في مارس 1989، أعلن باحثان من جامعة يوتاه الأمريكية نجاحهما في إنتاج الطاقة باستخدام الاندماج النووي، تلك العملية التي تضيء من خلالها الشمس. وُصف هذا الاكتشاف، الذي جلب طاقة الشمس إلى المختبر، بأنه «أهم اكتشاف بشري منذ النار».
طاقة نظيفة، وهائلة جدًا، وقودها متوافر بكثرة، بلا نفايات نووية، ولا كوارث إشعاعية، ولا انبعاثات كربونية.
كل ما تحتاجه لتحقق الاندماج النووي هو دمج العناصر الخفيفة مع بعضها لتنتج لك طاقة. لكن هناك مشكلة: عملية الدمج صعبة جدًا، وذلك بسبب تنافر العناصر من بعضها. والحل؟ إما ضغط عالٍ، أو حرارة عالية تتجاوز درجة حرارة الشمس (في الشمس تلبي الجاذبية الهائلة متطلب الضغط، فيصبح الاندماج النووي ممكنًا في قلبها). الوصول لهذه الحرارة العالية ممكن مختبريًا، لكننا لا نعرف أي مادة عملية يمكنها تحمل حرارة كهذه.
اتبع الباحثان فكرة مبتكرة لتحقيق الاندماج النووي دون حاجة إلى حرارة عالية، وذلك بحشو العناصر الخفيفة داخل عنصر أثقل مثل البلاديوم، مع افتراض أن ذلك يوفر الضغط المطلوب للاندماج. أُطلق على هذه العلمية «الاندماج البارد»، ورغم أنها معروفة مسبقًا، فإن نتائجها كانت إيجابية حين أجراها هذان الباحثان تحديدًا في المعمل.
وفور إرسالهما ورقتهما البحثية إلى مجلة «نيتشر» العلمية العريقة، وقبل حتى أن تُقبل مع إجراءات تحكيم قد تمتد لأشهر، أعلن الباحثان هذا الخبر المدوي، الخبر الذي لا يحتمل الانتظار، في مؤتمر صحفي نظمته جامعة يوتاه.
لماذا لم تنتهِ أزمة الطاقة؟
هز الخبر أرجاء العالم. هل تحقق حلم الإنسان بِطاقة غير محدودة؟ هل انتهت أزمة الطاقة تمامًا؟ هل نقول وداعًا لمشكلة التلوث البيئي؟
ما التبعات الاقتصادية لهذا الموضوع؟ ماذا عن الاستثمارات الضخمة في مصادر الطاقة الأخرى؟ هل يصبح عنصر البلاديوم هو النفط القادم؟ أيجعل ذلك من روسيا وجنوب أفريقيا (حيث وفرة البلاديوم) دول الخليج القادمة؟ ماذا عن دول الخليج «الحالية»؟ ماذا عن التبعات العسكرية لهذا الاكتشاف؟
أسئلة كثيرة جعلت من هذا الخبر هوسًا عند مختلف دول العالم. أما الباحثان فلا بد أنهما ضمنا جائزة نوبل، وبدأت ملايين الدولارات تُدفع لتمويل مشروعهما.
حاولت عدة دول تكرار التجربة لتتأكد من صحة النتائج، وتمكنت أكثر من دولة من تكرارها في غضون الأسابيع الأولى من التجربة وأتت بنتائج إيجابية، بينما استمر عدد من العلماء في مختلف أرجاء العالم في محاولة الحصول على نتائج إيجابية، ومنهم العالم الكويتي عدنان شهاب الدين حين كان باحثًا بمعمل لورنس بيركلي الشهير في كاليفورنيا. لكن معمل بيركلي، وكثير من المعامل الأخرى، أثبتت أن تجربة جامعة يوتاه لا تؤدي إلى أي اندماج نووي.
انقسم العلماء بين مصدق ومشكك، وتأرجحت الصحافة العالمية بين الاحتفاء بالخبر وإبراز وجهات النظر الأخرى، وانتشرت بالطبع نظريات المؤامرة: «لا بد أن شركات النفط تدخلت وهددت العلماء».
بعد عدة أشهر ضاع فيها العالَم بين الحقيقة والخيال، اتضحت أخطاء منهجية كثيرة في تجربة الباحثيْن، وكل تجربة أخرى أظهرت نتائج إيجابية. ولم تنشر مجلة «نيتشر» الورقة العلمية بعد رفض الباحثين توضيح نقاط كثيرة فيها.
هل علينا الوثوق بالعلم؟
ما أشبه اليوم بالبارحة، سابقًا مع الاندماج البارد واليوم مع فيروس كورونا، وذلك مع تكرار الحاجة الملحة لأسرع النتائج من العلم الحديث، وتضارب الأخبار العلمية، والسجال العلني بين العلماء، وبروز نظريات المؤامرة، وضياع العامة بين السبق الصحفي والنشر العلمي.
لا يمكن دفع العلم غصبًا إلى نتيجة مرغوبة، وستبقى عجلته تسير بتأنٍّ مستمر. ولا يمكن كذلك السماح بتكرار خطأ الباحثَيْن في الاندماج البارد مع لقاح كورونا المنتظر، ولا يمكن للدقة أن تكون قربانًا للسبق، فما هكذا يسير العلم الحديث.
أصبحنا مع أزمة كورونا، كما الحال قبل 30 سنة، مستعجلين للحصول على نتائج فورية، فاستغربنا من التقدم البطيء، وانقسام العلماء، والتراجع المتكرر عن الآراء، وأن تأتي دراسة اليوم تنافي سابقتها، رغم أن هذا طبيعي جدًا مع أي موضوع علمي مستجد.
الفارق اليوم أن السجال العلمي انتقل من أروقة المؤتمرات إلى الميدان العام. الصورة المثالية للعلم الحديث على أنه ساحر حلَّال لكل المشاكل، هي صورة خاطئة سببها نظرتنا للعلم على أنه تطبيقات تكنولوجية وحقائق مؤكدة، رغم أن هذه الخلاصات تأتي غالبًا بعد سلسلة طويلة وبطيئة من النقد المتكرر بين العلماء، والتراجع المستمر عن الأخطاء، وأمور أخرى لا نراها في العلن رغم أنها معتادة خلف كواليس البحث العلمي.
بدأ الاندماج البارد بتسرع في النشر، ثم مر بفترة من تضارب الآراء والدراسات، إلى أن وصل أخيرًا إلى المعرفة الأقرب للحقيقة، وسيكون هذا هو الحال مع لقاحات كورونا وعلاجاته ووسائل الحد من انتشاره. أما سؤال «إذا كان العلم الحديث في تصحيح ذاتي مستمر، فلماذا نثق في نتائجه؟»، فإجابته باختصار: لأنه أفضل ما نملك.