين فقط، وكان برشلونة يضم «روماريو» و«كومان» و«ستويتشكوف». لم يرغب بيركامب أن يكون رابعًا هناك، لقد كان عقله مع إيطاليا بعد أن اكتفى بسبع سنوات في أياكس.
خلال تلك السنوات السبعة، كانت الكرة في إيطاليا تبدأ في التغير، ولم يكن بيركامب على علم بذلك. قبل بداية موسم 1987، قرر رجل الأعمال ومالك نادي ميلان، «سيلفيو بيرلسكوني»، أن يستعين بأفكار ذلك المدرب الشاب الذي لم يمارس كرة القدم قط: «أريغو ساكي»، الذي كان مسحورًا بأداء منتخب هولندا خلال كأس العالم 1972، فقرر أن يغير من تكتيك إيطاليا العتيد، ويتخلى عن الطرق الدفاعية المعتادة.
من هنا كانت بداية جيل ميلان ساكي التاريخي الذي أبهر أوروبا كلها أداءً ونتائج، وكان أهم ثلاثة لاعبين في ميلان ساكي الهولنديون «فان باستن» و«خوليت» و«ريكارد».
قرر مالك نادي إنتر أن يحذو حذو جاره ميلان، من حيث طريقة اللعب الهجومية. كانت البداية بانتداب بيركامب. وعد رئيس النادي دينيس بأن يكون قائد الإنتر الجديد نحو شكل أكثر هجومية، وهو ما لم يحدث.
بدأ جيل ميلان ساكي في الخفوت لأسباب مختلفة، وأصبح السؤال يدور حول ما إذا كان على الفرق الإيطالية التمسك بأساليبها التقليدية أم لا. بل إن الأمر امتد لسؤال أهم: هل على الطليان أن يحافظوا على هويتهم أم يتحولوا إلى هولنديين؟ وكان بيركامب ضحية كل ذلك.
كان دوره في أياكس إحداث الفارق. كان الفريق منظَّمًا، كل لاعب يعرف ما يتوجب عليه فعله. أما في إنتر، فكان بيركامب ينظر في قائمة لاعبي المباراة، فلا يفهم شيئًا. هل ستكون الخطة 4/3/3 أم 4/5/1؟ لم يكن الأمر واضحًا بالنسبة إليه، ولم يشرح له أحد شيئًا. وبالطبع، إذا لم تعرف، فأنت لن تقود أبدًا، بل ستتبع الآخرين. وجد دينيس نفسه وحيدًا رفقة مهاجم آخر أمام خمسة مدافعين في كل مباراة.
لقبوه في إيطاليا «الغريب المنعزل». لم يستطع، رغم محاولاته، أن يتوافق مع الطريقة الإيطالية، إنهم ينتظرون منه أن يكون مهاجمًا يليق بالتكتيك الإيطالي، يركض أكثر ويلتحم ثم يفوز بالكرة، وما إن يرى مرمى المنافس حتى يسدد. لم يجد بيركامب أزمة في كل ذلك، كان بإمكانه أن يبقى في إيطاليا أكثر، لكنه وجد أنه يفقد تفرده مع مرور الوقت، وكذلك رؤيته لكرة القدم. رحل دينيس بعد عامين إلى آرسنال.
اقرأ أيضًا: لعبة، وصناعة: كيف غير كأس العالم 1994 كرة القدم إلى الأبد؟
بيركامب آرسنال: تأثير الفراشة
بعد عام واحد من كأس العالم فرنسا 98، صرت مهتمًّا بشكل أساسي بالكرة الأوروبية، كان الدوري الإيطالي في طريقه إلى الذبول، بينما الإنجليزي أكثر ما يصل إلى مصر طبقًا لقواعد البث. أما بيركامب، فكان هدفي الأساسي من كل ذلك.
يشبه الأمر نظرية «تأثير الفراشة» الشهيرة: كيف تتحد الظروف دون قصد لتُحدث المعجزة.
لم يكن بيركامب على علم بسمعة آرسنال الخاصة بالكرة المملة التي يقدمها تحت إشراف المدرب «جورج غراهام»، الملقب بـ«سيد الدفاع»، حتى إن بعضهم يربط بينه وبين جوزيه مورينيو.
كان يليق ببيركامب أن يمسك بعصا في إحدى يديه، كتلك التي يحملها مايسترو الفرق الموسيقية.
المعجزة وقعت بالاستعانة بعنصر خارجي، هذا العنصر أتى من اليابان.
غيَّر فينغر شكل كرة القدم الإنجليزية المعتمِدة على الكرات الطويلة، ولعب آرسنال كرة قدم لم تشاهدها إنجلترا من قبل: تمريرات قصيرة ممتعة، مثلثات هجومية على الطرفين. وصل فينغر إلى ذروة الاختيارات والتعدد الخططي والتحكم في سير المباريات ومفاجأة المنافسين، بتغيير خططي يلائم ظروف المباريات، وكان أهم عنصر في تلك المنظومة بيركامب بالطبع، ما أسهم في تتويج آرسنال بالدوري دون هزيمة موسم 2003-2004 .
هناك نوع خاص من السحر كان يتناثر بين أقدام لاعبي آرسنال في ذلك الوقت، سحر انتزع عقول جيل بأكمله. الفيلسوف الفرنسي يعطي تعليماته عاقدًا حاجبيه، ثم يعود إلى صمته المريب. «تييري هنري» ينطلق نحو المرمي كغزال حقيقي لا يأبه بأحد. «بيريز» و«ويلتورد» و«ليونغبرغ» ينطلقون في كل اتجاه. ثم كان هناك ذلك الهولندي العبقري في الوسط.
كان يليق ببيركامب أن يمسك بعصا في إحدى يديه، كتلك التي يحملها مايسترو الفرق الموسيقية. بل إن ما كان يفعله بيركامب لا يَنتج إلا عن عصا سحرية، لا عصا مايسترو وحسب. كان يمرر كل أنواع التمريرات، ويصنع فرصًا من كل الوضعيات. وعندما يسجل، فالهدف دومًا مدهش تمامًا.
باقي القصة معروف: اعتزل بيركامب كرة القدم بعد قضاء 11 عامًا مع آرسنال، وترهل فينغر فكريًّا، وبقيت أنا رفقة ملايين على العهد، نترقب صحوة آرسنال التي لا تأتي، نرجو من فينغر رحيلًا تأخر كثيرًا. لكن لم يندم أحد قط على تشجيع آرسنال، كان هذا سحرًا لا يمكن مقاومته، تمامًا مثل ورقة بيركامب الذي لا أخسر معه نقاشًا. لا أحد يمكنه مقاومة سحر بيركامب.