«كيف تلقيت موعدي بينما هناك الكثير من المقيمين ممن تجاوزوا الستين من أعمارهم، مع حالات صحية وأمراض دائمة، لا يزالون في انتظار مواعيدهم؟»، كان هذا السؤال الذي باغتني فور أن شكت الإبرة كتفي الأيسر، فقد تلقيت جرعة تطعيم كوفيد-19 في منتصف فبراير 2021.
في مشرف حيث يقع مركز التطعيم، التفتُّ إلى الممرضتين اللتين كتبتا بياناتي وسألتهما إن كانتا قد تلقتا اللقاح أم لا. وفورًا، ارتسمت على وجهّيهما علامات الدهشة والاستغراب، وكأنها المرة الأولى التي يفكر فيها أحدهم بهما. بيد أن واحدة منهما تحولت ملامح استغرابها إلى ابتسامة دافئة، لتومئ برأسها أن نعم.
تلقيت حقنتي ثم توجهت لمنطقة الانتظار، والتي يستلزم الجلوس فيها لمدة 15 دقيقة بعد تلقي اللقاح. لاحظت مجموعة من عمال التنظيف يعقمون الكراسي بعد مغادرة المطعمين. بادرت أحدهم بالسؤال إن كان قد طُعم؟ رد علي: «من؟ أنا؟»، لم يطعم.
حملة التطعيم
عندما بدأ التسجيل للتطعيم في ديسمبر 2020، التقت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) مع عبد الله السند الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة، والذي أوضح أن التسجيل المبكر كان لجمع البيانات التي ستسهم في حصر من لهم أولوية في التطعيم من العامة، مع الأخذ في الاعتبار أعداد المواطنين وغير المواطنين وغير محددي الجنسية.
لكن في فبراير 2021 نشرت وزارة الصحة إحصائية عبر حسابها الرسمي على تويتر، تبين أن 215 ألفًا من المواطنين قد سجلوا، بينما تلقى 119 ألفًا منهم اللقاح. في المقابل، سجل 238 ألف مقيم، لكن تلقى 18 ألفًا منهم اللقاح فقط. والذي يعني أنه مقابل مقيم واحد، حصل سبعة مواطنين على اللقاح. تنامى عدد مسجلي اللقاح إلى 1.1 مليون شخص، بينما كان عدد الذين أداروا عملية التطعيم 604,861، دون أن نعرف من منهم تلقى الحقنة بالضبط.
يقول براك الأحمد لـ«منشور»، وهو طبيب كويتي في الصحة العامة وباحث دكتوراه في علوم الصحة السكانية بجامعة هارفارد: «توفر معظم الحكومات أطرًا شاملة تبين وظائف من هم على قائمة الانتظار أو فئاتهم العمرية أو الأمراض المزمنة التي يعانون منها. في العادة يعتمد ذلك على معدلات انتقال العدوى والمجموعات الأكثر عرضة لها، وأمور لوجيستية أخرى مثل التأثير الاقتصادي على الدولة. لكن في ممارسة الصحة العامة، من غير المقبول أخلاقيًا استخدام الجنسية لتحديد الأولوية لمتلقي اللقاحات».
يلعب المقيمون دورًا أساسيًا في المجتمع الكويتي، ويسهم وجودهم بشكل كبير في الاقتصاد، إذ يشكلون ما يقارب 70% من سكان الكويت. ويؤكد الأحمد أنهم يستحقون المميزات التي أسهموا فيها.
اللقاح والعاملون في القطاع الطبي
التقى «منشور» مع طبيبة كويتية تعمل في أحد المستشفيات التي تتعامل مع حالات كوفيد، وقد اشترطت عدم الكشف عن هويتها بسبب خوفها من أن وظيفتها ستكون معرضة للخطر. وتحكي الطبيبة أنها وزملائها الأطباء، من كويتيين ومقيمين، كانت لهم الأولوية في الحصول على اللقاح. ومع ذلك، فإن الأطباء عديمي الجنسية (البدون) طُعموا بعد ثلاثة أشهر تقريبًا. تقول: «علمت أن الممرضين سجلوا للتطعيم في نفس الوقت الذي سجلنا فيه، ومع ذلك لم يطعم معظمهم».
وتضيف أن الكثير منهم قد تلقى اللقاح بعد شهرين، رغم أنهم يتعاملون بشكل مباشر مع مرضى كوفيد-19. لكن «الغريب أن الجراحين الذين كانوا في منازلهم معظم الوقت، تلقوا تطعيمين في الدفعة الأولى. بينما الممرضون الذين يعملون في قسم الطوارئ أو غير الكويتيين الذين يعملون في وحدة العناية المركزة، والذين يكونون موجودين بشكل يومي للعمل ويتعرضون للمصابين بكوفيد أو المعرضين للإصابة، لم يحصلوا على التطعيم». ويرجع ذلك وفقًا لها إلى العديد من العوامل، أحدها أن كثيرًا من عمال الرعاية الصحية أصيبوا بالفيروس خلال فترة ثلاثة أشهر، لذلك لم يكونوا مؤهلين لتلقي اللقاح. وهناك سبب آخر، هو أن عددًا من الممرضين معارضين للتطعيم، ويزعم كثير منهم أنهم لا يريدون أن يكونوا «خنازير غينيا» للاختبار، وينتظرون الدفعة الثانية.
«حاولت وزارة الصحة التسهيل بإنشاء عيادات في جميع المستشفيات المختلفة، وهي خطوة جيدة بالطبع. وإضافة إلى ذلك طُعم الكثير من الممرضين غير الكويتيين، ولكن هل كانت هناك أولوية بالنسبة للكويتيين؟ نعم. ولا يمكننا تجاهل هذه الحقيقة»، كما تقول الدكتورة.
وقد أبلغتنا أن طاقم التمريض قيل لهم أن يتلقوا تطعيماتهم في أيام إجازاتهم، حتى لا يضطروا للتغيب عن العمل إذا ما أقعدتهم الآثار الجانبية للقاح. لكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة للأطباء، فقد سُمح لهم بالتطعيم خلال أيام العمل، والتغيُّب بداعي المرض إذا ظهرت عليهم آثار اللقاح.
العديد من المقيمين لا يتحدثون الإنجليزية ولا العربية، وهما اللغتان الوحيدتان المستخدمتان للتسجيل لأخذ اللقاح.
بذلنا محاولات لإجراء مقابلة من الممرضين والأطباء عديمي الجنسية، لكنهم رفضوا بسبب الخوف من التداعيات الخطرة على وظيفتهم.
تضيف الدكتورة: «في شهر فبراير، تلقى العديد من أصدقائي ممن يستطيعون البقاء في منازلهم حقناتهم. بينما، في الوقت نفسه، كنت أذهب كل يوم إلى العمل وأجد زملائي الممرضين في المستشفى لم يتلقوا مواعيد التطعيم بعد. الغريب أنه في تلك المرحلة، حتى أقربائي البالغين من العمر 16 أو 17 عامًا كانوا قد حصلوا على تطعيماتهم». وتشير إلى أن عمال النظافة وحراس الأمن والفنيين والموظفين الآخرين الذين يعملون في المستشفى لم يحصلوا على اللقاح أيضًا لفترة طويلة، ولم يحدث ذلك سوى قبل شهر من الآن.
تعتمد بعض الدول على «مناعة القطيع» لمكافحة الجائحة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن مناعة القطيع هي الحماية غير المباشرة من المرض المعدي، والتي تنتج عندما تكون غالبية السكان محصنين من خلال التطعيم. يقول الأحمد: «لا يمكن تحقيق مناعة القطيع دون تطعيم جماعي للسكان. لكن تحديد الكويتيين كأولوية على حساب العمال المهاجرين لن يضمن الحماية الكاملة للكويتيين، وستكون ضربة للجهود المبذولة للحد من انتشار الوباء في البلاد».
ماذا عن العمال «المقيمين»؟
يعيش جزء كبير من العمال المهاجرين في الكويت داخل مهاجع محصورة مع ظروف معيشية سيئة، ويوضح الأحمد أن عشرات الرجال يعيشون معًا، ويستخدمون حمامات مشتركة مهمَلة، والتهوية في تلك الأماكن سيئة وتكاد تكون معدومة. هذه البيئات لا تزيد فقط من معدلات الإصابة، بل تجعل العزلة الذاتية مستحيلة في حالة إصابة واحد منهم.
العديد من المقيمين لا يتحدثون الإنجليزية ولا العربية، وهما اللغتان الوحيدتان المستخدمتان للتسجيل لأخذ اللقاح. حين سأل زياد الدعيج رجل الأعمال الكويتي عاملة التنظيف السريلانكية التي تعتني بشقته إن كانت قد طعمت أم لا؟ أجابت بلا، لأنها لا تجيد استخدام التكنولوجيا فلم تعرف كيف تسجل. يقول الدعيج: «لا توجد معلومات. هؤلاء الناس لم يُستَهدفوا بعملية التوجيه لكيفية التسجيل، لم يكن هناك دليل بلغاتهم التي يفهمونها».
يقترح الأحمد على وزارة الصحة توزيع «أكشاك للتسجيل على المناطق التي يسكنها العمال المقيمون، ستكون بادرة جيدة». ويضيف أن «الوصول إلى المؤثرين المجتمعيين والدينيين في مناطق معينة والعمل مع السفارات الأجنبية سيساعد حتمًا في تسهيل عملية انتشار التطعيم».
«ماري آن» عضوة برابطة «ساندي غان» لدعم العمالة المنزلية المقيمة في الكويت، وقد شهدت بعض التحديات خلال عملية التسجيل. تقول لـ«منشور» إن هناك العديد من العمال الذين لهم موقف مضاد للقاح، بسبب العديد من المقالات الإخبارية ونظريات المؤامرة المتداولة على فيسبوك وواتساب وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي حول مخاطر اللقاح. وتقترح تخصيص حملة توعوية للمقيمين في الكويت، وأن تكون قائمة على تصوير مقابلات مع أشخاص من جنسيات مختلفة تلقوا تطعيماتهم، يتحدثون بلغاتهم الأصلية عن تجربتهم مع التطعيم لتبديد المخاوف والأوهام.
يقول الدعيج: «من السيئ عدم وجود حملة توعية وطنية. وقد سمعت أن هناك مناقصة حكومية في نوفمبر 2020، مخصصة لعمل حملة ضخمة على جميع المنصات، من صحافة ووسائط اجتماعية ولوحات إعلانية وتليفزيون وراديو، لكن كما هو متوقع من المناقصات الحكومية في البلاد، لا تحرك ساكنًا، وحالنا على ما هو عليه بسبب غياب الحملة التوعوية الجادة».
صعوبات أخرى
عائق آخر لتسجيل اللقاح هو شرط «البطاقة المدنية الصالحة». فوفقًا لماري آن، يستغل كثير من أصحاب العمل الوباء كعذر لتجنب تجديد تأشيرات عمل موظفيهم. وإذا كان المتبقي على انتهاء صلاحية إقامتك شهرًا، فإن نظام التسجيل يرفض التقديم.
واجه «جيفري مارتن»، رجل الأعمال الكندي والمحلل الاقتصادي، صراعات مماثلة مع التسجيل، لأن بطاقة هويته المدنية كانت تنتهي في نفس شهر افتتاح التسجيل لِلِّقاح.
يقول مارتن لـ«منشور»: «بسبب كثرة المراجعات الورقية والتأخيرات الناجمة عن كوفيد، لم أتمكن من تجديد إقامتي»، وهذا يعني أنه لم يستطع التسجيل لتلقي اللقاح لمدة شهرين بعد بدء التسجيل. ويضيف أن «التأخيرات البيروقراطية في تقديم طلب الحصول على تصريح العمل تعقد أيضًا التسجيل للحصول على اللقاحات». فعند إغلاق ما بين 30-50% من الشركات، وفقًا لمارتن، يُترك الآلاف من المقيمين دون تأشيرات عمل، مما يجعلهم غير قادرين على التسجيل لتلقي اللقاح. إضافة إلى أنهم يبقون عالقين هنا بسبب قيود السفر خارج البلاد.
يعتقد محمد اليوسف، وهو باحث في الشؤون السياسية، أن قرارات الحكومة كلها مبنية على تجنب ردود الأفعال المعارضة من قبل الشعب، إذ أن هذه الفترة اتسمت بالسخط العام ضد الحكومة. ويقول لـ«منشور»: «يمكن تلخيص مشكلة قرارات الحكومة في أنها سوء تقدير، إذ أنهم لا يدرسون تأثير قراراتهم على مستوى أشمل، وتحديدًا تأثير هذه القرارات على المقيمين أو الأقليات الأخرى. فالدولة الوحيدة التي فرّقت وميزت بين مواطنيها هي الكيان الصهيوني، رغم أن السياق أكبر بكثير من مجرد سياسة التطعيم».
الفيروس لا يهتم بمن تكون وما جنسيتك وأين تقيم، كلنا كمجتمع بشري في المأزق نفسه، وكثير منا حياته معرضة للزوال طالما لا نفعل ما يجب علينا فعله.
سجل مقيم أردني ولد ونشأ في الكويت لتلقي اللقاح في يوم افتتاح الموقع مباشرة، لكن لم يصله أي تنبيه منذ ذلك الحين. وجدير بالذكر أن هذا المقيم لديه حالة طبية مزمنة تسمى «مرض كرون»، والتي وفقا لطبيبه يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات متعددة في حالة إصابته بكوفيد-19، لأنه لا يستطيع التوقف عن تعاطي دوائه اليومي، وهو مثبت للمناعة. ولتخوفه الشديد، لم يخرج من باب بيته منذ 16 مارس 2020.
أما سماح دياب، خبيرة التسويق اللبنانية، فقد عاشت في الكويت حياتها كلها، وتخبرنا أنها سجلت اسم والدها الستيني والمصاب بالسكري منذ عدة أشهر، ولم تتلقَّ موعدًا بعد. وهناك امرأة تونسية تبلغ من العمر 53 عامًا، تقول لـ«منشور» إنها سجلت في نفس الوقت مع بناتها الكويتيات اللاتي تتراوح أعمارهم بين 24 و25 عامًا، إلا أنها لم تتلق موعدًا بعد رغم تلقي بناتها للقاح، ورغم أن واحدة منهن سجلت بعدها بثلاثة أشهر.
هناك تجربة أخرى حدثت قبل أكثر من شهر مع رجل فلسطيني يبلغ من العمر 50 عامًا ولديه مرض السكري غير المنضبط، والذي يعني أن مستويات السكر في الدم تكون مرتفعة للغاية ولا يمكن علاجها بواسطة الدواء، لكن هذا المقيم لا يزال بانتظار موعده. وفي الوقت نفسه لا يزال فلسطيني آخر مصاب بالربو ويبلغ من العمر 45 عامًا، وهو مولود في الكويت، ينتظر موعده أيضًا. لكنه واجه مشكلة مختلفة قليلًا، فعندما سجل، أضاف أن لديه حساسية لبعض الأطعمة والأدوية، وعليه، رفض النظام تسجيله. والآن في كل مرة يحاول التسجيل، يخبره النظام أنه مسجل بالفعل. ولا يزال في حيرة، لا يعرف إذا كان سيحصل على موعد أم لا.
يقول مارتن إن «أكثر ما يقلقني هو الصمت الذي يسود المجتمع الأكبر حيال ما يجري. الفيروس لا يهتم بمن تكون وما جنسيتك وأين تقيم، كلنا كمجتمع بشري في المأزق نفسه، وكثير منا حياته معرضة للزوال طالما لا نفعل ما يجب علينا فعله».