الفضول هو العامل الأهم في نشأة الأسطورة، فمنه تنطلق المُخيّلة في نسجها، مازجةً معها بعضًا من الحقيقة. من أمثلة ذلك أساطير نشأة المدن، فالفضول يستدعي السؤال، وإجابة السؤال تكون مزيجًا من حكايات الأقدمين، التي هي واقع تاريخي أصابته «لمسات» من هذا وذاك حتى تغيّر شكله، ثم تعمل محاولات الاستنتاج عملها في كل ذلك حتى تُنتج «الأسطورة».
لم تكن مدينة الإسكندرية المصرية استثناء، ليس لمكانتها كمَجمَع للثقافات والأجناس فحسب، وإنما لقِدَم عهدها واستمرار عمرانها، فضلًا عن ارتبطها بمؤسس يعتقد بعضهم أنه نبي أو مَلِك موجه من الله، وأعني الإسكندر الأكبر، الذي اعتقد كثيرون أنه ذو القرنين المذكور في القرآن، وتلك النظريات نقرأها في كتب مثل «عرائس المجالس» للثعلبي النيسابوري، أو في بعض ما أورده ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان».
أمامنا أربعة كتب لأربعة رجال هم، بتوالي عصورهم، ياقوت الحموي (جغرافي)، وتقي الدين المقريزي (مؤرخ)، وجلال الدين السيوطي (فقيه ومفسر ومؤرخ)، وأوليا جَلَبي (رحالة).
كلٌّ من هؤلاء ابن عصر مختلف تميز بأحداث جِسام، فالحموي عاصر هجوم المغول على المشرق العربي، والمقريزي عاصر منتصف حكم المماليك لمصر والشام بما فيه من تحولات وأزمات، والسيوطي عاش فترة قايتباي الذي يوصف بأنه آخر السلاطين الأقوياء في دولة المماليك، أما أوليا جلبي فرحالة تركي من أبناء القرن السابع عشر الميلادي، وحضر صراع الإمبراطوريات الأوروبية مع الإمبراطورية العثمانية.
وكلٌّ من هؤلاء أورد قصصًا وأساطير عن الإسكندرية بعضها نقله عن «السابقين»، فخرجت لنا منها روايات أسطورية تروي تأسيس تلك المدينة التي أبهرت المسلمين حين دخلوا مصر.
ولأن بعض تلك الروايات يتداخل أو يتشابه بين هذا الكتاب وذاك مما كتبوا، بل وبعضها موزعة تفاصيله بين أكثر من كتاب، مما قد يوقع القارئ في فوضى ويُشعره بالضياع بين الكتب، لذا دعونا نجمع خيوط كل رواية ونستعرضها على حِدة.
الإسكندرية: نبوءة الازدهار والخراب
القصة الأولى من قصص «نبوءات ازدهار المدن أو خرابها»، وتفسر بشكل غيبي فترات عُلُو مكانة الإسكندرية وعصورها الذهبية من ناحية، وفترات الاضمحلال والخراب من ناحية أخرى.
هذه الرواية من «القصص ذات المغزى الأخلاقي»، وتشبه القصة القرآنية لصاحب البستان، الذي تكبّر على الله فدمر الله بستانه.
تقول رواية ينقلها ياقوت الحموي إن مَلِكًا (غالبًا يُقصَد به بيصر بن حام بن نوح) خلّف ولدين هما «إسكندر» و«فرما»، وورّث كل منهما جزءًا من مصر، فورِث إسكندر من شمالها قرب قرية تُدعَى راقودة، وورث فرما أرضًا في شمال الصحراء الشرقية عند خليج السويس حاليًّا (خليج الفرما سابقًا).
بنى كلٌّ منهما مدينة حملت اسمه، وعندما أتم إسكندر البناء قال في تواضع: «هذه مدينة الإسكندرية، فقيرة إلى الله، غنية عن الناس»، فكافأه الله بأن جعلها عامرة غنية آمنة، تموج شوارعها بالحركة ويعلو فيها البنيان. أما فرما فانتهى من البناء وقال: «هذه مدينة الفرما، غنية عن الله، لكنها فقيرة عن الناس»، فعاقبه الله بأن أسكنها الخراب وجعل البناء يسقط فيها كل يوم.
الرواية الأخرى تذكر أن الإسكندر بلغ قرية راقودة فأعجبه موضعها، فأمر المساحين والبنائين فخططوا المدينة بالأحبال وحفروا عند كل موضع بناء أساسه، وعلقوا في الحبال أجراسًا، وانتظروا أن ينظر المنجمون النجوم ليختاروا نجمًا للطالع الحسن، حتى إذا ظهر جذبوا الحبال فتُصلصل الأجراس، فيلقي البناؤون أحجارهم ويبدأ تشييد المدينة.
وبينما ينتظرون، هبطت بعض الطيور ووقفت على الأحبال فاهتزت الأجراس، فحسب البناؤون أن النجم قد طلع فبدؤوا في العمل، وكان هذا وقت طلوع نجم آخر غير صاحب الطالع الحسن. فلما علم الإسكندر قال: «أردت عمرانها وأن تبقى إلى الأبد، لكن الله أراد سرعة خرابها وهلاكها».
الرواية الأولى من «القصص ذات المغزى الأخلاقي»، واستغلت في وقت رواجها اختلاف الحال بين الفرما والإسكندرية، فالأولى خربة والأخرى عامرة، وفسرت خراب الأولى بـ«بطر النعمة والتكبر على الله»، بينما فسرت عمران الأخرى بأنه ثواب «التواضع لله». وهي رواية تتشابه كثيرًا مع القصة القرآنية لصاحب البستان، الذي كان يحاور صاحبه ويتكبر على الله وينكر القيامة، فدمر الله بستانه.
أما الرواية الثانية فتكاد تطابق رواية بناء القاهرة، بما فيها من حبال ومنجمون وانتظار للطالع، بل وتفسير لسرعة الخراب، فقط هنا تحولت القاهرة إلى الإسكندرية، وتحول جوهر الصقلي إلى الإسكندر الأكبر. والأرجح أن القصة ظهرت في وقت كانت تعاني المدينة حالة من الاضمحلال أو الخراب.
مسوخ البحر التي تمنع البناء، وعروس البحر التي تعين عليه
ننتقل من غيبيات ثواب السماء وعقابها إلى «غيبيات الكائنات الماورائية» التي تهدم المدينة أو تُسهِم في بنائها، فتقول رواية نقلها المقريزي إن الإسكندر حين بلغ راقودة وأراد بناء مدينته على موقعها، علم أن أهل القرية لا يخرجون ليلًا قط، فسأل عن ذلك، فعرف أن من خرج ليلًا خطفته شياطين البحر.
فلما بدأ في البناء كان يبني نهارًا ويوقف العمل ليلًا، فيُصبِح ليفاجأ بما بناه قد تكسر وتخرب. ففكر في حيلة لمعرفة السر وراء ذلك، فأمر بصنع تابوت من الزجاج والخشب، وألصق فراغاته بالقطران، وجعل في أسفله الرصاص، وربطه بحبل ثم دخل فيه، وأمر رجاله أن يدلوه في البحر.
وبينما هو ينظر تحت الماء وجد الشياطين والمسوخ ووحوش البحر قد أقبلت، ومعها معاول وفؤوس لتخرب ما بُنِيَ.
فلما خرج من الماء وجاء النهار، أمر بعمل تماثيل وصور على هيئات هذه الكائنات، ووضع في يد كلٍّ منها فأسًا أو مِعوَل، وجعل موضعها في مواجهة البحر مباشرة.
وهكذا، حين جاءت المسوخ في الليل لتؤدي عملها التخريبي، وجدت أشباهها في مواجهتها فهربت منها، فاكتمل البناء وصارت المدينة آمنة ممن يهدمون البنيان ويخطفون من يخرج ليلًا.
هناك قصة أخرى ذكرها المقريزي والحموي، عن راعي غنم شاب عاصَر بداية بناء المدينة، وكان إذا ترك أغنامه ليلًا عاد فوجد منها واحدة ناقصة، فشك أن شيئًا يخرج من البحر ليختطفها، فسهر واختبأ ليجد فتاة من «أهل البحر» تخرج من الماء، لها شعر طويل منفوش، تحاول خطف شاة من قطيعه، فوثب عليها وصارعها حتى شل حركتها وحملها إلى بيته، ثم لاطفها فتعلقت به، وعاشت معه وأنجبت منه.
فلما أنجبت وأصبحت «من أهل بيته»، شكا لها أن البنيان في الإسكندرية لا يستقر، وأنهم كلما بنوا منه شيئًا «ساخ في الأرض»، أي ثَقُل على التربة وغاص فيها. فصنعت له الفتاة طلاسم وتعاويذ وُضِعَت على البحر فصارت الأرض صلبة تتحمل البنيان والعلو فيه.
هاتان القصتان تعكسان حالة الانبهار الساذج بالمباني العتيقة العظيمة في الإسكندرية، تلك التي تعود إلى العصرين البطلمي والروماني، خصوصًا أن العرب المسلمين حين دخلوا مصر لم يكونوا من «أهل البناء»، فكان «التطاول في البنيان» بالنسبة إليهم هو بناء طابقين أو ثلاثة، وهنا أتحدث بالطبع عن عرب وسط الجزيرة وليس شمالها أو جنوبها، الذين عرفوا المباني العالية الضخمة.
عظمة بناء الإسكندرية ربما استفزت بعض الناس للادعاء بأن ثَمّة «يد خوارقية» في الأمر، فالمدينة تحميها الطلاسم من المسوخ والشياطين، بل إن بعض أهل البحر عَوّذها بتعاويذ تثبِّت أرضها فتحتمل هذا البناء المتعالي.
قوم عاد وذو القرنين والنبي سليمان: بُناة الإسكندرية الأوائل
لم يكتفِ الفكر الأسطوري بإدخال الغيبيات السماوية والماورائية، بل خلق ارتباطًا بين الإسكندرية وشخصيات من الموروث الديني، مثل قوم عاد وذي القرنين والنبي سليمان، بن والنبي داوود.
تعتمد هذه الروايات على فكرة أن الإسكندرية قد بُنِيَت أكثر من مرة، فكان الاختلاف في شخص أول من بناها.
فأما قوم عاد، فقيل في ما كتب ياقوت الحموي إنه «يَعمُر بن شداد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح»، وأنه قد كتب على حجر فيها نقشًا نصه: «أنا يعمر بن شداد، أنشأت هذه المدينة وبنيت قناطرها ومعابرها قبل أن أضع حجرًا على حجر، وأجريت ماءها لأرفق بعمالها حتى لا يشق عليهم نقل الماء، وصنعت معابر لممر أهل السبيل وسَيّرتُها إلى البحر».
ويضيف راوي القصة أن المدينة كان يعمل فيها 90 ألف عامل، لا يرون لهم إلهًا إلا يعمر بن شداد.
ورُوي أيضًا أنه كان مكتوب بلغة أهل حِمْيَر (في اليمن) على حجر: «أنا شداد بن عاد، الذي نَصَب العماد وجنّد الأجناد وسد بساعده الواد، بنيت هذه الأعمدة في شدتي وقوتي إذ لا موت ولا شيب، وكنزت كنزًا على البحر في خمسين ذراعًا، لا تصل إليه إلا أمة هي آخر الأمم»، والمقصود بأمة آخر الأمم «أمة محمد»، وقيل أيضًا إنه قد ألينَ له الرخام فيكون كالعجين حتى يصيغه ويبني به فيصبح صلبًا.
وجد «جبير المؤتفكي» مكحلة من الياقوت والزبرجد، وحين كحل عينيه تكشفت له كنوز الأرض، فبنى بها الإسكندرية.
ونقل المقريزي كذلك أن بعضهم وصف الإسكندرية بأنها المقصودة بـ«إرم ذات العماد»، إذ تكثر بها الأعمدة العملاقة مثل عمود السواري.
أما الإسكندر (ذو القرنين في روايات)، فقد روى «معجم البلدان» للحموي أنه حين أراد بناء المدينة دخل هيكلًا مقدسًا، فقرب القرابين وسأل ربه أن يريه شأن مدينته، فنام فرأى رجلًا يبشره بأنها مدينة تكون محصنة من الوخم والمرض، عامرة بالناس، محروسة من الأعداء والجيوش، ذائعة الشهرة. فبناها وسماها باسمه، ثم سافر إلى بابل فمات هناك. لاحظ هنا التشابه مع شخصية الإسكندر كما يذكرها التاريخ، بما فيها زيارته معبد آمون وتكريمه الإله هناك.
ويؤكد بعض من أورد الحموي أقوالهم في شأن الإسكندر أنه «ذو القرنين»، وأنه باني المدينة، بينما الإسكندر بن فيليب المقدوني رجل آخر جاء بعده بزمان طويل.
وينسب الكتاب ذاته رواية إلى النبي محمد، مفادها أن ذي القرنين كان غلامًا من الروم منحه الله المُلك، ثم سار في الأرض حتى بلغ ساحل البحر في مصر فأراد بناء الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها حمله مَلَك إلى السماء وأراه إياها من عُلُوّ، ثم بشره بأنها تكون مدينة عامرة مزدهرة ذائعة الصيت.
وفي رواية في كتابات الحموي والمقريزي والسيوطي أن النبي سليمان دخل مصر فزار الإسكندرية، فجعلت له الشياطين مجلسًا فيها، جدرانه من الرخام النقي إلى حد أنه يُرَى ما وراءه، ثم غزاها ذو القرنين بعد ذلك بزمن، فهدم كل ما فيها عدا الذي بناه سليمان، ثم تداولتها الروم حتى فتحها العرب.
وثَمّة رجل يُذكَر اسمه «جُبَير المؤتفكي»، كان من الملوك الذين غزوا مصر، وقيل في رواية نقلها ياقوت الحموي إنه أول من بنى المدينة، وسخّر لبنائها 70 ألف بنّاء و70 ألف حافر خنادق و70 ألف باني قناطر وجسور، وعمّرها في 200 سنة.
وقيل في تفسير بناء المؤتفكي للإسكندرية إنه وجد في مغارة على الشاطئ بالقرب من موقعها تابوتًا من نحاس، فتحه فوجد تابوتًا من فضة، فتحه فوجد علبة من الماس فيها مكحلة من ياقوت وزبرجد، فكحّل إحدى عينيه بها فتكشفت له كنوز الأرض ومعادنها، فاستخرجها وبنى المدينة، وجعل أعمدتها من فضة وذهب، وحكمها 500 عام لا ينازعه أحد مُلكه.
وثَمّة رواية أخرى في كتاب المقريزي عن «الملوك الغزاة»، تذكر أن «جورياق»، ابنة ملك مصر الذي عاصر النبي إبراهيم، قد ملكت بعد أبيها، لكن أهل مدينة إتريب في الدلتا تمردوا عليها وولوا رجلًا اسمه «إيداخس»، فهزمته، فهرب إلى الشام وحرض الكنعانيين على غزو مصر، فأرسلوا جيشًا على رأسه قائد يُدعى «جيرون»، فراسلته الملكة وخدعته وأغرته بالزواج ومشاركتها المُلك لو قتل إيداخس، فوضع له السم.
وحين مات إيداخس، دعاها جيرون إلى الوفاء بوعدها، فقالت له جورياق إنها تريد أن يبني لها مدينة عظيمة تكون مهرًا لها، لأنها وقومها يفخرون بالبنيان.
فبدأ في بناء الإسكندرية، وجعل لها 100 ألف عامل يبنونها حتى نفد ما معه من المال. ثم وجد راعيًا للغنم يخبره أنه كل ليلة تخرج له من البحر فتاة تدعوه إلى مصارعتها، فإن غلبها صارت له، وإن غلبته أخذت رأسين من الغنم. فسهر جيرون مع الراعي حتى إذا خرجت صارعها وغلبها وجعلها تخبره بالطلسمات التي تجعل الأرض تستقر حول البناء، وأخبرته كذلك بكيفية العثور على كنز عظيم، بأن يذهب إلى معبد دائري وصفته له ويبخر تماثيله بشعر ثور مذبوح ثم يمسحها بدمه، فيخبره بعضها بمكان الكنز.
فاستخرج الكنز وأكمل بناء الإسكندرية، ثم استدعته الملكة وطلبت منه أن يقسِّم جيشه ورجاله ثلاثًا، ويرسلهم إليها في ثلاث دفعات لتضيِّفهم ويستريحوا، ثم يدخل عليها وقد استعدت لاستقباله. فكان كلما أرسل ثُلثًا وضعت لهم السم في الطعام، حتى أتى فوجد نفسه وحيدًا في يدها، فقتلته وملكت المدينة التي بناها.
المُلاحَظ في تلك الروايات سعي نُسّاجها لتفسير أمرين: قِدَم العهد بالمدينة، وتواتُر تعميرها بين الملوك والدول التي تعاقبت عليها. والمتأمِّل في تلك الأساطير قد يخرج باستنتاج أن البقعة التي اختارها الإسكندر لبناء المدينة لم تكن مقفرة أو مقتصرة على قرية راقودة، وإنما كانت بها يومًا مدينة، وهو ما يذكره بعض المؤرخين من أن منطقة «أبو قير» كانت يومًا ميناءً شماليًّا لمصر القديمة.
منارة تحرق الأعداء ومبانٍ تضيء من غير نار: كرامات الإسكندرية
لم تقتصر الأساطير على قصة البناء، بل تعدتها إلى وصف بعض المنشآت العجيبة.
يذكر المقريزي في «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، المعروف بـ«الخطط المقريزية»، المنارة التي نعرفها الآن بـ«فنار الإسكندرية». وقيل إن أول من بناها كانت «قلوبطرة» (قراءتهم لكليوباترا)، وقيل بل بنتها الملكة «دلوكة»، وهي امرأة عجوز تذكر قصص الأساطير العربية عن مصر أنها ملكتها بعد غرق فرعون، وحصنتها كلها بسور، وبنت المنارة لتحميها.
فالمنارة لم تكن مجرد أداة لإرشاد السفن، بل قيل كان عليها تمثال يصدر صوتًا لو اقتربت سفن العدو، وقيل بل كانت فوقها مرآة يرى الناظر فيها ما يجري حتى سواحل القسطنطينية (في تركيا الآن)، وقال آخرون بل كانت مرآة تعكس أشعة الشمس على السفن المعادية فتحرقها (فكرة المرآة المقعرة وعكس الأشعة للإحراق).
وقيل في خراب تلك المرآة إن بعض الملوك أراد غزو مصر في زمانها القديم، فأرسل من يحتال لكسر المرأة. وقيل بل جاء يهودي في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وادعى أنه يجد عندها كنزًا، ففركها بالثوم فتشققت وفسدت.
قيل عن الإسكندرية إنها من أربع مدن تعد بمثابة «أبواب الجنة»، وقيل إن للمقيم فيها أجر مرابط، وللمتوفَى أجر شهيد.
وذُكِرَ في «الخطط المقريزية» و«معجم البلدان» أن مبانيها كانت من رخام أبيض ناصع، حتى أنه كان يعكس ضوء القمر، فكانت المدينة تضيء دون مشاعل أو سُرُج، وكان الخياط «يلضُم» خيطه في إبرته ليلًا من غير سراج أو مصباح، وكان أهلها يسيرون وقد وضعوا عصابات سوداء على أعينهم، خشية أن يغشي انعكاس النور على مبانيها أبصارهم.
وفي ذِكر عدد مبانيها، رُويَ أنها حين فتحها المسلمون وجدوا فيها 400 ملعب وخمسة آلاف حمام، وهو طبعًا رقم يعكس ولع المؤرخون العرب بالأعداد الضخمة، وهي ملاحظة أبداها ابن خلدون في مقدمته.
وذكر السيوطي في كتابه «حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة» أن الإسكندرية من أربع مدن تُعَد بمثابة «أبواب الجنة» في الأرض، وقيل كذلك إن للمقيم فيها أجر مُرابط (جندي على الحدود)، وللمتوفَى أجر شهيد.
وليست هذه الروايات ببعيدة عن قصة نبوءة السماء للإسكندر عن مدينته.
خلاصة القول أن الإسكندرية كان لها على أرض الواقع شأنٌ استفز الفضول، الذي ترك عنانه للخيال فنسج حولها روايات وأساطير تلائم طبيعتها المبهرة للزائر، كمدينة عالمية متنوعة الثقافات دائمة النشاط مزدهرة عمرانيًّا.
امتزج هذا الخيال بنزعة دينية، فربط المدينة بأشخاص من القَصَص الديني، كذي القرنين والنبي سليمان وغيرهما، وكذلك بنزعة عروبية، أقحمت في تلك الأساطير أشخاصًا كشداد بن عاد وجبير المؤتفكي وملوك كنعان وغيرهم.
وعلى أي حال، أحيل القارئ إلى أربعة كتب بها ما لذ وطاب من تلك الأساطير، هي «معجم البلدان» لياقوت الحموي، و«المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والأثار» لتقي الدين المقريزي، و«حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة» لجلال الدين السيوطي، و«سياحت نامه» لأوليا جلبي، فلينظر القارئ فيها ما كُتِبَ عن المدينة.
أحيل القارئ كذلك إلى كتاب لباحث معاصر هو «الأساطير المتعلقة بمصر في كتابات المؤرخين المسلمين» لعمرو منير، وحبذا لو طالَعتَ ما كتب بعض الرحالة الذين زاروا الإسكندرية، مثل ابن بطوطة وابن جُبَير والحسن بن الوزان المعروف بـ«ليون الإفريقي»، لتقف على حالة الانبهار التي استفزت الخيال الجمعي لتقديم تلك الأساطير والروايات الشيقة عن المدينة العتيقة.