هل يمكن التكيُّف مع اضطراب ما بعد الصدمة؟

الصورة: health.mil

نور الهدى العزاوي
نشر في 2020/01/15

في بعض الأحيان، إذا سأل أحد عما إذا كان اضطراب ما بعد الصدمة مفيدًا أو جيدًا، قد يكون ذلك شكلًا من أشكال عدم المراعاة أو نوعًا من الإهانة، فلا أحد يريد أن يصاب باضطراب من أي نوع، ناهيك بأن يكون نتاج صدمة ما.

يذكر «براين غالاغر»، في مقاله على موقع «Nautilus»، أنه عندما طُرح هذا السؤال على الدكتورة «ريتشل يهودا»، أستاذة الطب النفسي وعلم الأعصاب ومديرة قسم دراسات الصدمات النفسية بكلية طب ماونت سيناي في نيويورك، كانت إجابتها «لا أعلم»، رغم أنها عملت مع محاربين قدامى وناجين من الهولوكوست وغيرهم من ضحايا الصدمات النفسية.

يُعد مفهوم الصدمة غامضًا ومبهمًا، وبالتالي يصعب تعريفه. والآن، يجري نقاش بشأن ما إذا كانت كل الآثار السلبية للصدمات، أو بعض ما يحدث من تغيرات بيولوجية، ما هي إلا محاولات من الجسم للتكيف والتأقلم مع الأمور. 

تُفضل ريتشل تعريفًا آخر للصدمة: «الحدث الفاصل» الذي يقسم حياة الإنسان إلى قبل وبعد، أي ما قبل الصدمة وما بعدها. وخلاصة هذا الكلام أنه من الممكن أن يكون الحدث الفاصل كارثيًا، لكن لماذا لا يغير الإنسان إلى الأفضل؟

من هو «ويلفريد أوين»؟

ويلفريد أوين شاعر وجندي إنجليزي، كان أحد أهم شعراء الحرب العالمية، وتوفي شابًا خلال خدمته في الجيش في سن الخامسة والعشرين. 

شرع أوين في كتابة مذكراته وكوابيس الخنادق على هيئة قصائد شعرية، بعد أن أكد له معالجه النفسي أن هذه الطريقة جزء من العلاج.

بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة أوين، يذكره المقال مثالًا لأحد حالات اضطراب ما بعد الصدمة بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى، إذ شخص الطب النفسي العسكري حالته عام 1917 على أنها «صدمة قذائف»، وهي أحد أنواع  الاضطرابات التي ظهرت نتيجة الحرب العالمية الأولى وعانى منها الجنود آنذاك، وتختلف عن مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة المعروف في وقتنا الحالي. 

شرع أوين في كتابة مذكراته وكوابيس الخنادق على هيئة قصائد شعرية، بعد أن أكد له أخصائي العلاج النفسي «آرثر بروك» أن هذه الطريقة جزء من العلاج. أرسل أوين النسخة الأولى من قصيدته «كم هو جميل ومشرف» إلى والدته، ووُصفت القصيدة مؤخرًا بأنها أحد أهم الأعمال الشعرية للحرب العالمية الأولى، وتحتوي في نهايتها على سطرين شهيرين من اللغة اللاتينية للشاعر الروماني المعروف «هوراس»، يقول فيها: «كم هو جميل ومشرف أن يموت الإنسان في سبيل الوطن».

يناقش غالاغر في المقال مدى تأثير الشعر في القارئ من ناحية علمية وكيف أنه أمر طبيعي. فوفقًا لدراسة حول جمالية الشعر، يرجع السبب الرئيسي لتشكل هذا النوع من التأثير إلى استخدام الصور الشعرية، التي تعد العامل الأهم في التأثير في المتعة الجمالية.

يستعين أحد كُتاب الدراسة بشعر ويلفريد أوين كمثال على ذلك. فعند قراءته لإحدى قصائده، أحس كأنه على أرض المعركة، واستثار ذلك عواطفه وغضبه تجاه ما كان يمر به الجنود آنذاك من تجارب مروعة، وهذا بسبب استخدام أوين للصور الحسية، التي استطاعت نقل المعنى وجعلت القارئ يعيش التجربة عن طريق تخيل ورؤية والشعور بكل عناصر القصيدة.

يمكننا التحكم في معنى الأحداث

 

يشير المقال إلى أن أخصائي العلاج النفسي آرثر بروك يؤمن بأنه لا يمكن تجاوز حالة اضطراب ما بعد الصدمة إلا عن طريق شروع المصاب في أداء شيء مفيد لمحاولة تحسين حالته، كما فعل ويلفريد أوين بكتابة الشعر، ونقل التجربة التي مر بها إلى القراء كجزء من خطة العلاج.

ما تطرق إليه بروك يتفق معه «توماس إي إف ويب»، أحد الباحثين في مجال الأبحاث السريرية بالمستشفى الوطني لطب الأعصاب وجراحة المخ والأعصاب في لندن، فالأداء المفيد للفرد يساعد على تحسين البيئة المحيطة به. 

لكن في المقابل، كانت الكتابة بالنسبة لأوين تعني تعرية حقيقة الحرب ومعارضته لما كان في البداية مؤيدًا له، خصوصًا أنه تطوع للخدمة في الجيش، وسبق أن كتب إلى والدته في ديسمبر 1916 يخبرها بأنه يشعر بنزعة بطولية جيدة خلال وجوده في فرنسا. 

وجه بروك عين أوين الفنية إلى الكتابة عن تجاربه، وليس عما يجري في مخيلته كما كان الحال قبل الحرب، حتى يستطيع علاج حالته عن طريق الأداء المفيد. وينقل المقال عن المؤرخ الراحل «بين شيبارد» أن هذا الأسلوب نجح مع حالة أوين، إذ حوله من شاب يشعر بالإحباط والفشل إلى شاعر كبير، وضابط شاب ذي شخصية واثقة وحازمة.

«غاز! غاز! بسرعة يا أولاد! تجتاحنا نشوة من الارتباك..

نعتمر خوذاتنا الخرقاء في الوقت المناسب»

هذه الكلمات جزء من قصيدة ويلفريد أوين التي أثارت استغراب الشاعر والجندي البريطاني «سيغفريد ساسون»، عندما كان يناوله ملاحظاته حين التقاه في المستشفى، وهو الحدث الذي كان بالغ الأهمية في تطور كتابات أوين، الذي كان مراهقًا يتوق إلى أن يصبح شاعرًا. 

الذي حدث أن تجسيد أوين لذكرياته الشنيعة وكوابيس المعركة وأهوالها في الشعر، منحه القدرة على ضبط نفسه بشكل حاد وفطن.

يتساءل البروفيسور «سانتانو داس»، أستاذ اللغة الإنجليزية وآدابها، عما إذا كان أوين قد استخدم التعبير «تجتاحنا نشوة من الارتباك» للإشارة إلى لحظة من الطاقة العصبية، اندمج فيها شعور الهلع بالبهجة في الوقت ذاته، واحتار الشاعر بينهما. ثم يعود ليشير إلى أنه قد يكون هناك شعور هائل بالإفراج الجسدي الذي تعبر عنه هذه العبارة، والإحساس بالقدرة على الخروج من الخنادق التي حُشروا فيها لفترات طويلة.

توفي أوين وهو شاب صغير، مما يصعب علينا معرفة ما إذا كانت أعماله الإبداعية سببًا في شفائه أم لا. وتقول ريتشل لكاتب المقال إن من يعانون اضطراب ما بعد الصدمة «لا يستطيعون بالضرورة التحكم في جميع الأعراض، لكن يمكنهم التحكم في معنى هذه الأحداث، ومن خلال هذا قد تكون هناك طريقة لجعل الأعراض أكثر احتمالًا».

يبدو أن ويلفريد أوين تمكن من ذلك وأكثر، فبعد أن قابل مجموعة من الشخصيات الأدبية البارزة، كتب إلى والدته في ليلة رأس السنة عام 1917: «ها هي البداية. ترتخي الحبال لتتركني أسافر في عمق البحر، شاعرًا بارتفاع الموج وهو يجر سفينتي إليه».

مواضيع مشابهة