آخر الحالات الموثَّقة لأكل لحوم البشر كانت في سبتمبر 2017، بمدينة كراسنودار في روسيا. حيث اتُّهِمَت «ناتاليا باكشييف» وزوجها «ديمتري باكشييف» بقتل ثلاثين شخصًا وأكلهم، ابتداءً من عام 1999 حتى قُبِض عليها. كانت الزوجة تصنع فطائر اللحم البشري وتبيعها للجيران أو لمطاعم محلية، وكانت تعرض على مطاعم أخرى بأن تمدهم باللحم شهريًّا مقابل مبلغٍ مُرضٍ للطرفين.
رغم التقزز الذي قد يُبديه أي شخص إزاء تلقيه مثل هذه الأخبار، واعتبارها حالاتٍ عابرة ونادرة، فإن هذا ليس صحيحًا على الأقل تاريخيًا. لم يكن أكل اللحم البشري نادرًا، بل وكانت تصحبه أحيانًا طقوس شعائرية وروحانية. حدث هذا في كل ركن من أركان العالم تقريبًا، حيث وُجِدَت دلائل لممارسات أكل اللحم البشري في أمريكا الجنوبية وبعض جزر المحيط الهادئ، وبين بعض القبائل الأمريكية الأصلية القديمة، وفي مناطق أخرى من العالم. يجمع الصحفي «بين توماس» تاريخًا مختصَرًا لأكل اللحم البشري في مقال نُشر على موقع «Aeon».
طقس شعائري
وُثِّقَ أكل اللحم البشري في ليبيريا والكونغو وسيراليون وأوغندا. في مثل هذه الأماكن التي مزقتها الحروب، يجد المُشارك في أعياد أكل اللحم البشري واحتفالاته وممارسته كطقس شعائري، سعادةً وراحة في أن يطرح دوافع فعله. الآكلون هنا يرون أنهم يجدون قوةً روحية وجسدية في التهام الجسد البشري.
تخدم هذه العادة قيمةً دعائية واضحة، فهي تخلق الخوف في قلوب الأعداء. وفي الجيوش التي كانت تُجند الأطفال، مثل جيش «جوزيف كوني» المُسمَّى «جيش الرب»، نرى أكل اللحم البشري طقسًا استهلاليًّا، أي اختبارًا لتحول الصبي إلى رجل، إذ تعطيه شعورًا بالقداسة والتطهير من الخطايا والتمكين والأمن، حتى تحت وابل الرصاص.
عُثر على بقايا بشرية في كهف بإنجلترا، تُظهِر دليل على أكل اللحم البشري، إذ يبدو أن الجماجم استُخدمت أوعيةً للشرب.
أكل لحوم البشر، أو «الأنثروبوفاجي» (Anthropophagy) الذي يعني حرفيًا «أكل الإنسان»، معروف منذ ما قبل سلالة «هوموسابينز» الحديثة. في مساكن الكهوف التي سكنها أسلاف الإنسان العاقل، اكتشف علماء الأنثروبولوجيا عظامًا بشرية منزوعًا عنها اللحم، تعود إلى 600 ألف سنة. وأقدم عظام هوموسابينز وُجِدت في إثيوبيا، وتظهر عليها علامات إزالة اللحم من بشرٍ آخرين.
عودتنا بالزمن ووصولنا إلى هذا البعد يجعل من الصعب أن نحدد بالضبط لماذا أكل أجدادنا الأولون بعضهم. علماء الأنثروبولوجيا يقولون إن نقص الغذاء كان عاملًا مؤثرًا، بجانب حقيقة أن الجثث التي إذا تُركت تتعفن ستجذب الحيوانات المفترسة، مثل النمور والأسود. ومع ذلك، في أواخر العصر الحجري، كان من الواضح أن لأكل اللحم البشري غرضًا أعمق.
عُثر على بقايا بشرية في كهف «غوف» بإنجلترا، وتعود إلى 15 ألف سنة قبل الميلاد. تُظهِر هذه البقايا دليلًا على أكل اللحم البشري، إذ يبدو أن الجماجم استُخدمت أوعيةً للشرب، ما يشير إلى أن التهام الموتى البشريين كان غرضًا له طقوسه لزوار هذا الكهف. هذا لم يكن غرضه النجاة من الجوع أو طريقة للبقاء على قيد الحياة، بل كان أكل اللحم البشري ممارسة مقدسة.
أكل اللحم البشري ذو الطقوس الشعائرية لم يوجد فقط في الأزمنة التاريخية، بل كانت له قداسة في بعض أقدم الثقافات المتحضرة، وبخاصة في مصر القديمة. في عام 1881، دخل عالم الآثار الفرنسي «غاستون ماسبيرو» قبرًا في مقبرة مصرية هائلة في سقارة، خارج القاهرة. في نهاية ممر طويل تحت الأرض، وجد معرضًا لنقوش ملونة وزاهية تعكس مشاهد من الحصاد ومراسم المعبد ومعارك مع الأعداء.
كان هناك أيضًا نقوش لطقوس شعائرية. اتضح في ما بعد أن هذه الطقوس تنتمي إلى مجموعة من التعاويذ المعروفة باسم «نصوص الهرم»، وهي مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأدب السحري المصري الذي ظهر كله متكونًا في بعض المقابر الأولى، ما يُشير إلى أن هذه التعويذات والطقوس يرجع تاريخها إلى ما قبل ظهور الكتابة.
أغرب ما في نصوص الأهرامات ذلك النص المَعني بأكل اللحم البشري، ليس فقط من البشر الآخرين، بل من الآلهة:
الفرعون هو
الحي في كل إله،
من يأكل أحشاءهم..
الفرعون هو من يأكل البشر
ويعيش على الآلهة.
«ترنيمة آكل اللحم البشري» هذه بقايا ثقافة ذات طقوس شعائرية، وتعود جذورها إلى ما قبل التاريخ، حين كان أمراء الحرب في دلتا النيل يقيمون الولائم على لحم أعدائهم المغلوبين.
استمر أكل اللحم البشري كعادة مقدسة، أو أنها عادت إلى الظهور في الغرب حتى العصر الروماني. يبدو أن بعض قبائل «كهنة الدرويد» مارسوا التضحية البشرية وأكل اللحم البشري في القرون الأولى للميلاد، وكثير من الكُتاب اليونانيين والرومانيين أضافوا مراجع تشير إلى قبائل لها ممارساتها الخاصة لأكل اللحم البشري. «القديس جيروم»، الذي كان مؤرخًا وعالم لاهوت، أشار إلى شعب من آكلي لحوم البشر يدعى «الأتاكوتي» (Attacotti)، وأشار المؤرخ هيرودوت إلى قبيلة أخرى سماها ببساطة «آكلي البشر» (Anthropophagi).
تابو مقدس
لا يحمل أكل اللحم البشري معنى واحدًا في كل الأماكن. فكل ثقافة تخلق معناها الخاص الذي يتماشى مع بُنيتها الروحية. عند الفراعنة المصريين القدماء نجد أن أكل اللحم البشري يضمن الخلود. بالنسبة إلى كهنة الطبيعة في فرنسا القديمة (الدرويد) كان مرتبطًا بالزراعة والخصوبة. بالنسبة إلى آخرين، فإن أكل اللحم البشري كان أداة للتمكين والتخويف وطريقة لتكريم الموتى المحبوبين. الأهم من ذلك كله أن أكل اللحم البشري يُعامَل على أنه من المحرمات «تابو».
غالبًا ما نفكر في المحرمات على أنها عمل محظور: محرَّم أن تتزوج أختك، أو في بعض الديانات محرَّم أن تأكل لحم الخنزير. لكن بالمعنى الأعمق، تشير كلمة تابو إلى النقاط التي يلتقي فيها المقدس والمدنس، مثل: الجنس وإزهاق الروح والولادة. عدد من الثقافات ترى هذه الأفعال «غير نظيفة»، لكنها في نفس الوقت مقدسة جدًّا.
يُعرِّف علماء الأنثروبولوجيا التابو بأنه عمل مقدس للغاية، على أن يؤدَّى في ظروف عادية. فعل يستدعي أعظم خطر بينما يُناشد القوة الكبرى. أكل اللحم البشري واحد من أقوى هذه المحظورات على الإطلاق، وقد يكون هذا هو السبب في اعتباره من أكثر الطقوس قداسةً حول العالم منذ زمن سحيق.
في مرحلة معينة من تطورنا كان أكل اللحم البشري مجرد فعل غرضه البقاء أو الهيمنة، وأصبح من المحرمات الحقيقية بعد ذلك.
في إحدى القصص البارزة والمدهشة، يحكي «هيرودوت» واقعة يقرر فيها الإمبراطور الفارسي «داريوس» (حاكم منطقة ممتدة من تركيا إلى أفغانستان) أن يُجري تجربة في النسبية الثقافية. أمر الإمبراطور باستدعاء مجموعتين من الإغريق و«الكالاتيانيين» (من الشعوب الهندية) إلى بلاطه. سأل الإمبراطور الكالاتيانيين: ما الذي يحتاجونه ليحرقوا جثث آبائهم الميتين كما يفعل الإغريق؟ اتعب الكالاتيانيون وأصروا على أنهم لن يفعلوا أبدًا مثل هذا الفعل المروِّع. ثم يسأل الإمبراطور «داريوس» الإغريق: ما الذي يحتاجونه ليلتهموا جثث آبائهم الميتين، كما يفعل الكالاتيانيون؟ يجيب الإغريق بأن يحاولوا ألا يتقيأوا من فرط الاشمئزاز.
على الرغم من الآراء المتناقضة للثقافتين حول الطريقة التي يجب أن تُعامل بها جثث أقاربهم الموتى، فإنهم يتفقون على نقطة واحدة حاسمة: جثث الأسلاف من التابوهات (دنسة ومقدسة في آنٍ واحد) لأنها توصل بين عوالم الأحياء والموتى.
إلى أي مدى يعود مفهوم أكل اللحم البشري إلى أنه عبور وتجاوز في التاريخ؟ لا نعرف على وجه اليقين. لكن في مرحلة معينة من تطورنا كان أكل اللحم البشري مجرد فعل غرضه البقاء أو الهيمنة، وأصبح من المحرمات الحقيقية بعد ذلك.
كان جسد الإنسان الميت، كما عرفه أسلافنا، له عقل في وقتٍ ما، أي الوعي الذي بمغادرته يتحول الجسد بطريقةٍ ما من شخص عاطفي إلى كائن غير حي. هذا الإدراك لا يمكن أن يفشل في ترك انطباع عميق لدى من عاشوا في العصر الحجري القديم في إنجلترا ولدى أسلاف الفراعنة والأغريق وكهنة درويد ومئاتٍ من المجتمعات الأخرى حول العالم، وفي كل عصر من ماضينا وحاضرنا. في كل التبريرات التي تقدمها هذه الثقافات لأن يأكلوا بعضهم، تظهر فكرة مركزية واحدة تجمعهم: «نحن نأكل الموتى عسى ألا نصبح موتى».