ما الذي حصل بين حادث انتحار الطفل علي أواخر فبراير 2021 وحادث الرجل الستيني في الثامن من يونيو 2021؟ سؤال مهم في ظل توالي قصص الانتحار التي يروح ضحيتها أبناء ينتمون لأجيال مختلفة من البدون.
في بحثنا عن دراسات حول ظاهرة الانتحار لدى البدون في الكويت، لم نوفق للوصول إلى بحوث متخصصة، لكن كلمة الانتحار تظهر في بحث لـ«آمي دون طومسون» أجري عام 2020، في معرض الإشارة إلى أن أكثر من 10% (نحو 100 ألف شخص) من سكان الكويت عديمي الجنسية.
لم تفلح الكويت منذ عام 2000 في تقديم حلول حقيقية لهذه الأزمة، والنتيجة هي استبعاد البدون من الوصول إلى أراضي ورفاهية الدولة، وخضوعهم للفقر، الأمر الذي دفع العديد منهم إلى الهجرة من الكويت، أو بدلًا من ذلك التحول إلى المقاومة عبر الاحتجاجات المحدودة والانتحار السياسي.
بحسب الدكتور فخري الدباغ مؤسس وحدة العلاج النفسي في الموصل العراقية، فإن القرن العشرين أبرز الانتحار السياسي، وهو انتحار يعبر عن «وضع سياسي»، أي تحركه ظروف سياسية، بينما يستخدم لغة الانتحار الاعتيادي ومعانيه.
وهكذا فإننا نرى الأمواج مجازًا للممارسات السياسية التي تستمر في اختطاف وتغييب غير محددي الجنسية.
الانتحار كمؤامرة
هناك أمثلة عديدة حول الانتحار الذي يعد بمثابة رمز للاحتجاج السياسي. ففي كوريا الجنوبية، وتحديدًا في السبعينيات والثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدأ هذا الاتجاه نحو الموت الطوعي بدوافع انتحارية كشكل من أشكال الاحتجاج المناهض للحكومة.
لكن هذه الأمثلة لا ينبغي أن تجعلنا نفكر في الانتحار كوسيلة واعية للمقاومة السياسية بالضرورة، بل أن جوهر هذه الرغبة وآليتها النفسية تتركز على جوانب يرى الدباغ أنها تمثل عملية إفناء رمزي للمعتدي، وانتقام رمزي معكوس، أي عملية تهييج لضمير غير المعتدي الذي لم يدرك بكل الوسائل الممكنة أنه فصم أواصر المودة والتعاطف بالقسوة، وعملية إيثار من أجل الجماعة ورغبة في منحها قوة للاستمرار في العيش.
إلا أنه ورغم قسوة تكرار قصص انتحار البدون في الكويت، فصوت الشعور بالمؤامرة المنظمة ما زال حاضرًا في مشهد التفاعل مع أخبار هذه القصص. وهو الأمر الذي يخبرنا التاريخ والدراسات الاجتماعية أنه ليس حديثًا أيضًا، إذ لطالما أَفرغتْ رواية من يؤمنون بالمؤمراة الشخص الذي ينتحر سياسيًا من المشاعر والأفكار، وصورته على أنه عامل سلبي يريد أن يموت فقط. ومن شأن هذا أن يزودنا بالمنطق الداخلي السيكوباثي لهؤلاء، الذين يصنفون المنتحرين سياسيًا على أنهم مغفلين ولا يبذلون جهدًا في فحص سلوكهم هذا كفعل سياسي. وفي أحيان أخرى يُعامَل الانتحار السياسي على أنه ناتج عن سمات ذهانية واضطرابات نفسية، وبالتالي تُستبعد سياسية هذا الانتحار، وبطبيعة الحال يستمر تجاهل وتهميش الصفة السياسية للبدون.
إلا أن هنالك مشكلة أخرى تظهر هنا مع أيقنة الانتحار وتطبيعه، واعتباره الملجأ الأخير للبدون في الكويت. وفي هذا مأزق اعتبار الموت حلًا للمأساة من ناحية، ودعوة للفناء الجماعي دلالة على عجز المنظومة في إيجاد حلول جذرية أو إمكانية تحقيق هذه الحلول على أرض الواقع.
ما الذي يهمنا حول سياسية الانتحار؟
في كتابه الأشهر «الانتحار»، يقول الفيلسوف الفرنسي «إميل دوركايم» في فحص علاقته بالعوامل الاجتماعية إن المعدل الاجتماعي للانتحارات لا يجد تفسيره إلا سوسيولوجيًا، فبنية المجتمع هي التي تحدد القسط العددي لما أسماه «الموتى الإراديين» مع ارتباكنا إزاء هذه التسمية. المهم في ما يقوله هو أن الانتحار ظاهرة اجتماعية تعكس من خلالها الجماعة المنتحرة ما يحدث بالفعل داخل هذا المجتمع.
الجهاز المركزي يلعب الدور الأكبر في تطبيق سياسات التضييق التي تعطل الحياة الطبيعية للفرد البدون، مدعومًا بتوجيهات نيابية تارة والتكسب السياسي تارة أخرى.
يكون الاعتراف بسياسية الانتحار في هذه الحالة وصولًا إلى السياسات التي تفرضها السلطة في الكويت على عديمي الجنسية، والتي تؤدي قسرًا إلى الموت. وبمتابعة صحيفة «بلاتفورم»، منصة صوت البدون، وحسب الكاتب أحمد السويط، نجد إشارات صريحة حول هذه السياسات الممنهجة ومنها الحرمان من التعليم بهدف التجهيل والإفقار، والقيود الأمنية والملاحقات والاعتقالات منذ بداية الحراك السلمي للبدون عام 2011. وإضافة لهذه السلطة المفروضة على الوجود المادي للبدون، فهناك جملة من الضغوط النفسية التي ينشأ عليها الشخص البدون منذ طفولته.
يقرأ السويط انتحار كل من عايد مدعث وعادل العصيمي وبدر مرسال وطلال الخليفي بالشنق أو إشعال النار في أجسادهم، في سياق الانتحار السياسي الناتج عن تعامل السلطة السياسية التي مارست عليهم التهميش والتضييق.
أما من يطبق هذه السياسات ويشرف عليها، فالجهاز المركزي يلعب الدور الأكبر في تطبيق سياسات التضييق وإصدار القرارات الخانقة التي تعطل الحياة الطبيعية للفرد البدون، مدعومًا بتوجيهات نيابية تارة والتكسب السياسي تارة أخرى.
«أن تكون بدون في الكويت أفضل من أن تعيش مواطنًا في أي دولة في العالم»، هذا ما قاله رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم في حملته الانتخابية، معتبرًا أن كل ما يواجهه البدون مميزات يحصل عليها شخص مقيم بصورة غير قانونية. اقترح الغانم قانونًا لحل قضية البدون، احتوى في بعض مواده على نفس السياسات التي يعتمدها الجهاز المركزي، وأهمها إلزام البدون بإظهار جنسيته الأصلية، أو ما يقال باللهجة الكويتية: «صبه، حقنه.. لِبن».
تسييس الموت والحياة
الحل ليس بالتضامن الإنساني مع حالات البدون، فرغم أهمية هذا يظل محدودًا ومؤقتًا، بل ينبغي أن يكون الحل سياسيًا، خصوصًا أن المشكلة في جوهرها سياسية ولا تعدو عرضًا للموقف السياسي المأزوم في الكويت، وعدم القدرة على المشاركة الشعبية الفاعلة في تحديد اتجاهات السلطة بدلًا من تركزها الفئوي الحالي وتوحشها، لأنها تعرف أنها لن تتعرض لأي رقابة أو محاسبة.
هذا الموت احتجاج على هذه الحياة.
يقترح البعض أن يقطع مجلس الأمة الكويتي تمويل الجهاز الإداري ويرفض ميزانيته، ففشل أي جهاز إداري في الدولة في تحقيق هدفه، مهما كان، يستدعي إعادة النظر في وجوده واستنزافه لميزانية الدولة، فما بالك بجهاز لم يحل القضية بل وعقدها أكثر.
ياسين الحاج صالح، وإن كان في سياق آخر إلا أنه سياق متقاطع مع أهمية تسييس حالات انتحار البدون وإصرارنا على التغيير الجذري، يبدأ في إدراك الصفة السياسية لانتحار البدون: «جروحنا سياسية من حيث السبب، ومن حيث المسبب، ومن حيث كوننا نحن المجروحين سياسيين بصورة ما. سياسيون دون رغبتنا، وربما رغمًا عنا، لكننا سياسيون بلا مهرب. السياسة التي لم يهتم بها أكثرنا اهتمت بنا كلنا».
ليس هذا الموت الحقيقي لا المجازي إلا نتاج أوضاع سياسية قاتلة، هذا الموت احتجاج على هذه الحياة.