في السابع من نوفمبر 2018، اجتمع أساقفة فرنسا الكاثوليك في دير سيدة لورد جنوبي فرنسا، لإعلان تأسيس لجنة مستقلة من أجل «تسليط الضوء على ملف الاعتداءات الجنسية على القاصرين في الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا منذ عام 1950».
مهمة اللجنة ستكون الاستماع إلى الضحايا الذين تعرضوا للتحرش الجنسي من رجال دين كاثوليك، منذ منتصف القرن العشرين، إلى جانب تقديم تعويضات مالية لهم، وإصدار تقرير نهائي عام 2020، يشرح الطريقة التي تعاملت بها الكنيسة مع الملف، واتخاذ إجراءات مناسبة بحق المتحرشين، إلى جانب خطوات أخرى لم تكشف اللجنة تفاصيلها.
هذا الإعلان هو التعامل الكنسي الرسمي الأول في فرنسا مع ملف التحرش الجنسي بالقاصرين من رجال دين، لتلحق الكنيسة الفرنسية بكنائس كاثوليكية أخرى سبق وفتحت الملف.
لكن رغم أن مناقشة الموضوع باتت أكثر علنية، فالكتابة عن قضية تحرش بعض رجال الدين الكاثوليك بالأطفال، والتي ظهرت إلى العلن عام 1983، هي الأكثر تعقيدًا لأسباب كثيرة: الغطاء السياسي والديني الذي يتمتع به هؤلاء، الهالة الروحية وطيف يسوع المسيح الذي يلجأون إليه للدفاع عن أنفسهم، وقبل كل ذلك «جيوش المؤمنين» الواقفة بالمرصاد والجاهزة للدفاع عن «أبونا» منعًا لاستهدافه، ومن خلفه استهداف الطائفة المسيحية.
بوصول البابا فرنسيس إلى السدة البابوية في الفاتيكان (13 مارس 2013)، وهو المنتمي إلى جناج أكثر تحررًا من أسلافه. بدأ حائط الدفاع عن الكهنة المتحرشين يسقط تباعًا، أو هكذا يبدو. اعتذر البابا بعد عام من توليه، في مقابلة على إذاعة الفاتيكان، عن مئات جرائم التحرش داخل الكنيسة، مؤكدًا أن كل المدانين سيُمنعون من ممارسة العمل الكنسي.
غير أن البحث في هذا الملف أكثر تعقيدًا من تصريحات البابا المتكررة عن ضرورة الوقوف في وجه التحرش بالأطفال. فخلف هذه التصريحات تدور حرب أهلية كاثوليكية، قطباها البابا فرنسيس ومناصروه «التقدميون» من جهة، والجناح الفاتيكاني المحافظ من جهة أخرى.
تعقيدات أخرى تلف القضية، مثل غياب الإحصاءات الحقيقية والدقيقة، وطمس الشهادات، وإسكات الضحايا، وتسليط الضوء على الكنيسة الكاثوليكية مع غياب أي تغطية حقيقية للتحرش داخل الكنائس الأخرى، مثل الكنيسة الأرثوذكسية أو البروتستانتية.
لكن رغم هذه التعقيدات، بدأ الملف يخرج إلى النور بشكل أكثر شجاعة.
التحرش بالأطفال في الكنيسة: من أين نبدأ؟
منذ تحولت الكنيسة إلى كيان حقيقي موجود وله سلطته ابتداء من القرن الرابع الميلادي، في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير، ظهرت ملامح التسلط على كثير من رجال الدين، خصوصًا بعدما بدأ الانقسام الطبقي يظهر بين الكهنة أصحاب المراكز الأعلى، كالمطارنة.
في تلك الفترة، وفي أثناء انعقاد مجمع «إلفيرا» في إسبانيا عام 305 من الميلاد، أُقِرت لأول مرة قوانين كنسية تتطرق إلى حياة الكهنة الجنسية، وبينها «منع الكاهن الذي يمارس الجنس مع أولاد قُصَّر، من المناولة حتى على فراش الموت»، وفق ما يذكر المؤرخ الأميركي «جون بوسويل» في كتابه «المسيحية والتسامح الاجتماعي والمثلية الجنسية: مثليو الجنس في أوروبا الغربية من بداية الحقبة المسيحية إلى القرن الرابع عشر».
التجاهل هو السمة الأساسية لملف تحرش رجال الدين المسيحيين حول العالم بالقاصرين.
بدأ كل شيء في أبرشية لافاييت في لويزيانا الأمريكية مطلع سبعينيات القرن العشرين. وقتها كان الكهنة يُعتبرون رسل يسوع المسيح، مخلوقين على صورته ومثاله، يخدمون المؤمنين ويعيشون معهم يومياتهم.
في تلك الأبرشية الكاثوليكية، لم يكن أحد قد سمع بتحرش رجال الدين بالأطفال، لذلك ترك المؤمنون أطفالهم يلهون إلى جانب الكاهن الشاب والمؤمن والقادم حديثًا إلى الأبرشية، «غيلبرت غوتييه».
الأب المرِح كان قريبًا من الناس، يقود دراجة نارية ويرتدي ملابس رياضية تحت جبة الكهنوت (ملابس رجال الدين المسيحيين)، وكان يخبر الأهل بأنه يعد برامج روحية صباحية لأولادهم ليقربهم من المسيح، لذلك كان يشجعهم على تركهم يبيتون في الكنسة أو الغرف التابعة لها، وفق تفاصيل نقلتها «The New York Times» عن القضية. لكن يبدو أن شبق الكاهن الجنسي كان غير قابل للسيطرة. «كان يضع حواجز حديدية على الشبابيك، وإلى جانبه مسدسًا، وإن رفض أحد الصبيان الخضوع لرغباته الجنسية يهدده بالمسدس»، يروي تحقيق شهير لإذاعة مينيسوتا عن ما حصل في هذه الأبرشية.
استمر هذا الجحيم أكثر من عشر سنوات. ثم في 1983 أبلغ أحد الأولاد والده بما حصل. «الوالد أبلغ الأبرشية. الأسقف المسؤول عن الأبرشية أرسل غيلبرت غوتيه لتلقِّي علاج نفسي، وعُقِدَت تسويات مالية مع تسع عائلات، قيمتها تجاوزت أربعة ملايين دولار»، وفق تقرير إذاعة مينيسوتا نفسه. لكن عائلة واحدة رفضت التسوية، وهي عائلة القاصر «سكوت غاستال»، وأخرجت قصتها إلى العلن، فقررت مقاضاة الأبرشية لفشلها في حماية ابنها. وقتها فقط، استيقظت أمريكا والعالم على مأساة مدفونة داخل جدران الكنائس والأديرة، تدعى «تحرش رجال الدين بالأطفال».
عام 1986، صدر حكم بسجن الأب غوتييه 20 عامًا. أدلى القاصر سكوت غاستال بشهادته أمام المحكمة، وصدر حكم بتعويضه بمليون دولار. لكن هل انتهت القضية؟ إطلاقًا.
الصحافي «جيسون بيري» كان بدأ بنشر تحقيق استقصائي حول القضية في مطبوعة «ذا تايمز أوف أكاديانا»، يكشف فيه تستر الكنيسة على تجاوزات غوتييه، موضحًا أن الكاهن نفسه لديه تاريخ في التحرش بالأطفال.
كانت هذه أول قضية من هذا النوع تشغل وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، وشغلت أيضًا الفاتيكان. سفارة الدولة الباباوية في واشنطن تابعت القضية باهتمام، ورأى المحامي «توماس دويل» أن هذه القضايا قد تؤدي إلى تدمير الكنيسة. فأعد تقريرًا من 95 صفحة، رفعه إلى السلطات الكنيسة العليا في أمريكا، وثَّق فيه، بالأسماء والتواريخ، حوادث تحرش بالأطفال، تورط فيها كهنة ورهبان كاثوليك.
حمل التقرير عنوان «مشكلة التحرش الجنسي على يد الكهنة الكاثوليك: التعامل مع المشكلة بشكل متفهم ومسؤول». بالطبع لم يتعامل مجلس المطارنة الأمريكي مع التقرير، لا بشكل مسؤول ولا متفهم، بل تجاهله تمامًا.
هذا التجاهل هو السمة الأساسية لملف تحرش رجال الدين المسيحيين حول العالم بالقاصرين. تجاهُل معجون بكثير من التواطؤ جعل هذا الملف سريًّا أو غير موجود لسنوات كثيرة، ممنوع الكلام عنه، فأخفى الفاتيكان أو تخلص من كل الملفات المرتبطة به.
لكن هذا التجاهل نفسه هو الذي دفع الضحايا إلى الخروج للعلن، الحديث إلى وسائل الإعلام أو التوجه إلى المحاكم المدنية بدل المجالس الكنيسة. درب جلجلة طويل خرجت فيه هذه القضايا إلى العلن.
إحصائيات تقريبية، وشهادات التحرش
التوثيق الفعلي لجرائم تحرش رجال الدين (كهنة ورهبانًا وراهبات) بالقاصرين، بدأ في ثمانينيات القرن العشرين.
«بدأ بالتحرش بي بعدما هربت إلى مأوى أعده لاستقبال الأطفال الهاربين من الأوضاع المأساوية في البلاد. كان لطيفًا، ثم بدأ يتحرش بي. بعد الانتهاء من كل مرة، كان يرسلني إلى كاهن آخر لأعترف له بخطيئتي. أفهمني أن ما يحصل خطيئة مني لأني أغريته، والكاهن الذي كنت أعترف له كان يطلب مني أن أبقى صامتًا، وأن لا أخبر أحدًا، ثم أن أصبر» - من شهادة الدكتور «جيمس هاملتون» عن تعرضه للتحرش وهو قاصر على يد الأب «فرناندو كاراديما»، في مأوى للأطفال بالعاصمة التشيلية سانتياغو مطلع الثمانينيات.
تبقى الأرقام هي الأكثر وضوحًا والأكثر تعبيرًا عن الكابوس الذي عاشه ويعيشه آلاف الأطفال في جميع أنحاء العالم. لكن هنا معضلة جديدة. إذ يكاد يكون إحصاء عدد القاصرين ضحايا التحرش الجنسي على يد رجال الدين، شبه مستحيل، بسبب التكتم الشديد الذي يحيط بالموضوع: إما من أهالي الضحايا، وإما من الكنيسة نفسها.
لكن رغم هذا الغموض، فإن التوثيق الفعلي لجرائم تحرش رجال الدين (كهنة ورهبانًا وراهبات) بالقاصرين، بدأ في ثمانينيات القرن العشرين، إذ ظهرت المتابعات الإعلامية لتلك الجرائم، ولقيت اهتمامًا في المجتمع.
أما الكشف عن الإحصاءات والأرقام، فلم يخرج إلى العلن إلا في السنوات الأخيرة، تحت ضغط وسائل الإعلام وشهادات أهالي الضحايا.
ففي فبراير 2017، أصدرت اللجنة الخاصة المكلفة من السلطات الأسترالية تقريرها الذي يذكر لأول مرة بالأرقام، إحصائيات حول تحرش الكهنة الكاثوليك بالأطفال (غالبيتهم من الأولاد وليس البنات): 7% من رجال الدين الكاثوليك تحرشوا بقاصرين، بينما بلغ عدد الضحايا 4444 ضحية، بين عامي 1980 و2015.
كان التحرش في الكنيسة بأيرلندا واحدًا من أسباب انهيار سلطة الكنيسة في هذا البلد الكاثوليكة.
تضمن التقرير أرقامًا كثيرة عن الرهبانيات التي يتبع لها الكهنة المتحرشين، عن الأبرشيات التي شهدت عمليات التحرش، لكنها تضمنت أيضًا طريقة تعامل الكنيسة مع كل الشكاوى التي قُدِّمت إليها من الضحايا وأهاليهم: «جرى تجاهُل الأطفال، أو أسوأ من ذلك: معاقبتهم. لم يبدأ التحقيق في الدعاوى. نُقِل الكهنة والرهبان من أبرشية إلى أخرى. ولم يجر إبلاغ الأبرشيات الجديدة عن ماضي هؤلاء الكهنة… تخلصت الكنيسة من كل الوثائق المرتبطة باتهامات التحرش».
هذه الأرقام «رمزية»، وفقًا لما تذكره جمعية «Broken rites» الأسترالية، والمعنية بجرائم التحرش داخل الكنيسة الكاثوليكية في أستراليا. «الكنيسة تسترت على متحرشين كُثر داخل الكنيسة، ولم تعلن عن التهم الموجهة إليهم»، هكذا يقول «برنارد باريت» من الجمعية لصحيفة «الغارديان» البريطانية بعد الكشف عن التقرير.
«أخذ يقبلني في جميع أنحاء جسدي، وجهي، وبالتحديد على فمي... سبع مرات تعرضت فيها لتحرش الأب بندلايمون فرح، وفي المرة الأخيرة استعمل أصابعه وأوجعني. طلبت منه أن يتوقف، لكنه لم يتوقف لأنه كان منسجمًا. هذه الحوادث حدثت مرة في بيته في بلدة كوسبا، ومرة في الغرفة الملاصقة للكنيسة، وأربع مرات في غرفته (بالدير) ومرة في مكتبه» - من شهادة الشاب اللبناني أ. ح. عن تعرضه للتحرش عندما كان قاصرًا على يد رئيس دير سيدة حماطورة (شمال لبنان) الأب بندلايمون فرح.
شهادة الشاب اللبناني جاءت في نص الحكم الصادر بحق فرح بالنفي إلى اليونان، إثر إدانته بالتحرش الجنسي بقاصرين. القرار بقي سريًّا، لكن حسابًا مزيفًا باسم إلياس بندلي، على فيسبوك، نشر نص الحكم في عام 2017، وتركه أيامًا طويلة قبل أن يعود ويغلق حسابه، ويختفي نص الحكم، ويعود إلى سريته.
في ألمانيا، الحالات الموثقة بين عامي 1946 و2014 هي 3677 حالة، وفق ما نشرت صحيفة «دير شبيغل» الألمانية عن «مؤتمر الأساقفة الألمان»، ونقلت عنها الأرقام وسائل إعلام عالمية.
أما في أيرلندا، فإن التحرش في الكنيسة كان واحدًا من أسباب انهيار سلطة الكنيسة في هذا البلد الكاثوليكي. تقرير «ميرفي» الذي صدر عام 2009 بعد تحقيق أجرته الحكومة الأيرلندية، وشمل الفترة الممتدة بين عامي 1975 و2004، ونظر في 320 شكوى مرفوعة ضد 46 رجل دين. كانت هذه عيِّنة من مجمل الانتهاكات الحاصلة في الكنيسة.
«كان يلف رجله على جسدي ليمنعني من الهروب، ويفرك جسده بي. لا أزل أشعر بعضوه يلمس جسدي، كان يطلب مني أن اقول له إنني أحبه، وأنني ملكه، ثم يقول لي إن قصة الحب هذه سرنا الخاص، ولا يجب أن يعلم به أحد» - من شهادة الفرنسي «ديدييه برويده» الذي تحرش به «برنار بريينا»، كاهن إحدى أبرشيات مدينة ليون الفرنسية، منذ كان عمره ثماني سنوات حتى 11 سنة.
بعد 30 عامًا على تعرضه للتحرش، كسر ديدييه الصمت، ونقل شهادته موقع «Parole Liberée» الذي يوثق قضايا التحرش الجنسي في كنائس فرنسا، ونقلت الشهادة وسائل إعلام عدة.
لكن القسم الأكبر من الفضائح كان في أمريكا، إذ إن حجم التسويات المالية التي وقَّعتها الكنيسة الكاثوليكية حتى عام 2012، مع أسر الضحايا، وصلت قيمته إلى ثلاثة مليارات دولار، من دون أن يذكر الموقع المختص بتوثيق جرائم تحرش رجال الدين بالأطفال، عدد الأسر التي عُقِدت التسويات معها.
دراسة توثيقية وتحليلية أجرتها جامعة جون جاي للعدالة الجنائية، في فبراير 2004، لصالح «مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في أمريكا»، كشفت أرقامًا كثيرة عن جرائم التحرش في مختلف الأبرشيات الأمريكية.
الدراسة غطت الفترة بين 1950 و2002، وكشفت أن 4% من الكهنة والرهبان الكاثوليك في أمريكا تحرشوا بقاصرين، أي نحو 5000 رجل دين.
كشفت الدراسة أن غالبية هؤلاء المتحرشين من المثليين الذين يحبون ممارسة الجنس مع القاصرين، أو ما يُعرف شعبيًّا بـ«حب الغلمان». إذ إن 81 من ضحايا رجال الدين هؤلاء كانوا من الأولاد، بينما 19% من البنات. وقد بلغ إجمالي الضحايا الذين تقدموا بشكاوى ضد رجال دين في الفترة التي شملتها الدراسة، 10667 قاصرًا.
تقرير «هيئة المحلفين الكبرى» في بنسيلفانيا الأمريكية، ذكر في أغسطس 2018، أسماء وأرقامًا وحوادث ووثائق عن التحرش الجنسي داخل أبرشيات بنسيلفانيا الكاثوليكية.
التقرير الذي أعدته هيئة المحلفين الكبرى، امتد لمدة 70 عامًا داخل الولاية، وشمل ست أبرشيات كاثوليكية من أصل ثماني هناك. والخلاصة كانت أن 300 رجل دين كاثوليكي تحرشوا جنسيًّا بأكثر من ألف قاصر. ويشير التقرير إلى أنه ربما لا يزال هناك آلاف الأطفال الذين لم يعلنوا عن تعرضهم للتحرش، لذلك من المتوقَّع أن يكون عدد الضحايا أكبر.
«اغتصبه الكاهن بشكل متكرر حين كان عمره يتراوح بين 13 و15 سنة. كان يغتصبه بوحشية، ما أدى إلى إصابته بآلام لا تُحتمَل. أدمن الولد الأدوية المسكنة للآلام، ما تسبب في وفاته بجرعة زائدة من هذه الأدوية» - من شهادة هيئة المحلفين الأمريكية عن التحرش في كنائس بنسيلفانيا.
تمامًا ككل قصص التحرش الجنسي والاغتصاب، واجه الضحايا حربًا شرسة في كل مرة قرر أحدهم توجيه اتهام إلى كاهن أو راهب. القصة المختصَرة لهذا التواطؤ يمكن إيجادها في تفاصيل فيلم «Spotlight» عام 2015، الحاصل على أوسكار أفضل فيلم وأفضل سيناريو.
يروي الفيلم قصة تحرش رجال دين كاثوليك في أبرشية في بوسطن الأمريكية بعدد من القاصرين، وتجاهُل الكنيسة تمامًا للشكاوى التي قُدِّمت إليها من بعض العائلات. وبدل معاقبة المجرمين جرى نقلهم من أبرشية إلى أخرى. القصة الحقيقية التي تروي تفاصيل انكشاف القضية على يد فريق صحفي استقصائي تابع لصحيفة «بوسطن غلوب»، قد تكون عينة معبرة عن تعامل الكنيسة مع هذا الملف.
من أيرلندا إلى أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة وأوروبا، كل التقارير التي ذكرناها تشير إلى تجاهل الكنيسة الاتهامات الموجهة إلى كهنتها.
هذا التجاهل، أسهم في ازدياد انتقادات البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، بسبب تجاهله كل المعلومات التي وصلت إلى الفاتيكان وتستره على المتحرشين.
أما البابا فرنسيس، فقدم أكثر من اعتذار للأطفال، في أكثر من دولة، بسبب «تقصير الكنيسة في ملاحقة المتحرشين ووضع حد لجرائم التحرش».
التحرش في المنطقة العربية
ما يحدث في الغرب يحدث أيضًا في المنطقة العربية، وإن بأعداد أقل، نظرًا إلى تقلص أعداد المسيحيين في الدول العربية. في لبنان حادثتان شهيرتان كانتا بمثابة صدمة للرأي العام.
الأولى بطلها المونسنيور منصور لبكي.
برز نجم لبكي بشكل كبير مع اندلاع الحرب الأهلية (13 إبريل 1975). أسس في الحرب جميعة «بيت سيدة الفرح» للعناية بالأيتام الذين خلَّفتهم الحرب، وأسس أيضًا جوقة كنيسة، وجمعية «لوتدهال» (بالسريانية تعني لا تخف). وانتقل نشاطه إلى فرنسا، فأنشأ هناك ملجأ للأطفال اللبنانيين المسيحيين والمسلمين الأيتام الذين توجهوا إلى فرنسا للعام الدراسي.
من كان يمكن أن يطرح أي علامة استفهام حول سلوكيات الأب منصور لبكي؟ لا أحد طبعًا. لكن بينما كان لبكي يتابع نشاطه الخيري، أصدر مجمع «عقيدة الإيمان» في الفاتيكان حكمًا عليه في يونيو 2013 بتهمة الاعتداء الجنسي على قاصرين، داخل دور الأيتام التي أسسها في لبنان وفرنسا.
بالطبع لا الكنيسة المارونية في لبنان أذاعت الخبر، ولا الفاتيكان نشره. لكن بعد أشهر من صدور القرار، في أكتوبر 2013، نشرت مجلة «لاكروا» (الصليب) تفاصيل عن القضية.
وحدها قناة «المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشونال» طرحت الموضوع بشكل علني، وكشفت مراسلة القناة وقتها دلال معوض، أن «القضية قُدِّمت في فرنسا، وإحيلت إلى الفاتيكان بعد تحقيق دام سنتين، عقب الإدلاء بشهادات مكتوبة من 17 شخصًا، عن اعتداء الأب لبكي عليهم في صغرهم، ومن بينهم ابنة أخي لبكي نفسه، والتي اعتدى عليها في الثامنة من عمرها». نتيجة لهذا الحكم مُنِع لبكي من رئاسة القداديس والخدمة الكهنوتية لمدى الحياة.
لم تذهب القضية إلى أي محكمة مدينة، وها هو لبكي اليوم، في أحد الأديرة «يكفر عن ذنوبه». تمامًا كما حصل مع الأرشمندريت بندلايمون فرح، رئيس دير سيدة حماطورة في بلدة كوسبا، الكورة (شمال لبنان).
الراهب اللبناني كان أبًا روحيًّا لعشرات المؤمنين في لبنان. هؤلاء يقصدون الدير الواقع في قلب جبل مرتفع، ويختلون بالأب فرح للاعتراف، أو للاستماع لنصائحه الروحية.
تتسم الأحكام الصادرة عندنا بالسرية، كما كان يحدث نهاية القرن العشرين في الغرب.
قصة فرح انتشرت أيضًا بعد تقرير للصحفية دلال معوض نفسها على شاشة «LBCI»، في نوفمبر 2013. إذ ظهر فيه أن مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس وقتها، جورج خضر، أصدر قرارًا بانعزال فرح داخل الدير وعدم مقابلة المؤمنين بعد شكوى «ارتكابه ممارسات مخالفة للحياة المسيحية والدعوى الرهبانية». قضية فرح أثارت كثيرًا من الجدل، وخرجت لجان للدفاع عنه، معتبرين أن السبب «كيدي».
لكن قرارًا استئنافيًّا نافذًا صدر بتاريخ 22 أغسطس 2017، في دير سيدة البلمند، حكم على فرح بالنفي إلى اليونان لمدة خمس سنوات، ليعيش بأحد الأديرة في جبل آثوس.
في نص الحكم الذي حمل طابع السرية، ينفي فرح كل التهم الموجهة إليه، ويشكك في شهادات الضحايا ضده.
السرية إذًا سمة الأحكام الصادرة في العالم العربي، تمامًا كما كان يحدث نهاية القرن العشرين في الكنائس الغربية. لكن لا الفاتيكان نجح في حماية الكهنة، ولا الضحايا التزموا الصمت.