«لِنضع الكرات الخضراء أولًا، ومن ثَمّ نبدأ بالحمراء منها. لا لا، فلنبدأ بالكرات الذهبية يا ماما».
حديث قصير دار بين أم جورج وابنتها الصغيرة خلال تزيينهما شجرة عيد الميلاد في إحدى زوايا بيتهما، ابتهاجًا باقتراب الأعياد المسيحية.
أم جورج تعيش في حي الرمال وسط مدينة غزة برفقة عائلتها منذ أكثر من 60 عامًا، وكغيرها من المسيحيين الذين لا يزالون يحاولون الصمود في غزة، هذه البقعة الساخنة المتوترة دومًا، تستعد للعيد بانتقاء ولو أشياء بسيطة ونادرة من حاجيات عيد الميلاد المجيد، يتمكن بعض تُجار غزة من إدخالها عبر المعابر المحاصرة، التي لا تفتح إلا بين حين وآخر.
حسب التقويم الشرقي، يبدأ مسيحيو الطائفة الأرثوذكسية الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في السابع من يناير من كل عام ولمدة يومين، في حين يحتفل الكاثوليكيين حسب التقويم الغربي في 25 من ديسمبر.
انتبهت الطفلة هبة لقلة تشكيلات الشوكولاتة وندرة ملابس العيد للأطفال، ويرجع هذا إلى الحصار المتواصل منذ أكثر من 11 عامًا.
تقول أم جورج لـ«منشور»: «رغم كل الحزن والدمار الذي يخيِّم على غزة، يحاول المسيحيون أن يقتنصوا أي لحظات فرح وسعادة لهم ولأطفالهم. لو أن المعابر إلى الضفة الغربية مفتوحة، كنا سنختار الاحتفال في مدينة بيت لحم حيث مهد المسيح، لكن إغلاق المعابر المتواصل، وندرة إصدار تصاريح لدخول الضفة من الاحتلال الإسرائيلي، يحولان دون ذلك».
يشعر مسيحيو قطاع غزة بالنقص التدريجي في أعدادهم مؤخرًا، مقارنةً بعشر سنوات مضت، بسبب سوء الوضع الأمني والاقتصادي والمجتمعي، الذي يدفعهم إلى ترك موطنهم والهجرة إلى الضفة أو إلى الخارج.
«كثير من أقاربي هجروا غزة، دون عودة بحسب ما أظن، إلى أن يعم السلام والاستقرار، ولا نعلم متى يمكن أن يكون هذا اليوم». هكذا يوضح الشاب حنّا، وتوافقه أم جورج، التي تؤكد قلة عدد المصلين في الكنيسة مقارنةً بأعوام مضت.
أما ما تنتبه إليه الطفلة هبة فهو قلة تشكيلات الشوكولاتة وأنواعها الخاصة بعيد الميلاد، وندرة الملابس الخاصة بالأطفال التي تعبِّر عن استقبال العيد، ويرجع ذلك إلى إغلاق المعابر المتواصل من السلطات الإسرائيلية، والحصار المشدد على غزة منذ أكثر من 11 عامًا.
يحظى المسيحيون في غزة بمكانة اجتماعية واقتصادية مرموقة، فمنهم تجار ذهب وبترول، وبعضهم من أكبر مُلاك العقارات.
انتشرت المسيحية في فلسطين خلال الحُكم الروماني مع ميلاد المسيح، وكانت البشارة بمدينة الناصرة، بحسب كتاب «حياة القديس برفيريوس أسقف غزة» لشماسة مرقس، ترجمة هبة الله صروف.
أما الوجود المسيحي في غزة فيعود إلى القرن الخامس الميلادي، بحسب ما يؤكده المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم عرفات المبيض في كتابه «النصرانية وآثارها في غزة وما حولها»، لكن عددهم آخذٌ في التقلص حتى قارَبَ ألف مسيحي فقط حاليًّا.
وفقًا للمبيض، ازدهرت المسيحية في القطاع بشكل كبير بنهاية القرن الخامس الميلادي وبداية السادس، وانتشرت حتى شملت ليس فقط مدينة غزة وموانيها، بل ما حولها على مساحات شاسعة، فبُنيت الكنائس والأديرة والمقامات الأسقفية على طول امتداد الساحل.
يؤدي مسيحيو الطائفة الأرثوذكسية في قطاع غزة الشرقيون شعائرهم في كنيسة «القديس برفيريوس»، وهي كنيسة تتوسط مدينة غزة، وتقع في قلب حي شعبي معظم سكانه مسلمون، وتلاصق مسجد «كاتب ولاية» تمامًا، بحيث لا يفصلهما سوى جدار مشترك.
تلك الكنيسة من أهم المعالم التاريخية القديمة في غزة، وهي مبنية من حجارة صخرية قديمة، وتتوسطها ساحة كبيرة، ويعود تاريخ بنائها إلى بداية القرن الخامس الميلادي، ويوجد بها قبر القديس برفيريوس الذي توفي عام 420 من الميلاد، وتضم كذلك أقدم جدارية لمريم والمسيح.
بينما يؤدي المسيحيون الغربيون (الكاثوليك) شعائرهم في كنيسة «العائلة المقدسة» أو «دير اللاتين»، وهي كذلك من أقدم كنائس القطاع، وتوجد في مدينة غزة القديمة.
كان مسيحيو غزة ينظمون الاحتفالات على نطاق واسع وينشرون البهجة بين الناس، أما الآن فيكتفون بفتح أبواب الكنيسة لاستقبال المهنئين.
يحظى المسيحيون في قطاع غزة بمكانة اجتماعية واقتصادية مرموقة، فبعضهم يتخصص في تجارة الذهب، وآخرون في بيع البترول ومشتقاته، بينما يُعتبر بعضهم من أكبر مُلاك العقارات في المدينة، ومنهم أطباء ومهندسون وأكاديميون بارزون. وتعتبر عائلات «ترزي» و«خوري» و«مسلّم» و«عياد» و«حاكورة» و«الصايغ» و«فرح» و«الطويل» و«الصّراف» و«غطاس» أشهر العائلات المسيحية.
كامل عياد، مدير العلاقات العامة في الكنيسة الأرثوذكسية، يوضح لـ«منشور» أن مسيحيي القطاع يحاولون جاهدين الاحتفال في مدينة بيت لحم، فهناك فرصة للحصول على تصاريح من الاحتلال الإسرائيلي للسفر إلى الضفة الغربية. وتقدم وزارة الشؤون المدنية الفسلطينية نحو 800 أو 900 تصريح لعياد كل عام، تستخرجها من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لكن «من النادر أن تصدر الجهات الإسرائيلية تصاريح لأسرة بكامل أفرادها، ولا توضح الأسباب، وأحيانًا ترد: رفض أمني، أو: اكتفينا بالعدد».
قبل الانقسام الفلسطيني، كان مسيحيو غزة ينظمون الاحتفالات على نطاق واسع، ويقدمون عروضًا للكشافة الأرثوذكسية، ويضيئون شجرة عيد الميلاد في ساحة الجندي المجهول وسط غزة بحضور المحافظ، ويزينون الشوارع العامة، ويرتدي عدد من الشباب والشابات زي «بابا نويل»، ويتجولون في الشوارع العامة لينشروا الفرحة والبهجة بين المارة، ويزورون بعض المرضى في المستشفيات ويوزعون عليهم الزهور. أما الآن، فيكتفون بفتح أبواب الكنيسة لاستقبال المهنئين من القوى الوطنية والإسلامية بعد صلاة العيد.
قد يهمك أيضًا: الإسلاميون والحرب السنوية ضد أشجار الكريسماس
يأمل مسيحيو غزة أن تتم المصالحة الفلسطينية، فيكفي القطاع 11 عامًا متواصلة من الانقسام والحصار والفقر وتعطل وتراجع مناحي الحياة كافة، خصوصًا الكهرباء والمياه. يكفي ثلاثة حروب صعبة، أخذت من كل بيت غزاوي قتيلًا أو جريحًا.
لا يكلُّ المسيحيون كل عام من دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وكل القيادات للقدوم إلى غزة وحضور احتفالات عيد الميلاد، وكل سنة يأملون أن يكون العام الجديد كله تسامح ووحدة، لكن يبقى ذلك مجرد آمال صعبة التحقق، في ظل استمرار الانقسام الفلسطيني بين قطاع غزة والضفة الغربية، فمن الصعب أن تحضر السلطة الفلسطينية ورئاستها إلى غزة مع هيمنة حركة حماس وحكومتها على كل شيء في القطاع.
في محيط كنيسة «العائلة المقدسة» يوجد بيت لذوي الإعاقة العقلية والمسنين، كلهم مسلمون، وتقدم لهم مجموعة من الراهبات رعاية شاملة.
ليس مسيحيو غزة فقط من يفتقدون الأمان، بل كل المسيحيين الفلسطينيين، حتى في الضفة الغربية، فالاحتلال الإسرائيلي موجود، لكن ما يقلق الغزاوية أكثر هو تناقص عددهم. الظروف في غزة طاردة للبشر بشكل عام، وهجرة أو سفر عدد قليل من المسيحيين من غزة سيؤثر على العدد القليل الموجود.
يوضح عدد من مسيحيي غزة أنهم صاروا يشعرون بتناقص عددهم، وحتى في القداس «بِتنا نفقد عائلات بأكملها».
منذ مطلع ديسمبر 2017، بدأت التجهيزات لاستقبال بطريرك القدس في كنيسة «العائلة المقدسة»، فتزيّنت شجرة الميلاد الكبيرة، وتجهّزت المغارة على هيئة مغارة كنيسة «المهد» في بيت لحم، وتتواصل تدريبات الكشافة والفنانين لأداء عروض فنية ومسرحية، إلى جانب التحضير لاستقبال المصلين الذين يتوافدون على الكنيسة من مساء يوم 24 للصلاة والدعاء وإنشاد الترانيم.
في محيط الكنيسة يوجد بيت للمسنين والأطفال ذوي الإعاقة العقلية، تقدم لهم مجموعة من الرهبات رعاية شاملة على مدار الساعة، وجميع هؤلاء المسنين والأطفال من المسلمين، في صورة للتعايش تؤكدها أم جورج: «لم أرَ تسامحًا وتعايشًا بين المسيحيين والمسلمين مثلما وجدتُ في فلسطين، لكن لن تكتمل فرحتنا إلا بإحلال السكينة والسلام في قلوبنا جميعًا».