السباق على حل تمرين الرياضيات، ثم الذهاب للمعلمة كي تضع لك الترتيب على الصف إذا كان حلك صائبًا، قادر على أن يرسخ فكرة التفاوت في أذهان الأطفال. ليس هذا فحسب، بل إن هذا السلوك العادي يصبح بالنسبة لثقافة تنافسية حتميًا وضروريًا، ويعتبر احترامَ الذات، الذي يهدده رسوخ مركزك بين من يستطيعون حل مسألة رياضية أولًا، هامشًا يمكن التضحية به أو المقايضة عليه.
يشير الكاتب مالكوم هاريس في مقالة على نيويورك تايمز إلى كيف يعيش العديد من أطفال اليوم حياتهم بأكملها في منافسات شرسة مع أقرانهم. فهو لا يستطيع التفكير في فترة عملَ فيها بجدية أكبر مما كان عليه في المدرسة الثانوية. إذ أنه ومن روضة الأطفال إلى الصف الثاني عشر، تتفاخر المدارس التي انتسب إليها بمدى «تنافسيتها».
يعني ذلك أن الطلاب لا يكفي أن يبذلوا قصارى جهدهم فحسب، حتى في المنزل، بل يجب عليهم دائمًا أن يكونوا الأفضل، حتى أصبحت الطفولة اختبار تحمُّل منهِكًا.
نحاول هنا التفكير في مسألة المنافسة، وإذا ما كانت تشجع بالفعل على التطور والإبداع.
على ماذا نتسابق؟
في تقريرها على شبكة Ananda Marga Gurukula لخدمات التعليم، توضح المعلمة كيت إريكسن أن اعتقاد الكثيرين أن المنافسة صحية وأنها حقيقة لا بد منها في الحياة وجزء ضمني من عملية التعليم، قادم من نظام تخصيص تقييم الطلاب بالدرجات ضد بعضهم البعض في العديد من بلدان العالم، ثم نتنافس على الفوز على وظيفة معينة، لذلك فإن تعرضنا المبكر لمنطق المنافسة يبدو جيدًا، إذ نصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات التي يطرحها مسارنا الدراسي والمهني.
أما عن خيبة الأمل القادمة من عدم الفوز في هذه المناسبة، فيجب التعامل معها على أنها نتيجة طبيعية للمنافسة. وترى بصفتها معلمة كيف أن وجود عنصر المنافسة في أنشطة معينة يعزز الاهتمام والتركيز، وكيف تصبح المنافسة عنصرًا طبيعيًا في عملية التعلم والنمو.
دفعت هذه المواقف كيت إلى التفكير في المنافسة، وكان أن قرأت عن الاتجاه الذي يراه منظرو التعليم بأن التنافسية ما دامت جزءًا من الثقافة، فلا بد من أن تكرَّس وتمرَّر بالتعليم، لأن وظيفة التعليم تكمن في هذا النقل، أما النظرية المقابلة فترى روح المنافسة تتعارض مع التعاون، وهي بالتالي عنصر ثقافي يجب تقليصه لأنه قادر على إرباك الطلاب، الذي سيحاولون التنافس لكن النتيجة ستبدو خلافًا لذلك بالنسبة لهم.
يعرض التقرير نفسه أن أحد الآثار المعروفة لضغوط المنافسة الشديدة في نظام التعليم الياباني، أن الطلاب يجدون أنفسهم مضطرين للتعامل مع تداعيات خسارة آمالهم، وهناك طلبة لا يستطيعون مواجهة أقرانهم أو معلميهم بعد الحكم عليهم سلبيًا، وهناك من يصبح انتحاريًا بسبب ضغوط المنافسة الشديدة.
يدرك المعلمون البريطانيون الآثار السلبية من منطق المنافسة هذا، وخاصة في سنوات التعليم الابتدائية، فنظام التقييم بالدرجات له انعكاسات سلبية، لذا بدأ المعلمون باقتراح مدح «الجهد» المبذول بدلًا من النجاح.
وقد وجدوا أن الأطفال الذين يعتقدون أن ذكاءهم ثابت يقدمون على بذل جهد أقل للتعلم، في حين أن أولئك الذين يعتقدون أن ذكاءهم يمكن أن يتطور يحاولون بصورة مستمرة وعلى نحو أكبر. ووجدوا أن «تقديم المكافآت على أساس تنافسي» يؤثر على نظرة التلاميذ إلى زملائهم في الفصل، فغالبًا ما يصبح الأطفال الخجولون «هادئين أو خاضعين بشكل متزايد» بسبب التنافسية.
يشير التقرير كذلك إلى أن الهولنديين فكروا بدورهم في القيم الفعلية التي يحتاجها المجتمع، والتي من الممكن أن تصبح محورًا للتنافس بين طلبة المدارس، وقرروا أن شعار «كن محترمًا، كن مسؤولًا، كن آمنًا» يعد معيارًا للتنافس بين الطلبة، مع عرض شهادات أسبوعية للطلاب الذين يعكسون هذه القيم.
علاقة التعليم بالثقافة
يكتب المؤلف كريس غيتون في مقاله على موقع Culture Matters عن الروابط بين التعليم والرأسمالية، منطلقًا من الدور الحاسم الذي يدركه الناس عن التعليم في المجتمع، إذ يسمح لهم بفهم العالم من حولهم، ويزودهم بالمهارات التي يحتاجون إليها للتنقل فيه أثناء نموهم وتطورهم. ويعتمد نظرة التربوي الأمريكي جون ديوي في القرن التاسع عشر، والذي يقول إن «التعليم ليس إعدادًا للحياة، التعليم هو الحياة بحد ذاتها».
ينقل غيتون عن عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، أن وظيفة التعليم الأساسية هي نقل المعايير والقيم الأساسية للمجتمع، وربط أفراد المجتمع ببعضهم، واستخدام وتكريس التراتب الهرمي والقواعد الموجودة في المجتمع. وبذلك يتدرب الناس على أداء أدوار معينة في هذا المجتمع.
ومن خلال هذا المنظور الوظيفي للتعليم يرى تالكوت بارسونز عالم الاجتماع الأمريكي أن المدارس تمثل الوكالة الرئيسية للتنشئة الاجتماعية وإعداد الصغار لعالم الكبار ودعم تقسيم العمل. لكن إلى أي مدى ينجح هذا المنظور في تقديم النقد المستمر حول قيم نظام التعليم وعلاقتها بقيم النخبة الحاكمة، وأن تكافؤ الفرص التي تتيحها المؤسسات التعليمية ليست ذات معنى وقيمة في مجتمع غير متكافئ أصلا، حيث الحصول على التعليم مرتبط بهذه الامتيازات.
نسأل الآن: هل يمكن أن نقول إن استفهامنا حول حتمية التنافسية بين طلبة المدارس والأيديولوجية السائدة في المجتمع قادمة من نظرية غرامشي نفسها بحسب غيتون؟ ترى النظرية أنه لا وجود لثقافة مهيمنة تمامًا، إذ أن أكثر الأنظمة السياسية تعقيدًا ستواجه جيوبًا من ثقافات «الهيمنة المضادة»، أي وجهات نظر للمجتمع تتحدى الأيديولوجية السائدة. هل نحن الذين نقف في هذا العالم الذي يعزز التنافسية في كل تمثلاتها، وقد نمتلك إمكانات قد تخلخل هذه القواعد الراسخة؟
هل يستحق الأمر التضحية بنا؟
هذه المعايير الثابتة التي نقيَّم وفقًا لها، قادرة على تصفية أي طفل مختلف، أو يتمثل لهذه المعايير بطريقته. وأنا متأكدة أن كثيرًا منا عانوا من الإقصاء لأنهم غير قادرين على أن يكونوا الصورة المنضبطة التي تطرحها مدارسنا عن النجاح. وأننا عندما كنا نسرح في وقت حل المسألة الرياضية، تفكيرًا في إمكانية تطبيقها في الواقع، وأهمية الرياضيات في حياتنا اليومية، كنا نغترب عن نظام تعليمي يريد منا أن نتفانى برصانة في الالتزام بمعايير محدودة، لأن عالمنا القادم محدود أيضًا، ولا ينبغي أن نكون أكثر من مؤهلين لشغل أدوار معينة في مجتمعاتنا.
إذًا، ما الذي يمكن فعله خصوصًا أن الأدوات التي يمتلكها المعلمون في مدارسنا ليست جذرية؟ إدراك مهارات الطلاب وتنوعها الكبير، وتأهيلهم لا لشغل وظائف بعينها، بل لعيش حياتهم بالتزام نحو أنفسهم والآخرين، قد تجعل من هذا العالم مكانًا مختلفًا. وعلى المعلمين إبعاد نظرتهم السلبية والمشمئزة لطلابهم غير القادرين على خوض هذا السباق، وعدم النظر إليهم ككائنات في طريقها للفناء ما لم تكن قادرة على الركض والمنافسة.
يمكن أن نفكر ببساطة أن هذا العالم وهذه الحياة ليست مضمارًا للتسابق، وأنه في الوقت الذي أصبحت فيه كذلك، أصبحنا أعضاء مستهلكين فيها، وقيمتنا وقيمة حياتنا قادمة من فرصة أن نستمر في الاستهلاك.