البداوة؟ تلك الصورة النمطية الرتيبة عن الجمال والخيام والكثبان الرملية اللامتناهية وصوت الناي التعيس. لن يكون هذا المقال بحثًا ميدانيًا أنثروبولوجيًا أو جولة جديدة من الكراهية بين عرب الماء وعرب الصحراء، بل محاولة لرؤية هويتي التي لم أخترها، بعيدًا عن طريق التمجيد والتفاخر والعصبية أو طريق كراهية الذات والاستشراق المعكوس. هي محاولة لفهم حتمية وصمي بهوية ما، وعلاقتي بهذه الهوية، وارتباطات هذه الهوية، وما ينطوي عليها من علاقات قوة وتراتبيات. لا يمكن أن نعزل الهويات في عصرنا الحديث عن واقعها، ولا أن نراها كحتميات تاريخية وخصوصيات مستمرة، بل أن نرى ما تعنيه للدولة وللمجتمع.
تصورات مبدئية
لطالما كانت النظرة إلى البداوة بنظارة المستشرق والمعتمد الاستعماري، ونجد هذا جليًا في النخب العربية التي عاملت البداوة كمرادف لصفات الهمجية والبدائية. ولطبيعة الإنتاج المعرفي والفني في المنطقة المتركز في القاهرة وبيروت أو سيطرة نخب المشرق على المشهد، من الصعوبة أن أراجع وأحاكم هذا الخطاب، فكانت كراهية الذات والمحيط الاجتماعي والموروث الثقافي وما يتصل به تثير الاشمئزاز أو النفور في تلك المرحلة.
الفيل في الغرفة
هل يمكننا أن نرى الهويات كمُركب ما فوق تاريخي لا يتأثر بحركة التاريخ؟ كنت أعتقد أننا كبدو انتقلنا فجأة من مكان ما في الصحراء إلى المدينة، وأن ما نراه ما هو إلا استمرارية لجوهرانية ما بشكل آخر، بداوة مع هياكل إسمنتية بدل الخيام، وسيارات بدل الجمال، ووظائف عسكرية بدل الرعي والحرب. أو هذا ما يوحي به الخطاب السائد من طرفي الاستقطاب، فنحن إما بدو متخلفون لم نعرف سوى قشور الحضارة، أو أننا نفتخر ببداوتنا من هوامش الصحاري حتى الريادة العالمية، وهذا الاستقطاب ينعكس على تعريفنا لهوياتنا وطرق التعبير عنها.
لكن هل التغير الذي يشتمل على حركة كثيفة من التمدن والتنمية وظهور لكيان تاريخي كالدولة الحديثة بديلًا عن التنظيمات الاجتماعية، مجرد قشرة لحضارة أو مجرد أداة لاستمراريتها وديمومتها؟
تسمية ما لا اسم له
هل يمكن أن تسمية الهوية البدوية بهذا الاسم وجعلها هوية، أعطاها معنى ووظيفة في البناء الاجتماعي والتراتبيات السياسية؟
البداوة كما نعرفها هي تكيف بيئي للإنسان ينطوي على تنقلات موسمية واقتصاد يعتمد على الرعي والتبادل. لم يكن بدوي الأمس يرى نفسه بدويًا، فهو ينتمي للصحراء وينتمي للقبيلة الفلانية، لكن ما يجعل عصرنا مميزًا هو قدرته على تذويت الإنسان، بمجرد تسمية شيء أو ظاهرة باسم ما يصبح الشيء جزءًا من الذات، وبمجرد تسميته يتحول لمجال لسيطرة الدولة الحديثة عليه وإعادة هيكلته وإنتاجه لصالح برامجها التنموية.
لا يمكننا أن نعزل البداوة عن الدولة الحديثة ورغبة الحداثة المتأصلة للتسمية والتنصيف والتقسيم، فهناك شقان: الشق الأول هو المعرفة، معرفتنا عن الهوية البدوية أو الهوية أو البداوة بهذا الشكل الحديث، ولها مصادر تنتجها وتحتكرها كالاستشراق والخطاب الرسمي الإعلامي والأكاديميا ودور المؤسسات العسكرية في مَعْيَرَة البدوي.
اما الشق الثاني فهو المصادر المتمثلة في هذه المعرفة بالواقع، وأيضًا تتسم بالاحتكار، وهي المهرجانات الشعرية والتراثية المرعية رسميًا، وسياسات الهوية التي تنتهجها الدولة في النظام الانتخابي والتخطيط العمراني وشبكات توزيع الريع كشيوخ القبائل والوظائف العسكرية وخلق حوافز لتمثلات محددة ومفيدة من البداوة.
إنتاج البدوي الجديد
ماذا يعني لي أن أكون بدويًا؟ الهوية البدوية كما أراها هوية وبناء اجتماعي ونص يُعاد تغييره في كل مرة بالحوافز الاقتصادية والرمزية، كما يحدث في الوظائف العسكرية وربط التمثيل السياسي بالاجتماعي، وتغيير حدود الروايات الرسمية وما يجب أن يظهر ويُخفى.
هذا نراه جليًا في المهرجانات الشعرية والمتاحف والفعاليات التراثية، وأيضًا في فرض ارتباطات الفرد عن طريق التخطيط العمراني، وتقسيم الأفراد من حيث استحقاقهم للحقوق، وتنمية الوسطاء الاجتماعيين بين الدولة والفرد وتعزيز حظوتهم، وأداء نمارسه في يومنا على مسرح المجتمع، فهناك اتباع التضامنية الاجتماعية والالتزام بتناغمها.
رأيت ذلك وكنت جزءًا منه، من تحزبات الأطفال في المدرسة بكل بساطتها حتى النشاط السياسي والنقابي في الانتخابات البرلمانية والنقابية والطلابية، وفي التطلعات المهنية كذلك، فهناك شوق مذهل للوظائف العسكرية والنجوم على الأكتاف حتى أصبح معيار فروسيتك أن تدخل السلك العسكري، وهناك أيضًا ما تنطوي عليه مهرجانات التراث ومزاين الإبل والشعر النبطي.
في ما ذكرته حوافز كالفرص الوظيفية المجزية والتضامن الانتخابي وربط التمثيل السياسي بالاجتماعي وربطها بالرجولة وما تنطوي عليه من رأسمال رمزي، أو بفرض الإطار الذي يمكن من خلاله التعبير عن هذه الهوية وأدائها من خلال سياسات الهوية الرسمية. تولد هذه الهوية من عدم، وتصبح علاقة الماضي بالحاضر علاقة واهية، لا يمكننا أن نحدد ما الطبيعي والتاريخي وما المصطنع في هذه الهوية لتشابكاتها وتحوراتها، لكن ما يمكننا أن نحدده مجرد صلات هذه الهوية مع واقعنا المعاش.
البدوي الجديد لم يكن فشلًا للدولة الحديثة، أو مجرد أثر جانبي لسياسات تنمية محافظة وغير متساوية، بل تحولت التضامنيات إلى وسيلة لإدارة المجتمع وتناقضاته. فمع وجود المجتمع وقواه بانعدام وسائل تعبيره وتنظيمه من جهة، ووجود شبكات توزيع للريع النفطي من خلال برامج التوظيف وسياسات الهوية التي تحتكر المعرفة وتعيد صياغة الهويات من جهة أخرى، تتحول المجموعات الاجتماعية والمناطقية إلى كيانات رسمية تُدار جموعها من خارجها، وتُسلب قواها الذاتية لصالح تراتبيات ما.
بين الذاتي والموضوعي
بوجود هذه الهوية التي تحدَّد حدودها من خلال العنف المنظم وهندسة وجود الفرد والمجموعة والامتيازات الاقتصادية والرمزية التي تديم هذه الترتيبات، ينشأ صراع على مستويين ذاتي وجمعي للمساومة على حدود هذه الهوية وما يترتب عليها، كتأكيد الأصالة وتسييس الهوية أو محاولة الانعتاق منها.
لكن ما أريد أن أركز عليه هو صراعي الذاتي مع الهوية البدوية، لأركز على تقاطع الخاص مع العام وصراع الأجيال الجديدة مع الأفكار القديمة، بتغيير الشبكات الاجتماعية من الديوانيات والمجالس والروابط العائلية الممتدة خارج العائلة النووية، نحو عالم التواصل الاجتماعي وما ينطوي عليه هذا الانتقال التقني من إعادة إنتاج لطرق التواصل الاجتماعي وعولمة للأفكار وتحول «سسيواقتصادي» نحو الاستهلاك والعائلة النووية والغرق في الفردانية كنزعة وأسلوب حياة.
يتصادم الجيل الجديد ببطء مع الهوية البدوية، فأنا وجيلي لم تتغذى ذاكرتنا بالعصبية، وليست لدينا ذاكرة حية عن ما قبل المدينة أو الترابط الاجتماعي، ولم نجد القبيلة ذات صلة بواقعنا بما فيه الكفاية، ومع هذا نجد هذه الهوية تُفرض علينا كحدود للتفاعل الإنساني مع السياسة والاقتصاد والمجتمع والذات.
إن ما يجعل نضوجي يختمر كفرد، مثل التعليم والمحيط الحضري والنشاط المدني والعقلية الرسمية التي تتعامل مع وجودي بمنطق الانتماء الاجتماعي لا المواطنة، أن هناك شبكة اجتماعية وسياسية وخدمية واسعة من الانتظارات والامتيازات التي تريدني أن أكون ذاك البدوي، وعصر تتسيل فيه المؤسسات الاجتماعية وتتقطع فيه الروابط التي تجعل الهويات ممكنة وذات صلة.
قفص الهوية
كيف يمكنني أن أصف تفاعلي مع هويتي؟ قفص من الانتظارات والإطارات التي تسيطر على ذاتك وتفاعلك وعلاقاتك مع المؤسسات والحياة العامة والهويات الأخرى، قهر رمزي يفرض عليك جوهرًا ثابتًا وساكنًا يجب أن تمثله، وتكليفًا رمزيًا بأن تكون خزان الأصالة والاستمرارية التاريخية لجوهرانية الصحراء، وأن تُعظم أصالتك وسكونك التاريخي.
هذه الهوية المصطنعة تحمل مفارقة أن المصطنع فيها ينزلق لأن يكون طبيعيًا وتاريخيًا وجوهرانيًا. ذاتيًا أي محاولة للفكاك منها أو نقدها تتحول إلى مقاومة لروابطك ومحيطك وكراهية لذاتك وقبيلتك، وأي محاولة لاستعادة فاعليتك كفرد تحت إطار الهوية البدوية تتحول من محاولة للمقاومة إلى عزل اختياري للفرد عن المجتمع الأكبر، وخدمة مجانية للنظام الاجتماعي ذاته. وموضوعيًا في نظام اجتماعي سياسي ترتبط فيه مواطنتك وحقوقك ونشاطك اليومي في المجتمع بانتمائك وحظوتك الاجتماعية.
هنا الهوية تُفرض عليك بالعنف الرمزي والاقتصادي والإداري، ربما لا أراها ذات علاقة بي أو غير ذات صلة أو حتى أعترف بها، لكن لا كهوية أولى لي أو أعترف بها بشكل كامل، لا تهم موافقتي وإقراري بها، سيرونني بناء على هذه الهوية، دون أي أهمية لإقراري من عدمه. لا أعلم كيف يمكنني أن أخرج، لكن يبدو هذا البناء الاجتماعي كمتاهة تستعصي عليّ كفرد أن أنظر لما بعدها، أي استراتيجية للتعامل مع الهوية قبولًا أو رفضًا أو مساومة تعد انتصارًا للنظام الاجتماعي والتراتبيات وعلاقات القوة التي تحكمه.
ما الذي يجب أن نشير إليه؟
الهويات متغيرة، وربما تبدو جوهرانية وطبيعية، إلا أنها بناء اجتماعي مصطنع، لا يمكنني أن أحدد فيه ما التاريخي وما الحديث، لكن الواضح أمامنا وما يجب أن نؤكده أنها بناء صاغته الحداثة وبرامج التنمية، وأنها ذات وظيفة في المجتمع الحديث هذا. لم يعد التاريخي ذو أهمية أو ما يجب أن يتركز عليه نقاشنا، بل الحديث في الهوية البدوية التي تكتسي منظر الماضي وهي نتاج الحاضر. يجب أن نشير إلى أن الهويات موضوع جديد للمعرفة، ومنتج فريد من منتجات الحداثة، وأن المعرفة الحديثة توأم السلطة. يجب أن نتعامل بتبصر مع هوياتنا وأدوارها وإطاراتها وشروطها ونقائضها، وألا نسلم بها.
يجب أن نشير أيضًا إلى أن الهويات لا تحمل صورًا ساكنة، فما نتحدث عنه الآن قد لا يكون ذا صلة بعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن، جميع الاحتمالات مفتوحة لأي خيار ونتيجة، لكن ما يجب أن نسأله: ما دورنا كأفراد في عصر حديث ينزلق فيه المصطنع والحديث إلى الطبيعي والتاريخي، ومؤثرات خارجية تؤثر وتهندس معرفتنا عن وجودنا وذواتنا وتوجهها وتضع حدودها؟ ما يجب أن نؤكده هو فاعليتنا كأفراد، وأن نعي الهويات وعلاقتها الجدلية مع ذواتنا والسلطة والواقع المعاش، وأن نتوجه في سياساتنا الهوياتية نحو الملموس والكلي وما يخدم وجودنا واندماجنا بمجتمعاتنا الإنسانية. الهوية وتعريفنا لذواتنا كأفراد هي البنية التحتية للتنظيم الاجتماعي والحريات والمجتمع الحديث، ويجب أن نقود هوياتنا إلى الملموس نحو الطبقي والوطني والقومي والعالمي.