كنت أؤمن بأن الملمات، على أنواعها من كوارث طبيعية وحروب وأوبئة، تُظهر أنقى ما في الإنسان وقت استشعاره خطرًا يهدد وجوده. حسبته ينهض مدركًا مسؤوليته، يدافع عن بقائه وبقاء بني جلدته أمام وحش لا يفرق بين ضحاياه، أو على أقل تقدير كنت أظن الكارثة تدفعه لتأجيل معاركه الصغيرة التافهة إلى حين، لولا ما كشفه وباء كورونا الجديد «كوفيد-19»، على المستوى المحلي على وجه التحديد.
ما سيقتلنا ليس فيروسًا
ما عاد المرض عدوًا فتاكًا بين أعداء افتعلنا وجودهم، ورحنا نشيطنهم ونقصيهم وننشغل في أمرهم أمام ناظري كوفيد-19 الذي يمر دون هيبة بين أناس لا يدركون أدنى درجات المسؤولية. حتى الأصوات التي تنادي بعقل باتت نشازًا يثير التعاطف، لا يكاد يرى في زحمة الجنون البشري، مذ أطل المرض برأسه مع طلائع المسافرين العائدين من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الكويت، ليستحيل الوباء بمباركة الإنسان إلى معركة شيعية سنية أمام ناظري وباء حديث ولادة لا يفقه في الأديان والطوائف وموروث الكراهية ذي الـ1400 عام.
وفيما يتوغل الوباء فينا سريعًا، ينفث شروره ويتصدر الأخبار بانتصاراته، رحنا نحاربه في محاربة أنفسنا، بني البشر، أعددنا قوائم الإدانة المعلبة لنتخفف من عبء مواجهة عدو خفي بخلق عدو ظاهر نهلكه تنمرًا، مواطن أو مقيم عائد من سفر؛ مواطن شيعي، مقيم مصري، كما لو أنهم هبطوا على البلاد من السماء من دون سماح القانون والسلطات، ليزيد ارتباك شعب في دولة مرتبكة. وينقب المواطن الموبوء عن ضحية موبوءة يتنمر عليها ليتخفف من شعوره بالمسؤولية والإدانة الجمعية وتلكؤ حكومته، وليس أسهل هنا من المقيم الذي جاء بالقانون ليصير ضحية الضحية.
وفي حرب ضروس بين مريض جاهل وسليم لا يقل جهلًا، تتنوع الخطابات التي لا علاقة لها بظرف صحي طارئ، خطابات كراهية تراوح بين تخوين وإدانة وإقصاء، يتسارع العامة بتبنيها وتسخر لها أجهزة الإعلام المريضة مساحات لتصفية الحسابات الخاسرة بطبيعة الحال، ليتفرغ العالم لتسخير كل طاقاته في محاربة الوباء وإنقاذ الإنسان، على حين نستأنف نحن حروبنا الإعلامية الصغيرة.
وبينما يموت الآلاف في الخارج في ممرات المشافي دونما سرير أو حتى طبيب يعاين حالة، نتابع في الداخل أخبار حرب كويتية مصرية، خلال هدنة سنية شيعية، والسيد كوفيد-19 يواصل أداء واجبه لا يفقه صراخ وعنتريات أعضاء برلمان كويتي، ولا يخشى أموال نفط عاجزة عن توفير لقاح، ولا يميز المسجد عن الحسينية أو المجمع التجاري أو حافلات النقل الجماعي، ولا يطاله قانون الكفيل والإقامة فيختم على جواز سفره ويرسله إلى الإبعاد، ولا ينحني إجلالًا لأبناء حضارة السبعة آلاف سنة.
الإنسانية: مشروعنا الفاشل
أي خيبة يستشعرها المرء إزاء كل هذا الجنون في تصنيف البشر. وأي وباء بغيض لا يراعي أناسًا مرضى في نفوسهم قبل تهديد أبدانهم، أناسًا قابلين للفناء السريع والتعفن دونما جائحة. وأي مخلوقات نحن تنضح سخافةً وابتذالًا واستماتةً للظهور بأي صورة، وإبداء رأي جاهل في فوضى الآراء الطبية على مستوى العالم.
كيف يحيل الإنسان المرض في هذا الظرف نكتةً سمجة تفترض الضحك على موت الآخرين وفجائع أحبتهم، أو سلاحًا عنصريًا في وجه عدو وهمي يشاركنا الحياة في هذا الوطن يأخذ بقدر ما يعطي، أو نشوة لانتشار وباء في شعب دولة أردناها عدوة، أو نبوءة ينعق بها مغمور مشهور في مواقع التواصل الاجتماعي، ليعزز أهميته طمعًا في وظيفة حكومية مرموقة باستعراض خبراته: «كما قلت.. كما حذرت.. كما تنبأت»، أو فتوى رجل دين غير مسؤول يطمئن الناس بما كتبه الله لهم دونما أخذ بالأسباب، أو مخبول يزايد بالدين يعترض قرار إغلاق دور العبادة ويروج للخرافات باسم الدين.
أي شفقة تلك التي نحملها في نفوسنا تجاه قليل جد بين كثير هزل، شفقة إزاء القليل المخلص في أداء عمله صامتًا، بعيدًا عن أهله، في الصفوف الأولى أمام جحافل الفيروس الجديد، قليل أدركته إنسانيته لأداء واجبه أمام فيروس لا يتفحص أوراقه الثبوتية ولا يعنيه إن كان رجل الأمن أو الطبيب أو الممرض كويتيًا شيعيًا أو سنيًا أو من فئة المواطنين البدون أو مقيمًا عربيًا أو أجنبيًا دعته إنسانيته لأداء واجبه. أو أولئك الذين سخروا علمهم ومعرفتهم في توعية العامة عبر قنواتهم الخاصة في الإعلام الفردي، لتصير صفحاتهم ملاذًا آمنًا لمن ضاق بهم فضاء الكراهية، في ظل بيانات حكومية لها تأثير الصمت، وتسريبات أخبار مفزعة مجهولة المصدر أكثر صدقًا من ناطق رسمي.
استبشرنا خيرًا قبل بضعة أشهر، رغم فاجعة اندلاع الحرائق في غابات أستراليا، وقت هب الإنسان «هناك» يخاطر بحياته من أجل حماية شجرة لا حول لها ولا قوة، أو بإنقاذ حيوان مذعور يلوذ بالأدخنة عن النيران. ما باله الإنسان «هنا» يوقد نار الكراهية والجهل في كل من حوله ويستطيب استنشاق دخانها؟
نحن صغار، صغار جدًا، أقوى ما فينا ألسنتنا السليطة وأخلاقنا الهشة وأدمغتنا الفارغة إلا من أفكار عنصرية وطائفية تنهش نفوسنا قبل أن يفتك الوباء بصدورنا ويكتم أنفاسنا. حقيقةً هذا الفيروس واجهنا بأنفسنا قبل أي شيء آخر، نتأ جروحًا متقيحة وأظهر أرخص ما فينا حتى هان أمره، بل ربما يكون هذا الفيروس أنبل منا وهو يفتك بصدورنا المليئة بالأحقاد يخنقها.