«لي حصة من الاضطهاد كل يوم، فقط لأني أسود البشرة. تخيلوا أن لون جلدي يبيح للآخرين أن يسخروا، أو ينفروا مني».
يبدو عبد الله فيروز ذو العشرين عامًا ممتعضًا وحزينًا للغاية من المفردات اليومية التي تلاحق نهاراته بسبب بشرته، لأنه لم يختر لونها أو نوعها ليحاسَب بهذه الطريقة.
تبدو الحياة شبه متوقفة عند العراقيين السود هنا، ذلك بسبب الإجحاف الذي يمارَس بحقهم، وبشكل يومي مستمر، من الدرجات البسيطة للاضطهاد والمتمثلة في رشق العبارات الجارحة، حتى الإقصاء والإبعاد عن المناصب الإدارية أو حتى السياسية.
قصة طويلة للعراقيين السود وثورات خجلة، كادت تنادي بصوتهم لكن لم يتردد صداها.
العنصرية الأكثر رواجًا
يسمع فيروز، وبشكل دائم، مفردات عنصرية مثل «عبد» و«وصيف» و«زنجي متسخ». أحيانًا يفضل السكوت، أو الضحك معهم لمجاراتهم، لكن الأمر أصبح لا يطاق. يتحدث إلى «منشور» فيقول: «بدأت بإسكات من حولي، خاصة وأنهم يرون أنفسهم متفضلين عليّ لمرافقتهم شخصًا أسود».
«أنا مستعد لما سيقولونه عن الصابون الذي لا يجدي نفعًا مع لوني، وعمن ستوافق على الارتباط بمن يشبه الفحم. ما يحدث هنا كبير، لكن السود صامتون ولا ثورة لديهم سوى ثورة التغاضي».
ثورة السود وسياقها التاريخي
يقدر سعد سلوم، وهو مؤسس المركز الوطني لمواجهة خطابات الكراهية في العراق، عدد العراقيين السود بأرقام تتراوح بين 250 ألفًا إلى 400 ألف نسمة، تتركز الغالبية منها ديموغرافيًا في جنوب العراق، والبصرة تحديدا.
يؤكد سلوم، الخبير في شؤون التنوع الديني والإثني في العراق، أن هذه المجموعة الإثنية قدمت محاولات عديدة للمطالبة بصحوة تنقذ أبناءها من التمييز العنصري الذي التصق بهم منذ قرون.
خصص سلوم العديد من الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية عن جذور العراقيين السود، التي بدأت حينما استخدم الخلفاء الأمويون والعباسيون عشرات الآلاف من ذوي البشرة السوداء في زراعة الأراضي وبنائها، تحت معاملة وظروف قاسية. ويعلق في حديث مطول مع «منشور» أن «لاستعبادهم أثر كبير في السيكولوجيا الجمعية، انتهت بثورتهم أكثر من مرة، أشهرها المعروفة بثورة الزنج في مدينة البصرة والتي استمرت لـ15 عامًا».
يؤكد سلوم أن قضية العراقيين السود وثوراتهم تعرضت للطمر والتشويه التأريخي، إلا في ما ندر بكتابات شبه خجولة تدعو للمساواة والحق من خلال سرد الوقائع التي لاحقتهم، مضيفًا: «لقد ظهرت صورة سيئة وسلبية عن العراقيين السود وعن ثورتهم في كتب التاريخ الإسلامي، وتأثر حتى الباحثون والمؤرخون بهذه الصورة النمطية المأخوذة عنهم، فاتهموا ذوي البشرة السوداء بتهديد الوحدة الوطنية وفصل المجتمعات إلى أعراق وألوان، لكنها في الحقيقة كانت ثورة اجتماعية ضد ظلم السلطات، التي شكلت ورسمت للأفارقة هوية ووجودًا مرتبطًا بواقع العبودية المحضة».
جلال ذياب، حفيد الثورة وشهيدها
يرجع الباحث سلوم بذاكرته إلى الناشط جلال ذياب، الذي حاول استعادة روح المطالبة بالعدالة الاجتماعية للعراقيين السود، وذلك بتأسيسه مع عدة أشخاص «حركة العراقيين الحرة» في البصرة/جنوب العراق، لتصبح أول حركة سياسية في الشرق الأوسط تنادي بحقوق ذوي البشرة السوداء، إذ كانوا يتطلعون لتغيير واقعهم على نحو حفزه فوز باراك حسين أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
يضيف: «كانت إحدى مطالب الحركة هي الحصول على كوتا الأقليات، على غرار ما حصل عليه المسيحيون والإيزيديون والمندائيون والشبك، وبذلك يمكن ضمان مقعد في البرلمان الاتحادي، فضلًا عن التمثيل على مستوى الحكومات المحلية والحصول على كوتا في انتخابات مجالس المحافظات، في البصرة على الأقل»، لكن هذا الطريق كان شاقًا، ولا يبدو أن هناك اعترافًا بمثل هذه المطالب حتى اللحظة الراهنة.
لكن شريان الثورة الحديثة للعراقين السود كاد يسقط في بحيرة اليأس مرة أخرى بعد اغتيال جلال ذياب، والذي كان يمد روح السود بأهداف المستقبل، إذ أسكتت صوته عدة رصاصات، اخترقت أفكاره وآمال العديدين، على يد مجهولين، بتاريخ 27 أبريل 2013، بالقرب من مقر الجمعية في قضاء الزبير/البصرة. اتجه العديد من سود العراق بعد هذا إلى تنظيم مؤسسات وحركات إنسانية على خطى جلال ذياب، وكان تجمع «البشرة السمراء» أحد هذه المنظمات، التي نادت بصوت عال «نحن سود، لسنا عبيدًا».
عنصرية مجتمعية وسياسية
يتحدث الصحفي والكاتب عبد الحسين عبد الرزاق مؤسس تجمع «البشرة السمراء»، لـ«منشور» عن الممارسات القمعية التي تطول أبناء العرق الأسود من قبل المجتمع العراقي، مؤكدًا أن قضية العنصرية والتهميش حقيقة لا يمكن إنكارها أو تزييفها، ومطالبًا بأن يثبت النافون عكس ما يعيشونه.
ويضيف: «لعل أبسط وأهم شيء يدل على كم الاستحقار الذي نعيشه، هو اطلاق اسم عبد على كل أسود، فالأسود في العراق يولد عبدًا في اعتقاد الغالبية العظمى من العراقيين. تيبست أفواهنا ونحن نطالبهم بتلطيفها لكلمة أسود بدلًا عن عبد، لكن كيف؟».
يرى الصحفي عبد الرزاق أن الأحزاب ورجال الدين في منأى عن قضية السود المهمة. وعلى الرغم من مرور 16 عامًا على انطلاق صوتهم المطالب بأكثر الحقوق مزاولة، فإن أصوات الأحزاب كانت خفيفة وتكاد تكون معدومة. يكمل قائلًا: «لم يصدر عن هذه الاحزاب أو رجال الدين أي دعم أو مساندة، بل العكس، فبعض الأحزاب اتهمنا بالعمالة للأمريكان ومنع دخولنا الانتخابات وسرق أصوات من حاول خوض العملية السياسية، أما رجال الدين فهناك من يرى وجوب أن نعيش خدمًا وعبيدًا لهم في الشرع».
يحكي الصحفي عبد الحسين عبد الرزاق: «زملائي من الوسط الصحفي رفضوا ولايتي عليهم كنقيب للصحفيين، وذلك لكوني أسود البشرة فقط».
أكثر المدن التي يعاني فيها السود من التمييز العنصري، كما يوضح عبد الرزاق، هي محافظات الجنوب التي يتركز السود فيها، كالبصرة والناصرية وميسان، وهي أكثر الأماكن التي تسحق هذه الفئة، مرورًا بالعبارات السهلة حتى الأمور الحياتية المهمة، كتحديد الوظائف والدراسة.
يقول: «ما زال الاعتقاد بأن السود عبيد بالفطرة قائمًا، فالناس في المحافظات الجنوبية من العراق يتفننون في النيل من كرامتنا، ويستخدمون تسميات عديدة في إيذائنا. فالرجل الأسود عندهم عبد أو تيس أو صخل أو خال أو دعي، أما المرأة فعبدة ووصيفة وسخلة ودعية، وغير ذلك من الأسماء التي أقولها كما هي دون خوف، لأنهم يرددونها دون حياء».
تمكن الصحفي عبد الحسين عبد الرزاق من تأسيس جريدة في النصف الثاني من عام 2003، يصفها بأنها صحيفة اجتماعية مورس ضدها التمييز العنصري بكل أشكاله، سواء كان من قبل حكومة البصرة المحلية أو نقابة الصحفيين. ويكمل أن «زملائي من الوسط الصحفي رفضوا ولايتي عليهم كنقيب للصحفيين في المنطقة الجنوبية بعد سقوط نظام صدام حسين، وذلك لكوني أسود البشرة فقط. ولم تشفع لي فكرة أني أقدم صحفي أكاديمي في البصرة، وبكفاءة صحفية عالية، فأنا أسود إذًا أنا عبد، وليس للعبد صلاحية لأن يكون رئيسًا في أي مجال مهما كانت الأسباب».
سيرة غناء العراقيين السود وتراثهم الثقافي
تؤكد زينب الكرملي، الناشطة ومستشارة شبكة تحالف الأقليات العراقية ممثلة السود في العراق، أن حتى السيرة التاريخية الفنية لقرع الطبول عند الأفارقة كان سببها الظلم الذي تعرضوا له، إذ اعتمد من تعرضوا للاختطاف منهم والذي بيعوا في سوق النخاسة على مناجاة الرب لتخليصهم من الأسى والأَسر، على شكل تمتمات وأصوات تشبه المواويل إلى حد ما، لتتطور في ما بعد وتصبح كما وصلت إلينا.
وتضيف في حديثها لـ«منشور» أن «هذا النحيب الذي كان يصدر منهم، تطور ليبدو بشكل آلة حديدية، صنعوها لتحدث أصواتًا عالية، تثبت من قيمة المناجاة». وتكمل أنهم «استخدموا هذه الطقوس خلال الترحال الطويل مع مالكيهم على متن السفن، ذلك أنهم تمكنوا من صنع تجمعات خاصة بهم لقضاء الوقت، فحملوا معهم هذه الآلات لبلدان جديدة مكثوا بها وعاشوا، وباتت هذه الموسيقى اليوم جزءًا من أصالتهم».
ترى كرملي أن للعراق حصة ليست بالهينة من ميراث السود الموسيقي وما وصل إليهم، إذ توارث الأحفاد ظاهرة الفن وقرع الطبول، وتمكنوا من صنع آلات موسيقية من الخشب، كآلة الخشبة التي تشبه إلى حد ما الطبلة، اضافة إلى آلة الكاسور التي ابتكرها سعد اليابس، أشهر فناني التراث من العراقيين السود. وتضيف: «يستقر التراث الموسيقي للسود العراقيين في محافظة البصرة، ويرتبط تقديم الفلكلور البصري بالرقصات الدينية القادمة من أعماق إفريقيا، كالجكانكا والنوبان والهيوة، لأنهم ينحدرون من تلك الجذور».
نبتهج بالحياة ونغني
تشعر زينب كرملي بالاستهجان من العبارات المسيئة والأوصاف المنمقة بعناية حول ارتباط السود العراقيين بالغناء، وكأنها سُبة أو فعلًا مشينًا، مؤكدة فخرها بارتباط اسم السود بالغناء والرقص، لما يمثله من نهج واضح وإجابة حقيقية وصريحة عن مدى تصالح العراقيين السود مع أنفسهم والآخرين. وتتساءل: «لِم يعتقدون أنهم حين يربطون الغناء والرقص بنا، فإنهم يسيئون إلينا؟ إنهم يسيئون لأنفسهم فقط، فالفن والغناء غذاء النفس وتهذيبها، وهذا ما يعهد السود فعله دائمًا، نفتخر أننا نميل إلى الرقص لا القتل».
وتوضح أيضًا أن رفض أماكن العمل توظيف العراقيين السود تجعلهم يميلون إلى إشاعة البهجة عن طريق الغناء والرقص، ذلك أن البصرة وحدها كانت تضم أكثر من 50 فرقة موسيقية للثقافة الشعبية الخاصة بهم.
الفقر وحكايات الإقصاء
لك أن تتخيل أن عمرًا ينقضي بين الإهانات، كيف يستطيع المرء أن يعيش طبيعيًا؟
يشرح علي السعدون، الناشط في حقوق السود، الوضع الاقتصادي الحزين الذي يعيشه العراقيون السود بصمت، موضحًا أن هناك ما يقارب الـ75% منهم يقطنون داخل بيوت من صفيح، ذلك لأن مستواهم المعيشي متردٍّ جدًا.
ويكمل لـ«منشور» بالقول: «كان نتاج المعاملة السيئة لنا، الانعزال والانعكاف بعيدًا عن كل شيء، حتى صغارنا لم يَسلموا من الإساءات اللفظية في المدارس، حتى أن بعض المعلمين يقدمون تمييزًا كبيرًا وواضحًا في المعاملة بين الطلبة السود وأقرانهم الآخرين».
يذكر السعدون أن هذه المعاملة غالبًا ما تجبر الطلبة على ترك المقاعد الدراسية أسوة بذويهم، الذين يعيشون قرب جيران ينادونهم دومًا بـ«بيت العبيد». ويضيف: «لك أن تتخيل أن عمرًا ينقضي بين الإهانات، كيف يستطيع المرء أن يعيش طبيعيًا؟ حتى من أكمل دراسته رغمًا عن الظروف، لاقى التهميش».
يسترجع إحدى الحكايات بقوله إن «أحد الأشخاص كان يبحث داخل أروقة الجامعة عن أستاذ أسود البشرة، وكلما سأل أحد الطلبة عنه، كانوا يجيبون بعبارة: تقصد الدكتور العبد؟». وبينما يضيف حكاية أخرى، يشير إلى تكرار هذه المواقف مع جميع أفراد تلك الفئة الاجتماعية وبكل طبقاتها: «تعرض أحد الأطباء يومًا لموقف محرج، حين كان منهمكًا في علاج أحد المرضى، إذ اقترب منه طبيب آخر وقال له: أنت ترعب الناس وتفزعهم بوجهك المتفحم هذا بدلًا من علاجهم. هذا الطبيب ترك العراق».
وهذا ما تؤكده زينب كرملي، التي تدرس اليوم ماجستير الإدارة والاقتصاد، لكنها لم تحصل حتى اللحظة على الوظيفة التي تحلم بها، ولا تملك أيضًا فرصة للتعيين.
جورج فلويد العراقي
أثناء حديثي مع الطالبة الجامعية هبة سلمان، استرجعتْ بعض الذكريات السيئة والحزينة التي لا تستطيع محوها. تستذكر مواقف لا حصر لها، مواقف تجعلها تتمنى الهجرة كل يوم لنيل حياة وتقدير أفضل.
تقول: «يذكروني دائمًا أن البشرية اخترعت أجهزة تسريح الشعر للتخلص من تجعد شعرنا السيئ، يفرضون علي أن أسرّح شعري لأنه "سيم مواعين"، ويحثوني على وضع فلاتر جيدة لوجهي في الصور لأصبح أكثر بياضًا. يضحكون في ما بينهم حين يتذكرون أني سوداء، وأن أي فلتر في الحياة لن يغير جلدي».
تضيف: «لا أنزعج من هويتي السوداء أمام الطلبة، بل دائمًا أصر على الجدال معهم ومنعهم من التفوه بمفردات عنصرية داخل الحرم الجامعي، الذي من المفترض أن يبدو أكثر تنويرًا». وتكمل أن «المفارقة الغريبة أن أغلب الزملاء انتفض على السوشيال ميديا عند مقتل جورج فلويد، ونادى بعضهم بالحرية للسود في أمريكا والعالم، لكنهم يمارسون العنصرية المقيتة كل يوم بحقنا، فكيف يحدث هذا؟».
فرض الشقاء طريقًا له في حياة السود مذ لحظة وصول أقدامهم إلى العراق قبل أكثر من 800 سنة وحتى اليوم، سلم ممتد بعدة درجات لنضال لم ولن ينتهي، نضال تعددت أساليبه وفتراته، مرة على شكل ثورة، ومرة على هيئة ترحال واستسلام، ومرة في شكل حركات حديثة ومنظمات يافعة تحاول إيجاد السلام والإنصاف. قصص عديدة توثق التراجيدية في حياتهم، وتشكل جسدًا لفئة تريد العيش دون عبارة «عبد».