مرة أخرى تخبرنا أفلام الخيال العلمي أنها ليست محض خيال لن يتحقق، بل رؤية مستقبلية لما سيحدث لاحقًا. عُرض في العام 2016 فيلم «Arrival»، الذي تلعب فيه الممثلة «إيمي آدامز» دور عالمة لغة تحاول فك شفرة لغة غريبة لكائنات فضائية، لتكتشف قرب نهاية الفيلم أن هذه اللغة تتيح لها التحرك في الزمن ورؤية المستقبل، ثم تذكر إحدى شخصيات الفيلم أن «تعلُّم لغة جديدة يعيد برمجة دماغك».
ربما يكون «Arrival» مجرد فيلم، لكن العلاقة بين اللغة وتصورنا للزمن أصبحت مؤكدة، بحسب دراسة جديدة أشار إليها موقع «Business Insider»، وجدت أن الأشخاص الذين يتحدثون لغتين لديهم تقدير مختلف للزمن.
رحلة في الزمن
توصلت الدراسة إلى أن الذين يتحدثون أكثر من لغة يفكرون بطريقة مختلفة في مفهوم الزمن، ويعتمد تفكيرهم المختلف هذا على اللغة الجديدة التي اكتسبوها، لكن ليس إلى حد رؤية المستقبل مثلما حدث في الفيلم بالطبع. وبحسب المقال، تقدم هذه الدراسة أدلة على ارتباط القدرة على تحدث أكثر من لغة بالمرونة في الإدراك والتصور.
أظهرت الأبحاث السابقة أن مَن يتحدثون أكثر من لغة ينتقلون في تفكيرهم بين اللغات بصورة سريعة وغير واعية، وهي الظاهرة المعروفة باسم «Code-switching»، لكن هذه القدرة على الانتقال بين اللغات ظلت غامضة بالنسبة إلى الباحثين، لأن اللغات المختلفة ترتب العالم أحيانًا بطرق مختلفة.
قد يهمك أيضًا: كيف تموت اللغة؟
الزمن دائمًا من الأشياء العصية على تطويعها داخل مفردات اللغة، لأنه شيء غير ملموس، ولهذا نلجأ عادة إلى استخدام مفردات أخرى نستطيع الشعور بها للتعبير عن الزمن. في اللغة السويدية مثلًا، تُستخدم كلمة «Framtid» بمعنى «المستقبل»، وتعني هذه الكلمة حرفيًّا «الزمن الأمامي»، كما لو كان الزمن يحتل موقعًا في المكان أمامنا.
نستخدم تعبيرات مشابهة كذلك في العربية والإنجليزية للتعبير عن الزمن باصطلاحات المكان، فنقول «المستقبل يمتد أمامنا، والماضي ألقينا به خلفنا». لكن الآية تنقلب في لغة «الإيمارا» المستخدمة في بيرو، فيصبح النظر إلى الأمام إشارةً إلى الماضي، أما المستقبل في هذه اللغة فيُعبَّر عنه بلفظ «Qhipuru»، وتعني حرفيًّا «الزمن بالخلف»، وهكذا أصبح المستقبل في «الخلف».
هناك منطق وراء اختيار هذا اللفظ، بحسب المقال، هو أننا لا نستطيع رؤية ما وراءنا، وهكذا المستقبل، لا نستطيع أن نراه، أما الماضي فقد شاهدناه بالفعل، وهكذا يصلح أن نقول إنه أمامنا، لأننا نستطيع رؤيته.
الزمن الأفقي والزمن الرأسي
تعكس تفصيلة اختلاف تناول الزمن في اللغة في الثقافة على طريقة التصرف.
يتحول الأمر إلى المنظور الرأسي في لغة «الماندرين» المستخدمة في الصين، إذ يستخدمون لفظ «Xià» الذي يعني «أسفل» للتعبير عن الأحداث المستقبلية، فيقولون «الأسبوع بالأسفل» للدلالة على الأسبوع القادم، وفي المقابل يُستخدم لفظ «Shàng»، الذي يعني «أعلى»، للإشارة إلى الماضي، وهكذا يقول متحدثو الماندرين «الأسبوع بالأعلى» بمعنى الأسبوع الماضي.
قد يعجبك أيضًا: كيف يمكننا التلاعب بسرعة الزمن؟
في تجربة طريفة يشير إليها المقال، طُلب من أفراد يتحدثون اللغتين الإنجليزية والصينية ترتيب مجموعة صور للممثلين الأمريكي «براد بت» والصيني «جيت لي» من الأصغر سنًّا إلى الأكبر.
كانت النتيجة أنهم رتبوا صور براد بت أفقيًّا من اليسار إلى اليمين، بحيث تكون الصورة الأصغر سنًّا أقصى اليسار والأكبر أقصى اليمين، لكنهم رتبوا صور الصيني جيت لي رأسيًّا، فجعلوا الصورة الأصغر سنَّا في الأعلى والأكبر في الأسفل. وهكذا يبدو أن هذه التفصيلة الثقافية الصغيرة تنعكس أيضًا على طريقة التصرف.
قدرات لغوية خاصة
يتميز مزدوجو اللغة فكريًّا، فيتجاوبون مع التغير في المفردات المختلفة وينتقلون بينها بسهولة.
قدَّرت الدراسة التي يشير إليها المقال أن مَن يتحدثون لغتين يتأثرون نفسيًّا وجسمانيًّا بهذا الأمر، إذ يتغير تقديرهم للزمن بناءً على اللغة التي يتعاملون بها.
على سبيل المثال، متحدثو الإنجليزية والسويدية يفضلون استخدام المسافات لتقدير الزمن، كأن يقولوا «فاصل قصير» و«مدة طويلة»، فيما يستخدم متحدثو اليونانية والإسبانية الكميات وليس المسافات، فيقولون «فاصل صغير» و«مدة كبيرة».
السبب أن متحدثي الإنجليزية والسويدية يتعاملون مع الزمن بشكل خطِّي أفقي، ولهذا يعبِّرون عنه باستخدام المسافات، بينما يرى متحدثون الإسبانية واليونانية الزمن في صورة كَمٍّ، ولهذا يعبِّرون عنه باستخدام الكميات.
أما من يجمعون بين اللغتين الإسبانية والسويدية، فيتغير رد فعلهم بناءً على الكلمة التي تُستخدم للتعبير عن الوقت، فإذا استُخدمت الكلمة السويدية «Tid» يقدرون الزمن بشكل طولي، وفي حالة استخدام الكلمة الإسبانية «Duración» يقدرونه وفقًا للحجم.
هكذا يبدو أننا بتعلم لغة جديدة ندرك أبعادًا أخرى لم نجربها من قبل.
اقرأ أيضًا: المؤنث: رهين رواية ضلع آدم
يعتبر كاتب المقال قدرة أصحاب اللغتين على الانتقال التلقائي بين هذه الأبعاد إشارةً جديدةً إلى الارتباط الذي أظهرته دراسات سابقة عن تعلم اللغات الجديدة، إذ تؤدي إلى عدة تغييرات تمس جوانب نفسية وجسمانية، مثل التغير في العواطف والقدرة على الإبصار، وبحسب هذه الدراسة الأخيرة، الإحساس بالزمن.
يعكس هذا تميز الأشخاص مزدوجي اللغة فكريًّا، إذ يتجاوبون يوميًّا مع التغير في المفردات المختلفة وينتقلون بينها بسهولة، ممَّا يشير إلى قدرتهم على تنفيذ عدة مهام في آنٍ واحد.
ربما لم يتأخر الوقت لتعلم لغة جديدة، وبالطبع لن تصل بنا هذه اللغة إلى رؤية المستقبل كما في فيلم «Arrival»، لكنها ستمنحنا رؤية مختلفة للعالم من حولنا.