كورونا والعالم الذي صغر: هل يعرف أطفالنا الحياة الطبيعية؟

الصورة: Getty - التصميم : منشور

رنا العريمان
نشر في 2021/05/26

أمسكتُ ببطاقة رسم عليها لطخة لون أزرق، فسألته: «هذا أي لون؟». أجابني دون تردد: «هذا فايروس». فهَّاد ثاني الأحفاد، والذي بلغ عمره 3 سنوات قبل بضعة أشهر. لم يزُر «ترامبو» منذ أن أتم عامه الثاني، وتوقفت أسئلته حيال عدم ذهابه إليه منذ وقت بعيد، لأن الإجابة متوقعة ومعروفة: «كورونا». في المقابل، تسللت الأسئلة الوجودية إلى رأس حفيدنا الأول راكان ذي الأربعة أعوام، فصار يقول مثلًا: «وين الناس؟ أهم صج موجودين»، ويتبعها بافتراضات خيالية، كأن يظن أن الناس «صغروا» فلم يعودوا قادرين على ركوب السيارة وقيادتها لزيارته.

لم يكن شكل لطخة اللون الأزرق بالنسبة إليّ في عمرهم إلا لونًا أزرق، ولم يختفِ الناس عني من حيث لا أدري. فكيف أثر الحظر وكوفيد-19 وتلك الكلمات الكبيرة على الأطفال الصغار؟

تذكر الدكتورة زينة الزبن، المعالجة النفسية للطفل والأسرة، أن للحظر ووضع العالم مع الوباء تبعاته وآثاره على الأطفال من نواحٍ عديدة. فتقول لـ«منشور» إن «الأطفال يتعلمون من أقرانهم أكثر مما يتعلمون من آبائهم. فهم يواجهون المصاعب ذاتها، إضافة إلى أن الأهل لا يلعبون بطريقة الأطفال».

ومع انعزال الأطفال لفترة طويلة عن بقية أقرانهم، قد يواجهون ضعفًا في المهارات الاجتماعية والعاطفية واللغوية كذلك. على سبيل المثال، تذكر السيدة سارة لـ«منشور» أنها لاحظت أن ابنتها غلا البالغة من العمر سنتين اكتسبت مهارة الكلام بشكل ملحوظ بعد أن انفتحت الحياة وبدأت تخالط عددًا من أقرانها، فصارت تعبر عن نفسها أكثر.

تشير الدكتورة زينة الزبن إلى أن التأثير على الأطفال الأكبر سنًا يكون أشد وطئة من الأطفال الأصغر، إذ أن بوادر القلق وملامح الوسواس القهري قد تبدأ معهم، وتبدأ معها أعراض جسدية مثل الصداع أو آلام البطن أو تكرار الإصابة بالأمراض البسيطة، فالمناعة تضعف مع شدة التوتر والقلق.

كان حمد (8 سنوات) يكرر لوالدته سارة أن «حياتي اختربت. أنا ما أبي أعيش جذي. ما عندي أصدقاء»، فقد مر عليه عيد ميلاده مرتين وحيدًا دون أصدقائه.

القلق يجد طريقه إلى الكائنات الصغيرة

الصورة: Getty - التصميم : منشور

تربي السيدة عالية الصراف ابنتها تالا (6 سنوات) وابنها زياد (سنتين)، وتذكر لـ«منشور» أنها شهدت علامات مختلفة تخص كلًا منهما خلال فترات الحظر الكلي.

كانت تالا في حالة ذعر، تنظر إلى الساعة كل دقيقة لتتأكد من أنها لم تصل إلى وقت بداية الحظر الجزئي. وقتها عرفت أنها تظن كورونا وحشًا يطلع خلال ساعات الحظر.

الفرق بين زياد وتالا أن زياد كان عمره عام واحد آنذاك، فهو لم يخالط الناس من قبل، على عكس تالا التي كانت قد اجتازت مرحلتي الحضانة والروضة. «بعد ما انفتحت الدنيا، كانت أول مرة آخذ زياد للآفنيوز، وهي أول مرة يشوف فيها الناس. كان الانبهار يعم ملامحه، وفي نفس الوقت خوف كبير والتصاق أكبر فيني»، رغم أن زياد ليس من طبعه أن يكون لصيقًا بأمه على عكس أخته.

تعزو عالية ذلك إلى أن زياد فوجئ بهذا الكم من الأشخاص المختلفين عن أهله ومن يعرفهم، بالعالم الكبير والمتحرك خلف جدران بيته والأصوات الكثيرة. وهو تمامًا ما ذكرته الدكتورة زينة الزبن، فالانعزال عن الناس يتسبب للأطفال في رهبة من الاجتماع أو الخروج، وقد يواجه بعضهم صعوبات في التواصل مع الآخرين. تضيف عالية: «زياد خلال فترة الحظر الكلي، كل يوم المغرب لازم يبكي، ما كنا نعرف السبب، لكن حلنا وقتها كان بأننا نجلسه في البلكونة حتى يهدأ».

وتقول: «كنا رادين من أحد الشواطئ العامة قبل الحظر بساعة، وطوال الطريق كانت تالا في حالة ذعر، تنظر إلى الساعة كل دقيقة لتتأكد من أنها لم تصل إلى الثامنة مساءً، وقت بداية الحظر الجزئي. ولم تتوقف عن قلقها حتى عندما وصلنا إلى المنزل، إذ بقيت تفكر في خالتها التي رافقتنا في طريق العودة. وقتها عرفت أنها تظن كورونا وحشًا يطلع خلال ساعات الحظر»، وذلك رغم حرص السيدة عالية على أن تشرح لتالا الوضع وما يتعلق بالوباء بألطف طريقة ممكنة، تقول: «أبدًا ما خوفتها، بس قلت لها الإرشادات»، لكنها لم تكن تعلم أين ستأخذ تالا مخيلتها.

من جهة أخرى، تذكر زينة الزبن أن أكثر الحالات التي لاحظتها هي قلق الأطفال من الانفصال عن أهاليهم. وهو ما حدث مع مريم المزيدي والدة سارة (6 سنوات) بعد ملازمة والديها لها خلال الحظر الكلي، ثم اضطرارهم للخروج للعمل بعدها. انهارت سارة كثيرًا عند خروجهم من المنزل، وتحديدًا والدها إذ أنها شديدة التعلق به. وتضيف مريم أنها «صارت عصبية أكثر مما مضى».

كورونا ليس وحشًا

تذكر سارة والدة حمد وغلا أنها عندما أصيبت عائلتها بكورونا ما عدا حمد، ابتعد عنها طوال الثلاثة أسابيع، وصار يردد: «لا تجيسوني راح أموت»، ولم يكن يمنحها قبلة المساء أو عناقًا أو أي صورة من صور اللمس. لكن بعد شفائها تمامًا، عاد إلى أحضان أمه معبرًا عن فرط اشتياقه لها. «تلك الليلة لا أنساها أبدًا، تعانقنا طويلًا جدًا، عميقًا جدًا».

ومثل عالية، حرصت سارة على ألا تفزع أبناءها من الوضع الجديد، وما سهل الأمر عليها تكفل مدرسة حمد بإرشاده وتعليمه حول طبيعة ما يحدث حوله. ولم تعلم صغيرتها غلا، التي اكتفت بتقليدهم في ارتداء الكمام.

في الجانب الآخر، تقول السيدة عالية إنه حين أصيبت عائلتها بالفيروس، كانت الأعراض طفيفة مثل إنفلونزا عابرة، مشيرة إلى أنها تظن أن إصابتهم هذه قد انتزعت فكرة «كورونا الوحش» من رأس تالا، وبددت معها خوفها منه.

أين أصدقائي؟

إذا كانت هناك ملاحظة أجمع أولياء الأمور عليها، ففهي أن الأطفال أصيبوا بالملل من التعليم الإلكتروني، ولم يتوقفوا عن التعبير عن اشتياقهم للمدارس وأصدقائهم. وكانت الكلمة ذاتها تتردد على لسان حمد وتالا، والطفلة سارة، وابنة السيدة شهد: «اشتقنا إلى أصدقائنا، واشتقنا إلى المدرسة».

هناك العديد من المهارات الحياتية المفتقدة في التعليم الالكتروني، مثل مهارات المشاركة، أو الانتظار، أو التعلم بمحاكاة الزملاء، وحتى التعلم الحسي، وفقًا للزبن.

في بدايات التعليم الإلكتروني، سألت تالا أمها: «شلون راح أكبر وأتعلم إذا مو قاعدة أروح المدرسة؟». الجدير بالذكر أنها ترتاد مدرسة خاصة، والمدارس الخاصة على عكس المدارس الحكومية، أكملت عامها الدراسي إلكترونيًا العام الفائت 2020. ومع بداية العام الدراسي الجديد وانتقال تالا إلى مرحلتها الابتدائية الأولى، طلبت إدارة المدرسة من أولياء الأمور اقتياد الأطفال إلى المدرسة والانتظار في السيارات لاستلام الكتب. ورغم حماسة تالا واشتياقها لرؤية المدرسة، انهارت في البكاء فور أن رأت معلمتها المفضلة في الروضة أمام مبنى المدرسة، ولم تستطع التوقف عن البكاء.

تكمن خطورة البقاء بعيدًا عن مقاعد الدراسة، كما تشير الدكتورة زينة الزبن، في أن الأطفال سيفتقدون مهارات مثل «الإمساك بالقلم بشكل صحيح، والتلوين، والخط»، إذ أن مثل هذه المهارات لا يمكن اكتسابها بشكل متقن عبر الشاشة، إنما تستلزم وجود معلم يساعد الطفل على اكتسابها بشكل كبير.

هناك كذلك العديد من المهارات الحياتية المفتقدة في التعليم الالكتروني، مثل مهارات المشاركة، أو الانتظار، أو التعلم بمحاكاة الزملاء، وحتى التعلم الحسي، وفقًا للزبن، التي تضيف أنه من المتوقع جدًا بعد فترات الانعزال عن الطبيعة أن يتعرض الأطفال لاضطراب فرط الحساسية تجاه الأشياء (Hypersensitivity)، مما قد يتسبب في نفورهم من لمس ما حولهم خوفًا مما هو غريب عنهم. وتؤكد أنه «على الوالدين أن يُعرفوا أطفالهم بالعالم تدريجيًا، مثلًا ساعة في اليوم للعب بالرمل، وفي كل مرة يضيفون شيئًا آخر للأطفال».

محاولات

الصورة: Getty - التصميم : منشور

تتجلى جدية محاولات الأمهات والآباء في بذل كل ما بوسعهم كي يخففوا ضيق المساحات، مرة بالسباحة في حوض سباحة صغير، أو المشي خلال الساعات المسموحة، أو إحضار مدرسين خصوصيين لأطفالهم كما فعلت السيدة شهد والدكتورة مريم المزيدي.

كلتاهما خاضتا التجربة ذاتها، إذ أحضرتا مدرسين لمرحلة الحضانة مع أقربائهم من الأطفال. تقول السيدة شهد: «لم أواجه صعوبة كبيرة، فقد نظمت برنامجًا لابنتي بحيث أبقيها مشغولة بالحضور مع أقربائها لحصص دراسية مع مدرس متخصص خلال ساعات عملي خارج المنزل. وفور عودتي من العمل أصير لهم معلمة فن ورياضة». وتخبرنا الدكتورة مريم أن ابنتها سارة استحسنت هذه الفكرة جدًا، وصارت تستيقط بحماس وتتحضر بجد لهذه الحصص، مبدية رغبتها في عدم التغيب أبدًا.

كانت لمدارس الأطفال محاولات في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. مثل «الزوارة الإلكترونية» لتوطيد العلاقات بين الأطفال تحت إشراف المعلمة ودون تدخلها.

حرص أولياء الأمور الذين قابلناهم على تخصيص أكبر قدر ممكن من الوقت لدمج أطفالهم مع الطبيعة والعالم، حتى لو كان ذلك يعني مشوارًا وحيدًا لجمعية المنطقة.

تقول السيدة شهد: «لم أخبر ابنتي ذات الأربعة أعوام بألا تلمس شيئًا كي لا أقلقها. بل حاولت أن أسيطر على محيطها بكل الطرق الممكنة». وتضيف: «لم تواجه أي مشكلة في تكوين علاقات مع الأطفال، بل على العكس، صارت عندما تلتقي بهم في الحدائق العامة تبادر بالقول: تعالوا بيتنا». تبدي ابنة شهد انفتاحًا أكبر على العالم والناس، ورغبة في لمس كل شيء وأي شيء، ولا تدري والدتها إن كان ذلك نتيجة للحظر أم لا.

كانت لمدارس الأطفال محاولات في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فمدرسة تالا خصصت يومين أسبوعيًا لما يشبه «الزوارة الإلكترونية» للطالبات، كي يوطدوا العلاقات في ما بينهم تحت إشراف المعلمة ودون تدخلها. أما حضانة سارة فقللت وقت الحصص الإلكترونية وزادت مدة الفسحة بين الحصص، والتي هي عبارة عن فترات من الراحة حتى لا يبقى الأطفال أمام الشاشة.

العالم صغر

تقول السيدة شهد ضاحكة عن ابنتها ذات العام الواحد: «العالم بالنسبة لها بس منطقتنا، مشرف»، بينما تقول الدكتورة مريم إن مفهوم السفر بالنسبة لابنتها ضئيل للغاية، فقد قالت مرة: «أنا قاعدة أسافر الشاليه». بينما انتقلت تالا من دور تعليم دماها المحشوة إلى الجلوس أمام شاشة الآيباد كمعلمة يسمعها طلبتها في الجانب الآخر، تشرح لهم درسهم، وتقول كل مرة عندما تنتهي: «إلى اللقاء، سنلتقي في النهاية».

لم يكن هذا الوباء حدثًا عابرًا بالنسبة لنا نحن الكبار، ولم يكن كذلك بالنسبة لهؤلاء الصغار، الذين لا يسعهم أن يدركوا هذا كله. لكنه مثل أي حدث من أحداث الحياة، لا بد أن يترك علينا آثاره. لا يوجد حل نهائي، لكننا نملك قدرتنا على التأقلم.

مواضيع مشابهة