أذكر واقعة بعينها كانت ستشي بطبيعتي الخاصة، لولا أن أحدًا من الجلوس لم يعر الأمر اهتمامًا. كنت طفلة قصيرة القامة، بالكاد أصل إلى خصر أمي، بالكاد أستطيع التعبير عن مكنوناتي بوضوح. أمضيت بضعة ساعات من ليلتي تلك أمام الأريكة، أحول دون نظر أمي إلى شاشة التلفاز التي أولتها، للغرابة، اهتمامًا مُضاعَفًا عني: «ماما، انتي زعلانة مني؟». تجيب أمي بحسم تارة ولين متثاقل أخرى، فيما لم يختلف متن الإجابة: «لأ، ادخلي نامي». لم تبد إجابتها مقنعة بالنسبة إلى طفلة لم تتخط العقد الأول من العمر: «لأ، انتي زعلانة مني. طب ما تزعليش، أنا آسفة».
تَكرر تساؤلي عشرات المرات، وتَكرر نفي أمي في كل مرة، بيد أن درجة قلقي لم تتبدل، وحالت تمامًا دون خلودي كطفلة وديعة للنوم، فكيف أترك مجلس أمي بينما يجيش في صدرها شيء بدر مني. أنا من كان صدرها على وشك الانفجار، بشعور لم أكن على عِلم بماهيته. «قلق»، هكذا اسميه اليوم، مصحوب بوساوس متعلقة بصورتي لدى الآخرين، ومدى قبولي أسريًّا.
لم أكن اقترفت أي ذنب يُضيق صدر أمي بي سوى الإلحاح في التساؤل عما إذا كانت غاضبة، وتغطية شاشة التلفاز. رغم ذلك، أهلكني الشعور بالذنب. لا أذكر كيف خلدت للنوم ليلتها، وتجاوزت شعوري بالذنب والقلق والرغبة القاتلة في قبول أمي لي، في حين ظننت أنها لا يمكن أن تتقبلني أو تعفو عني إثر خطأ لم أرتكبه على الإطلاق.
لاحقًا، بعد نحو 20 عامًا، اكتشفت أن أمي لا تذكر تلك الليلة أو أيًّا من مثيلاتها. سألها طبيبي النفسي في جلسة خاصة: «فاكرة أي حاجة مختلفة كانت آلاء بتعملها وهي صغيرة وبتسبب مشكلة؟»، فنفت بشكل قاطع: «لأ».
في طفولتي لم أتقاطع نهائيًّا مع أيٍّ من والديَّ في أحاديث عفوية أو موجهة حول الصحة النفسية، لم يهتم أيٌّ منهما بالأمر، أو تمتع بالقدر الأدنى من المعرفة حوله، لذا لم يتعرف أحد إلى أعراض الوسواس القهري المحدودة لديَّ في الطفولة المُبكرة، ولا حين استوحشت في فترة المراهقة.
لم يعرف منزلنا سوى نمط واحد من الأطباء: طبيب العائلة. طبيب جدتي بالأساس يُسأل عن الوعكات الصحية وأمراض القلب وارتفاع سكر الدم واضطرابات الجهاز الهضمي. قبل ميلادي لم تعرف الأسرة اضطرابات من نوع آخر، ولم يشكُ أحدهم من علة برأسه، رغم ذلك كان مفهوم «الجنون» يسكن الطابق السفلي من بنايتنا، وفقًا لوصف والدتي.
كانت لدينا جارة كريمة دائمة الصياح، ولها تاريخ مَرضي مع بعض المتاعب النفسية، نطلق عليها «نجاة» (اسم مستعار)، حينها كانت تُعرَف في المنطقة باسم «نجاة المجنونة»، فقد كانت محل سخرية وانتقاد جميع الناس، في تصرفاتها القلقة، نبرات صوتها الحادة وعزلتها. لم تشكل والدتي أي استثناء، فكثيرًا ما حذرتني من الصراخ في أثناء اللهو: «عاوزة الناس تقول عليكي مجنونة زي نجاة؟».
شاءت أمي أو أبت، في بعضٍ من سماتي الشخصية كنت أقرب إلى «نجاة»، أقرب في خوفي الدائم واضطرابي غير المبرر ووساوسي المتصلة حول أمن من حولي وسلامتهم دون أدنى داعٍ. لم يعبأ والداي بالأمر قط، ضاقا فقط بطرقي المستمر على باب غرفتهما، في أثناء نوبات الهلع أو اشتداد وساوسي حول سلامة أمي.
في بعض الليالي حالفني الحظ بالتسلل إلى فراشها، فقط بغية التأكد من أنها على قيد الحياة، ولم يصبها أي مكروه. كنت أقف بجوار سريرها بضعة دقائق، أتحسس نبضها وأتابع انتظام تنفسها إلى أن يهدأ قلبي، وأتيقن أن الموت لم يمر بغرفتها بعد، فأعود إلى فراشي. إلا أن القلق والأرق مجتمعين كانا يتملكان صدري مجددًا، وأعود لأتأكد أن أمي ما زالت على قيد الحياة. مرة تلو الأخرى أكرر العملية إلى أن يغلبني النوم مع فجر اليوم التالي، دون أن أحظى حقًّا بقدر ملائم من الراحة والاسترخاء.
ظننت لأشهر عدة أن نوبات قلقي/خوفي غير المبررة، و إن لم أكن أطلق عليها المسمى ذاك وقتها، سر لا يفطن إليه أحد سواي، وظلمة حجرتي الشاهدة على اضطرابي، إلى أن قررت والدتي ذات صباح المُجاهرة بالشكوى من سلوكي، وكيف تمنعها رحلاتي المستمرة إلى فراشها عن النوم بسلام. وقتها أعلنت محذرة أمام أخوتي: «لو مبطلتيش الطريقة دي أنا هوديكي عند دكتور نفسي. أنا مش بخوفك، بس اللي بتعمليه مش طبيعي».
بمجرد أن يهدأ اضطراب المنزل وتخفت الأضواء، تبدأ وساوسي في العبث برأسي: هل أموت الليلة؟ كيف لي بمواجهة الموت الآن؟
تخطيت مرحلة الطفولة إلى المراهقة، لكني لم أتجاوز متاعبي النفسية. فقط صرت أكثر احترافًا في إخفائها وإنكارها، منحني التخفي ميزة عدم التعرض مجددًا لتهديد زيارة الطبيب، تدريجيًّا لم أعد أزور فراش أمي ليلًا، لم أعد أفصح عن مخاوفي ونوبات ذعري، لكن القلق عرف طريقه إلى رأسي مجددًا. بكلمات أدق، أُصبت بما يعرف بـ«الوسواس القهري» (OCD)، مرض نفسي شهير الأعراض، في الغالب لا يمكن إخفاؤه، لا يمكن إخفاء محاولة الوضوء للصلاة، ما يزيد عن 10 مرات متتالية، فقط بسبب الشك في عدم غسل اليدين عدد المرات المضبوط، أو إعادة فروض الصلاة مرات بعد مرات لأسباب مشابهة.
إلا أن الأمر لم يتطلب من والدتي جهدًا كبيرًا أو شكًّا في قدراتي العقلية هذه المرة، إذ قررت الأسرة مجتمعة أن سلوكياتي الجديدة مدفوعة بـ«وسوسة الشيطان» ومحاولته الحيلولة دون انتظامي في الصلاة والفروض الدينية.
مجددًا خضت معركة هزيمة الشيطان ووساوسه منفردة. أخصص القسم الأكبر من يومي للوضوء والصلاة، أعاند الشيطان المزعوم بصلاة تلو الأخرى (مكررة) على سبيل الاحتياط، أتحمل اللوم المنزلي على إشغال دورة المياه لساعات يومية، أتحمل كذلك استيطان الشعور بالذنب لقلبي، وأتجنب الشكوى كي لا أتقاطع مع ذكر الشيطان مجددًا.
في بعض الأحيان، كانت نوبات الفزع تعود لزيارتي ليلًا. في مرحلة المراهقة، بمجرد أن يهدأ اضطراب المنزل وتخفت الأضواء ويخلد الجميع للنوم، تبدأ مخاوفي ووساوسي الحادة في العبث برأسي: هل أموت الليلة؟ هل أموت في أثناء نومي؟ كيف لي بمواجهة الموت الآن؟ متى أحظى بآخر نفس من الهواء الدنيوي؟ تملكني الفزع تمامًا في ليلة ما، وشعرت بيقين مرضي أن حياتي قد انتهت، وبقيت لي بضعة لحظات للنطق بالشهادة، إلا أن اللحظات تضاعفت، والفزع تزايد، ولم يأت الموت، ولم أقتنع نهائيًّا بأنه لم يكن مضطجعًا هناك بجانب فراشي. أشفقت من الصحو الذي بدد قواي، وأنهك جسدي بالقلق والاضطراب.
صديقة أمي نصحتها بعدم عرضي على طبيب نفسي وإبعادي عن الأدوية، كي لا أتحول إلى مدمنة أو شخص «مش طبيعي».
هجرني النوم كذلك، أو هجرته، خيفة الموت بين إغماضة عين وأخرى. بعد بضعة ساعات من الألم والذعر أيقظت أمي: «ماما، أنا حاسة أني هموت دلوقتي». لم تستيقظ تمامًا، ولم تع ما أقصد، وسرعان ما غابت في النوم دون رد. أيقظتها مجددًا، وقد انتقل ذعر روحي إلى يدي وجسدي بالكامل، وسرت رعشة خبيثة مستمرة في أطرافي: «ماما، أنا خايفة، حاسة أني هموت دلوقتي». بالكاد فتحت عينيها قليلًا، وعدلت من وضع رأسها: «اقري قرآن في سرك، وهتهدي وتنامي».
ضاق تنفسي، وتملكتني أعراض نوبة الذعر. تركت فراشي لرمزيته المرتبطة بالتمدد في القبر، وصرت أبكي إلى جوار فراش والدتي. مرت ساعات، ولم أحصل منها على إجابة سوى «أقري قرآن هتنامي». أيقنت في النهاية أنه لم يعد هناك بصيص من الأمل، فعليَّ أن أواجه الموت، أو أي مجهول ليلي آخر، بمفردي. صعدت إلى الفراش جوار أمي، حاولت الالتصاق بجسدها قدر الإمكان، وكأن الموت لن يستطيع انتزاعي من بين ذراعيها. حاولت إجبار ذاتي على إغلاق جفنيَّ لثوانٍ، تحمَّلت أنفاسي الثقيلة، وراقبت الضوء الأزرق الباهت في طريقه للانتشار خارج النافذة. وفي لحظة لم أكن واعية بها تمامًا، غلبني النعاس.
استيقظت في الظهيرة، وتوقعت أن يكون العالم قد تبلد بعد ليلة أمس الموحشة. لم ينتفض العالم من أجل عذاباتي السرية. لم تتذكر أمي أي تفاصيل عن ليلة أمس، ظللت رغم ذلك أشعر بشارة حمراء مزعجة تحجب جبهتي، وتفضح سري المخجل. يمكنني اليوم تعريف الشعور بـ«العار» (Shame)، الخجل من أفكاري غير المنطقية، من تصرفاتي القهرية، من اضطراري إلى مشاركة فزعي من رد فعل أمي.
كان من الممكن أن اتخطى الخجل إلى البوح. من الداخل، كنت أتمنى أن تهتم أمي بما حدث، ترى أو تشعر بما تركته الليلة السابقة من ندوب في روحي الرخصة، تشاركني في النهوض بالحمل المنهك لقلبي، إلا أن علاقة أمي باضطرابي ظلت سطحية طوال الوقت. لم تر الحمل، لم تر الذعر أو المعاناة. رأت الدعابة الكامنة خلف الوساوس، والجهد الذي تكلفته من محاولات دحضها، وربما قليلًا من التعاطف، كما أن يهبط صديق من السماء في أثناء مرورك بنوبة اكتئابية، ليسألك: «عامل في نفسك كده ليه؟».
منذ تلك الليلة، ولمدة عام أو نحوه، فقدت القدرة تمامًا على إخفاء اضطرابي، وصارت الارتعاشة وضيق التنفس عرضين ملازمين لي على مدار اليوم. الذعر كذلك حاضر بقوة، أصرح عن وجوده أحيانًا، وأكتم أسباب اضطرابي أحيانًا أخرى، إلى أن شعرت أمي بالقلق في إحدى الليالي، إثر دخولي في نوبة ذعر حادة، فاتصلت بطبيب العائلة الذي وجهها مباشرة إلى عرضي على الطبيب النفسي.
أغلقت أمي الهاتف، ونظرت إليَّ بابتسامة خجلة، وكأنها على وشك البوح بطرفة جنسية، ثم أبلغتني بوصية الطبيب. لم أحر جوابًا، إلا أن أمي اتصلت بصديقة (زوجة صيدلي) بعدما غلبها القلق. نصحتها الصديقة بتجنب طرق أطباء النفس نهائيًّا، وعدم تعريضي لتناول الأدوية النفسية كي لا أتحول إلى مدمنة مراهقة، أو شخص «مش طبيعي». عملت أمي بنصيحة صديقتها.
على مدار السنوات التالية، مررت بنوبات مرضية شديدة، دون أن أعي تمامًا أن «المرض» يقف خلف أيٍّ من تلك الصعوبات والوعكات. لم أتخط الألم والاعتلال قط، لم أتخط الخزي أيضًا. طاردتني مخاوف كالموت أو فقدان عزيز أو الفشل وعدم القبول غالبية ساعات يومي، حتى شكلت الشخصية التي أمتلكها اليوم.
بدخولي مرحلة العشرينيات بدأت معاناتي تتخذ طابعًا مختلفًا، فقد صرت شابة بالغة. أعمل وأظن أني لا أستحق الوظيفة. أتطور ويتطور العالم من حولي، بينما أظن أنني أغبى كائن على وجه البسيطة. تزدهر حياتي الاجتماعية، لكني عاجزة عن استيعاب محبة الآخرين وقبولهم لحمقاء مزعجة مثلي. أستيقظ يوميًّا باكرًا، وفي قرارة نفسي أتمنى الموت، بل وأسعى أحيانًا لبلوغه كحل نهائي لأزمة وجودي غير المبرر. جسدي ذاته بدأ في الانتفاض من شدة الإرهاق واضطرابات النوم والحركة الثقيلة.
وفي فجوة زمنية لم أَعِها، وجدت نفسي (بقرار فردي دون علم الأسرة) أجلس أمام طبيب غريب، أشكو إليه انهياري الجسماني وصعوبة تفاعلي مع الحياة والعمل، وأعترف له برغبتي في الفناء. بعد حديث قصير شخَّصني بمرض «الاكتئاب»، ووصف لي دواءً.
لم يعد أحد في بنايتنا يتحدث بالسوء عن «نجاة»، أو يتبعها بالسخرية والتقريع، رغم أنها ما تزال شديدة العزلة حادة الطباع. بعد إعلاني إصابتي بالاكتئاب كذلك تخلَّى منزلنا عن مزاح «مستشفى المجانين» المقتبَس من الأفلام العربية، ولم تعد حالتي الصحية مشاعًا بين أمي وصديقاتها. ليناقشنها إذا أردن. باتت أمي تطمئن فقط بعبارات مقتضبة عن استمراري في العلاج الدوائي، ما إذا وجدتني حزينة بعض الشيء. تستمع لشكواي من أعراضي أحيانًا، وتشملني بالعطف، دون أن تدرك بدقة ماذا حدث وماذا يحدث في رأسي.
أتذكر ما سبق، وأُصاب بالإحباط، ربما كان حاضري سيختلف حال حصولي على رعاية طبية مبكرة، ربما كنت لأنعم بطفولة أقل حدة وأقل وحدة، لكنني ما زلت فخورة بخطواتي المنفردة، أقبل التعافي فرحة مُهللة، وألعن الانتكاس بحنق مراهق، وأكتشف كثيرًا من الأمور بين هذا وذاك.