في الثامن والعشرين من أكتوبر 2018، تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته في سحب حق التجنيس بالولادة لكل الأطفال الذين ولدوا على أرض الولايات المتحدة لغير المواطنين، وذلك في مقابلة على المنصة الإعلامية الجديدة «Axios».
برر ترامب قراره بأن الولايات المتحدة «البلد الوحيد في العالم الذي يأتي إليه الشخص ويولد له طفل، فيصبح هذا الطفل مواطنًا أمريكيًّا لمدة 85 عامًا، مع كل الفوائد والامتيازات التي تتبع ذلك. هذا سُخف ويجب أن ينتهي».
لكن أولًا، ما هو التجنيس بالولادة؟
«التجنيس بالولادة» مفهوم مباشر. ينص ببساطة على أن المولودين في دولة تسمح بهذا الحق، يصبحون مواطنين لهذه الدولة حتى لو لم يكن آباؤهم كذلك.
المبدأ المعروف باسم «حق الأرض»، جاء في الأصل من القانون العام الإنجليزي الذي تأسس في بريطانيا أوائل القرن السابع عشر، ثم انتقل في ما بعد إلى المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية، والتي أصبحت الولايات المتحدة الآن.
هذا المفهوم يقابله على الناحية الأخرى «حق الدم» أو «التجنيس بالدم»، والذي ينص على أن جنسية الطفل نفس جنسية والدَيْه، بغض النظر عن مكان ميلاد هؤلاء الأطفال.
في الدول التي تطبق هذا المبدأ (مثل فرنسا وألمانيا)، ينشأ أحيانًا تضارب في تحديد جنسية الطفل الرسمية عندما يولد لأبوين من مواطني دولة أخرى.
مثلًا، الطفل المولود في الولايات المتحدة من آباء فرنسيين، أمريكي بحق الأرض، لكنه فرنسي بحق الدم. والجنسية الفعلية لهذا الطفل تعتمد على السلطة القضائية: في الولايات المتحدة مواطن أمريكي، في فرنسا فرنسي، في أي بلد آخر كلاهما.
أخطاء، كثير من الأخطاء
تُقدم أكثر من 30 دولة التجنيس بالولادة، وتقع معظم هذه الدول في نصف الكرة الغربي، في الأمريكتين تحديدًا.
توجد مجموعة من الملاحظات المرتبطة بتصريح ترامب، أولها أن هذا القرار يتعارض مع أحكام «التعديل الرابع عشر من الدستور الأمريكي» الذي يمنح حق الجنسية لجميع المولودين داخل الولايات المتحدة والخاضعين لسلطتها القضائية، وهو «حق الأرض» (Jus soli). ثانيها أن هذا التعديل لا يمكن إلغاؤه بتوقيع أمر تنفيذي من رئيس الولايات المتحدة كما أشار ترامب، بل لا بد من موافقة الكونغرس الأمريكي.
في الواقع، الولايات المتحدة واحدة من مجموعة دول تقدم هذا الحق. حاليًّا تُقدم أكثر من 30 دولة التجنيس بالولادة، وتقع معظم هذه الدول في نصف الكرة الغربي، في الأمريكتين تحديدًا، مثل الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين والبرازيل، أو في أمريكا اللاتينية، وظهرت هذه السياسة فجأةً في دول مثل ليسوتو في جنوب أفريقيا وباكستان في آسيا.
ألغت فرنسا التجنيس بالولادة عام 1993، بعد إقرار قانون جديد للجنسية الفرنسية. يحدد هذا القانون الجنسية للمولودين لمواطن فرنسي، سواء كان أبًا أو أمًّا، أو أن يكون أحد الوالدين وُلِد في فرنسا أيضًا. ونتيجة لذلك، يجب على المولودين في فرنسا من أباء أجانب، أن ينتظروا حتى يبلغوا الثامنة عشرة للحصول على الجنسية الفرنسية تلقائيًّا، أو تقديم طلب عند الثالثة عشرة.
أيرلندا آخر دولة من الاتحاد الأوروبي تُلغي التجنيس بالولادة عام 2005. في استفتاء لأعضاء البرلمان، صوَّت 80% لإلغاء هذا الحق وجعله قاصرًا على أولئك المولودين وأحد آبائهم إيرلندي.
يمكن فهم تركُّز هذه السياسة في الجزء الغربي من العالم بسبب الاستعمار عادة، حيث استعمرت الدول الأوروبية الأمريكتين، فلجأ عدد منهم إلى وضع قوانين سهلة في ما يخص الجنسية من أجل نمو الدولة الوليدة وجذب المهاجرين، ومن ثَم زيادة السكان، للمساعدة في الحروب المستمرة، وبخاصة ضد السكان الأصليين والتغلب عليهم. كانت هذه الطريقة فعالة لبناء سلطة قوية.
اقرأ أيضًا: الحلم الأمريكي كابوس أوروبي: القارة العجوز تخشى شباب المهاجرين
بداية حق التجنيس بالولادة في الولايات المتحدة
في العقود التي سبقت الحرب الأهلية الأمريكية، اعتقد العبيد أن التجنيس بالولادة فقط هو الحماية التي يحتاجونها حقًّا. آمن الأمريكيون السود الأحرار بأنهم مواطنون أمريكيون شرعيون بحكم أنهم ولدوا على الأرض الأمريكية.
كان القرار في قضية «دريد سكوت» من أسوأ القرارات في التاريخ الأمريكي، فقد نص على أن الأمريكيين الأفارقة ليسوا من مواطني الولايات المتحدة.
ظهرت إلى الفضاء العام قضية «دريد سكوت ضد ساندفورد»، ما زعزع هذا الإيمان، ليكتشف الأمريكان الأفارقة أنهم ليسوا أمريكيين بالفعل. مثَّلت هذه القضية في ما بعد جزءًا من بداية التجنيس بالولادة في الولايات المتحدة.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتكون من 11 ولاية جنوبية تبيح العبودية و11 ولاية شمالية تحرمها.
«دريد سكوت» كان أحد العبيد الأمريكيين الأفارقة. اشتراه سيده من ولاية ميسوري التي تعترف بالعبودية، وأخذه إلى ولاية إلينوي التي تحرم العبودية، وعاش دريد مع سيده فترة طويلة.
عندما اكتُشِف أمر سيده أمره الجيش الأمريكي بأن يعود إلى ولاية ميسوري لأنه على أرض تُحرم العبودية.
عاد الرجل ورافقه سكوت، وهناك مات السيد عام 1843. بعدها حاول سكوت شراء حريته من أرملة سيده التي رفضت البيع.
في 1846، وبمساعدة مجموعة من المحامين المناهضين للعبودية، قدم سكوت إلى محكمة ولاية ميسوري دعوى فردية مطالبًا بحريته، على أساس أن إقامته على أرض حرة في ولاية حرة حررته من روابط العبودية.
استغرقت هذه القضية سنوات لصدور حكم فيها. في 1850، أعلنت محكمة الولاية أن سكوت حر، لكن المحكمة العليا في ميسوري أبطلت هذا الحكم عام 1852. غادرت الأرملة وأعطت السيطرة على ممتلكات زوجها إلى شقيقها «جون إف آي سانفورد». ولأن سانفورد لم يكن من سكان ميسوري، رفع محامو سكوت دعوى قضائية ضده في المحكمة الفيدرالية في الولايات المتحدة. وصلت القضية في النهاية إلى المحكمة العليا، وأعلنت قرارها في مارس 1857.
كان من أسوأ القرارات في التاريخ الأمريكي على الاطلاق، فقد نص على أن الأمريكيين الأفارقة ليسوا من مواطني الولايات المتحدة، ولذلك ليس لديهم الحق في رفع دعاوى في المحاكم الفدرالية. وصفت المحكمة السود أيضًا بأنهم كائنات أقل شأنًا وغير صالحين للتواصل والارتباط بالعرق الأبيض، سواءً في العلاقات الاجتماعية أو السياسية، ولذلك هم أدنى من أن يكون لهم حقوق يحترمها الرجل الأبيض ويعترف بها، ويقتصر التعامل معهم على أنهم «ملكية».
التعديل الرابع عشر
كان هذا القرار صادمًا بالنسبة إلى العبيد في أمريكا الذين بلغ عددهم وقتها أربعة ملايين. وأثر أيضًا في الأحرار الأفارقة الأمريكيين، مثَّل هذا الإعلان عودةً في التاريخ، إذ تجاهلت المحكمة حقيقة أن السود من غير العبيد أحرار، ولهم الحق في التصويت في خمس ولايات أصلية أمريكية بحسب إعلان الاستقلال عام 1776، لكن وضحت المحكمة صراحةً أن الحكومة الجديدة لم تُنشأ لحمايتهم أو لصالحهم.
رغم أن سكوت تمكَّن من شراء حريته من مالكه الجديد عام 1857 وتوفي في العام التالي، فإن حكم المحكمة العليا كان بمثابة وقود الحرب الأهلية التي اندلعت بين الولايات الشمالية والجنوبية عام 1861، والتي استمرت أربعة سنوات، وأهم ما نتج عنها هو التعديل الدستوري الذي ينص على أن السكان السود، وكل من يولد على أراضي الولايات المتحدة، مواطنون أمريكيون لهم كل الحقوق وعليهم نفس واجبات الرجل الأبيض.
كان الهدف من التعديل الذي صُدِّق عليه عام 1868، في الأساس، إلغاء حكم المحكمة العليا الصادر في 1857 بقضية دريد سكوت ضد ساندفورد، والتي قضت بأنه لا يمكن لأي أمريكي إفريقي أن يصبح مواطنًا أمريكيًّا، بغض النظر عن مولده. فمن دون ضمان الجنسية، افتقر الأمريكيون السود إلى حقوق واضحة لامتلاك العقارات أو التحرك بحرية أو حتى البقاء في الولايات المتحدة. التعديل الرابع عشر هو الذي أعطاهم موقعًا قانونيًّا آمنًا في الولايات المتحدة لأول مرة.