في زمن فيروس كورونا يتغير كل شيء تقريبًا، وتطفو إلى السطح ظواهر وسيناريوهات جديدة يوميًا، معظمها من الواقع اليومي وبعضها تنبؤات بما هو قادم. وفي مجال الأعمال المكتبية وأروقة الشركات والمؤسسات، برزت خلال تجربة العمل عن بعد تحديات وإشكالات أثرت في بيئتها وثقافتها المؤسسية ونظرتها لموظفيها، وظهرت تحديات إنسانية ووظيفية تمس الموظفين والمدراء على حد سواء، وهنا نستعرض أبرز هذه الظواهر في عدد من المحطات.
الموظفون وتحديات نفسية ومهنية عديدة
كثير من الشركات أوقفت الإجازات السنوية لموظفيها مؤقتًا، وفي العديد من الوظائف الحساسة حتى إجازات نهاية الأسبوع أوقفت، وأصبحت ساعات العمل تمتد بشكل أطول من المعتاد، رافقها تزايد الضغوطات النفسية والمادية على الموظفين بسبب تقليص الأجور، أو القلق من فقدان الوظيفة بسبب التأثر بالظروف الاقتصادية لجائحة كورونا.
يزيد الطين بلة عدم توفر القنوات والآليات الصحيحة لاستقبال هذه الأفكار والمشاعر. مثلًا، كيف يطلب موظف مرهق يومًا للإجازة من مديره المباشر في ظل هذه الضغوط؟ كيف ينجح في إيصال مشاعره وحالته الحقيقية؟ علمًا بأن هذا التواصل غير معتاد في كثير من بيئات العمل بسبب ميكانيكية الأنظمة السابقة التقليدية، وعدم وجود منطقة رمادية مقارنة بالظروف غير الاعتيادية الحالية، فكيف يتصرف لبناء الثقة مع مديره؟
صحيح أن الحلول الفردية لا تغني بالكامل عن الحلول المؤسسية، لكن عددًا من الممارسات يمكن لأي موظف تطبيقها أثبتت فعاليتها في الحفاظ على توازنه وإيجاد مُسكن مؤقت، يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسية:
1. التضحية ذاتية الإرادة
على الموظف أن يكون مقبلًا برغبته الشخصية على التضحية وتنفيذ مهام إضافية أو العمل لوقت إضافي كلما اقتضت الحاجة، مرسلًا بذلك إشارات إيجابية ذكية للإدارة تعزز الثقة، وتؤكد الجاهزية للتضحية وتفهُّم طبيعة المرحلة الاستثنائية. كذلك، يتخلص الموظف حالما تحلى بهذه المرونة الإرادية من الشعور بالضغط أو الظلم في حال تزايد المهام أو ساعات العمل.
2. المرونة والتأقلم باكتساب عادات جديدة
من الضروري للموظف التعايش مع الظروف الجديدة لوظيفته والتحلي بأكبر قدر من المرونة، بالتأقلم واكتساب عادات جديدة أو التخلي عن عادات قديمة، ويشمل ذلك تغيير أنماط النوم وطريقة قضاء وقت الفراغ وآلية تنفيذ المهام وتنظيم الوقت والأولويات، بما يساعده على تأدية مهامه الوظيفية على أكمل وجه دون التأثر بأي عوامل استثنائية جديدة.
3. التواصل، والمبادرة، وطلب المساعدة
من خلال التواصل المباشر والمستمر مع الرؤساء لتقديم المستجدات عن سير العمل والإنجاز، ينجح الموظفون في الحفاظ على مستوى منخفض من القلق والتوتر. وباستباق الأحداث عبر المبادرات الإيجابية والتطوع لتنفيذ بعض المهام، يسود جو من الثقة وروح الفريق الواحد، وهذا يسهل كثيرًا من تعقيد التواصل وإفشاء المشاعر للرؤساء طلبًا للمساعدة في تنفيذ العمل، أو حتى لطلب يوم إجازة أو إعفاء من مهمة ما، بفضل الرابط العاطفي المشترك والثقة الإنسانية المتبادلة.
كيف يبدو المشهد من جانب المدراء؟
لا تقِل الضغوط التي يتعرض لها المدراء عن تلك التي يعاني منها الموظفون، بل غالبًا ما تزيد عنها. فهم مطالبون بالحفاظ على النتائج السنوية رغم العمل بميزانيات أقل، ويواجهون التحدي الإنساني بتسريح موظفين من جانب، والقلق على وظائفهم من جانب آخر، ويُنتظر منهم تحفيز الموظفين للإنجاز في مناخ من الشك والقلق، وإدارة سير العمل عن بعد دون لقاء موظفيهم بشكل مباشر، ودون معرفة ظروفهم وفهم مشاعرهم وحالتهم النفسية بغياب لغة الجسد وتعبيرات الوجه ونبرة الصوت، وهي موارد قيمة يُحسن المدير الناجح من خلالها عادة إدارة موظفيه بشكل يومي، وإحداث التوازن اللازم بين ما هو تعاقدي وظيفي وما هو تراحمي إنساني.
في ظل هذه المعطيات، يحتاج كل من يدير فريق عمل أن يبدأ بدراسة وتحليل الثغرات، وتوقع الإشكاليات التي قد يواجهها، واتباع أساليب تمكنه من الإمساك بزمام الأمور وقيادة فريقه إلى البر الأمان، منها:
1. عقد الاجتماعات بشكل دوري
عقد اجتماعات الفيديو بشكل دوري ومنتظم مع فريق العمل أمر في غاية الأهمية للحفاظ على التركيز والمعنويات ووضوح الهدف، على أن تكون الاجتماعات قصيرة ومركزة بأجندة معدة مسبقًا. كذلك، إذا كان إجراء اجتماع يومي في المكتب أمرًا ممكنًا ومعتادًا، فإنه قد لا يلقى نفس النجاح والترحيب في منظومة العمل عند بعد، ويفضل عقد الاجتماعات مرتين أسبوعيًا أو كلما اقتضت الحاجة.
2. إرساء منظومة الإنجاز بمرونة
يصبح معيار الإنجاز ضرورة لا رفاهية، وبديلًا لازمًا لساعات العمل التقليدية خلال العمل عن بعد. ويتمكن المدير الناجح من قياس الإنجاز وترسيخه كمنظومة تخدم إنتاجية المؤسسة، دون أن تؤثر على إنسانية الموظف وتعرضه لضغوط نفسية وساعات عمل طويلة، باستخدام مختلف الطرق التقليدية أو المبتكرة، وإحداث التوازن بين ما هو مهم وما هو عاجل في أذهان الموظفين.
3. العطاء والمزج بين المهني والإنساني
هذا هو أكثر الأوقات الذي يحتاج فيه الموظفون إلى وجود مدرائهم إلى جانبهم، من خلال المشاركة الفعلية في العمل وتقديم المساعدة والمشورة، وحتى التدريب والنصح لمن يحتاجه.
على المدير الناجح أن يُشعر موظفيه بأنه متاح وجاهز لتقديم الدعم والمساندة، وأن يكون أكثر قربًا، ويمزج المهني بالإنساني في تواصله معهم. فالموظفون الذين يتلقون الأوامر والتكليفات الصرفة مع الحد الأدنى من التواصل، يكونون عرضة أكثر من غيرهم للتشتت الذهني، مما قد يجعلهم يستغرقون وقتًا أطول للتنفيذ، ويقل لديهم الحافز للإبداع بسبب «روبوتية» العمل.
السلوك الوظيفي: إيجابيات في الأفق، وإن جاءت قسرًا
تخيل السيناريو التالي: موظف يشعر بالملل والانزعاج ولا يشعر بأي رغبة في العمل، ماذا يفعل؟
الإجابة لدى كثيرين هي الحصول على إجازة مرضية، وهي إحدى العادات السلبية التي تعاني منها الإدارات وتتأثر بها الإنتاجية، والتي اعتاد كثير من العاملين التنعُّم بها، حتى أصبحت ثقافة دارجة تضع علامة شهرة على من اعتاد عليها، وتترك المسؤولين مقيدي الأيدي تجاه الإجازات المرضية الرسمية ذات الأعذار الطبية الوهمية أو قليلة الأهمية، التي تجد من يكتبها دائمًا.
هذه الثقافة شهدت هزة غير مسبوقة بعدما أصبح الذهاب إلى المستشفيات مقيدًا بالحالات الطارئة فقط، وأسهم الخجل الاجتماعي وشبهة الإصابة بفيروس كورونا في منع كثيرين من تلك النزهة السهلة للحصول على إجازة مرضية، فأنت إما مصاب بفيروس كورونا لا قدر الله، أو أنك في أتم الصحة والعافية، فلا داعي للإحراج بالتمارض.
هذه الفئة التي اعتادت الإجازات المرضية وجدت نفسها بين مطرقة المشهد الطبي الجديد الذي ليس لديه وقت لتلك الظاهرة، وسندان المواجهة مع الإدارة. النتائج لا يمكن لها إلا أن تكون إيجابية وإن كانت الخطوات بطيئة ومرهقة، فالشفافية والالتزام والتواصل المباشر هي الأدوات التي سيضطر الموظف لاستخدامها في هامش المراوغة الضيق، ويشمل ذلك تنفيذ المهام وبناء الثقة من خلال التواصل الفعال للإفصاح عن الحالة النفسية والجسدية التي يعاني منها الموظف.
التحديات المستجدة من تباطؤ الاقتصاد وفقدان الوظائف وتخفيض المعاشات وغيرها من عوامل الضغط النفسي والوجداني التي يعانيها الموظفون، تُبرز تغيرًا إيجابيًا قسريًا آخر على سلوكهم، فالغالبية العظمى لا تفكر في الفترة الحالية في التنقل بين الوظائف أو تقديم الاستقالة أو التلويح تهديدًا في الظروف الاستثنائية اليوم.
وتتوارى أو تقل كثير من التصرفات المشاكسة التي ترهق الإدارات وتعرقل الإنتاجية، كالتغافل والتظاهر بعدم فهم التكليفات، أو تنفيذها بشكل غير مكتمل، فلا أحد يمتلك ترف عدم الانضباط. تركيز الفرد سيكون على تجنب هذه العادات ولو مؤقتًا، والحفاظ على وظيفته من خلال رفع تنافسيته وتطوير مهاراته، واستكمال نقاط النقص في الكفاءة والأداء، والوجود في دائرة ضوء العمل والإنتاج، وإلا فإن الباب الخلفي للتسريح مفتوح على مصراعيه وبكل شراسة.
إنتاجية متزايدة وموظفون مرهقون، ماذا يحتاج المدراء أكثر؟
فَتحت منظومة العمل عن بُعد الأنظار على الفرص الكبيرة غير المستغلة لرفع الإنتاجية وتخفيض النفقات، وكشفت كثيرًا من الثغرات التي من الممكن تحسينها بأقل التكاليف، ولذلك ستكون هذه الفترة الاستثنائية نقطة معيارية للمقارنة: الأنظمة والممارسات التي كانت مقبولة وتمثل العرف المهني قبلها، قد لا تكون كذلك بعدها.
بنظرة بانورامية على كافة التحديات والمستجدات، من ارتفاع الإنتاجية إلى التنافسية للحفاظ على الوظائف مرورًا بالضغوط النفسية المختلفة، نجدها جميعًا تُبرز الحاجة إلى قيمة إدارية ستكون الأهم والأكثر تأثيرا مستقبلًا: الذكاء العاطفي، وهي خصلة إدارية مهمة في جميع الظروف والأوقات دون شك، ولكن ليس بالشكل الكافي كما يتضح.
فمنذ إطلاق «دانييل غولمان» كتابه الشهير «الذكاء العاطفي: لماذا قد يكون أكثر تأثيرًا من معدل الذكاء» عام 1995، لم تشهد أوساط الأعمال نقاشًا حقيقيًا حول أهمية الذكاء العاطفي في النجاح الإداري يؤدي إلى سن تشريعات جديدة في آليات التوظيف وبرامج التدريب والتطوير المؤسسية، وبقي التركيز بشكل تقليدي على معدل الذكاء والكفاية التقنية في معظم الأحيان، وما عدا ذلك اجتهادات فردية.
يتزايد الاهتمام بالذكاء العاطفي بتباطؤ، ولكن جائحة كورونا قدمت فرصة ذهبية للانتباه والاستثمار الفردي والمؤسسي في هذه الخصلة الذهبية، التي تمثل باقة غنية من أدوات المدير الناجح القادر على التعامل مع أصعب المواقف والأزمات، وقيادة فريقه ومؤسسته إلى بر الأمان، تمامًا كالمواقف والتحديات الآنف ذكرها التي يعيشها الموظفون اليوم.
شواهد الحاضر وتنبؤات المستقبل تخبرنا أن المدير الذي لا يمتلك الذكاء العاطفي ومهارات التواصل الحقيقية سيكون ضمن الحلقة الأضعف، ومن لا يتحلى بالمرونة والتعاطف في إدارة المواقف الإنسانية المعقدة ويكتفي بقوة السلطة فقط، سيتخبط في الفوضى ويخلق المزيد من المشاكل، ومن لا يمتلك الصبر والوقت للإجابة عن أسئلة موظفيه وتوجيههم والاعتناء بهم والتعرف إليهم، سيفقد ثقتهم ويصير أيضًا ضمن الحلقة الأضعف.
ومن منا يريد أن يكون الحلقة الأضعف في سوق ينتظر الضوء الأخضر للانطلاق من جديد؟ ووسط كفاءات ماهرة جائعة للانقضاض على الوظائف؟
أخيرًا.. نعم للأنسنة، لا لمزيد من «الميكنة»
سيعود كثيرون إلى مكاتبهم ويستمر كثيرون في العمل عن بعد، وإذا أمكننا استعراض بعض الإضاءات والاستنتاجات الإيجابية لتجربة العمل عن بعد، مثل زيادة الإنتاجية ورفع الكفاءات الوظيفية وزيادة التنافسية، يجب الانتباه إلى جانب مظلم قد تسببه هذه الإيجابيات.
سنجد أنفسنا أمام مفترق طرق مهم مع تسارع دوران عجلة الاقتصاد في النظر لمنظومة العمل والإنتاج وتموضع الإنسان فيها، ونتمنى أن يؤدي الطريق لانتصار الأنسنة على الميكنة وحسابات الربح والخسارة في معادلات المستقبل القريب.