عمالة الأطفال ظاهرة تعاني منها المجتمعات في جميع أنحاء العالم، لكنها تختلف بنسبة انتشارها من مجتمع للآخر باختلاف ظروف الأطفال وأسرهم، والعوامل الاجتماعية والبيئية والاقتصادية لهذه المجتمعات.
بحسب منظمة العمل الدولية، هناك 1 من كل 10 أطفال في سوق العمل حول العالم، إذ يبلغ عددهم 218 مليونًا، في حين أن 152 مليونًا منهم عمالة أطفال، و73 مليونًا منهم يعملون في ظروف خطرة.
من الطبيعي والمنطقي أن لكل مشكلة جذور أدت إلى أن تنمو تدريجيًا حتى تصبح ظاهرة منتشرة، ولكل مشكلة أسباب وعوامل من الممكن أن تكون طبيعية أو مفتعلة. ومن هذه الأسباب: الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والجفاف، إذ يفقد السكان منازلهم وأعمالهم ويضطر كل فرد من الأسرة للعمل. وتزايد عدد النازحين واللاجئين نتيجة الحروب والنزاعات خصوصًا في العقد الأخير. والعنصرية وسوء المعاملة التي يواجهها أطفال الأقليات العرقية أو الإثنية، مما يؤدي إلى صعوبة اندماجهم في المدرسة والمجتمع على حد سواء، فيلجأ بعضهم للعمل وترك الدراسة. وصعوبة التحصيل العلمي نتيجة لارتفاع الرسوم الدراسية، فبالتالي يصير العمل مقدمًا على العلم، مما يخلق طفلًا جاهلًا بحقوقه بالضرورة، ويكون عرضة للاستغلال. والأزمات الاقتصادية التي تعاني منها بعض الدول، والتي تؤثر سلبًا على مدخول بعض الأسر، التي تضطر إلى أن تدفع أطفالها إلى العمل للمساعدة في مصروف الأسرة. فهل ينطبق هذا على الأطفال البدون؟
ما المقصود بعمالة الأطفال؟ وما هي مخاطرها وأشكالها؟
كيف لطفل لا يكاد يجيد الاعتناء بنفسه أن يتحمل مشقة وتعب لا يتحمله البالغون؟
هذه الأعمال بالضرورة تحرم الطفل من طفولته وتحط من كرامته وتحرمه من التعليم، أو تطلب منه تحمل عبء مزدوج متمثل في الدراسة والعمل، إضافة إلى مخاطر عديدة يتعرض لها إزاء وجوده كل هذه الفترات في الشارع، باعتباره بيئة غير ملائمة للصحة الجسدية والنفسية للطفل، لما يمكن أن يتعرض له من عنف بدني أو لفظي أو نفسي، وكذلك يمكن أن يكون أكثر عرضة للتحرش الجنسي، والتعرض للحوادث المرورية باحتمالية أكبر، ومواجهة مخاطر البيئة والتلوث، والتعرض بشكل مباشر للملوثات من أدخنة ونفايات.
تنقسم عمالة الأطفال حسب منظمة اليونيسيف ومنظمة العمل الدولية إلى عدة أشكال: العمل في ظروف خطرة، الخدمة في المنازل، عبودية الأطفال، الإتجار بالأطفال، عمل الأطفال في الأنشطة غير المشروعة، تشغيل الأطفال في الاقتصاد غير الرسمي، استخدام الأطفال لأغراض جنسية.
هنا نطرح سؤالًا مهمًا: كيف لطفل لا يكاد يجيد الاعتناء بنفسه أن يتحمل مشقة وتعب لا يتحمله البالغون؟
هذا النوع من العمل يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والتشريعات والاتفاقيات الدولية، متمثلة في اتفاقية منظمة العمل الدولية عام 1973، واتفاقية أسوأ أشكال عمل الأطفال عام 1999، واتفاقية منظمة الأمم المتحدة لحقوق الطفل عام 1989، والتي صادقت عليها دولة الكويت في 21 أكتوبر 1991. وتضم هذه الاتفاقيات موادًا تنص على حماية الأطفال من العمالة، وتحديد سن أدنى للعمل، وحماية الأطفال من كل أشكال الاستغلال.
وبمناسبة الحديث عن الاتفاقيات الدولية وحقيقة أن الكويت وقعت وصادقت على اتفاقية حقوق الطفل، فإن الجدير بالذكر أن المصادقة هي موافقة بالتزام الدول بشروط الاتفاقية. فقبل المصادقة والانضمام للاتفاقية تستعرض الدولة كل بنود المعاهدة لتحديد ما إذا كانت قوانينها الوطنية تتسق مع نصوص المعاهدة، وتنظر في الوسائل المناسبة التي تعزز الالتزام بالبنود.
بحسب ما ورد في بنود الاتفاقية، فإن المادة الثانية تنص على احترام جميع الدول الأطراف للحقوق الموضحة في الاتفاقية، وتضمنها لكل طفل يخضع لولايتها دون أي نوع من أنواع التمييز. تشير تقارير الكويت في ما يخص حقوق الطفل إلى أنها ملتزمة ببنود الاتفاقية، لكن هل يشمل هذا الالتزام حقوق جميع الأطفال على أرض الكويت، أم أنها معنية بالطفل الكويتي فقط؟
حقوق الأطفال: كل الأطفال
أطفال الشوارع من فئة عديمي الجنسية هي المشكلة الأكثر انتشارًا ووضوحًا في المجتمع الكويتي، بحيث تتقاطع كل العوامل المذكورة أعلاه مع حالة عديمي الجنسية في الكويت. صعوبة حصولهم على حقوقهم الأساسية مثل التعليم والعمل والرعاية الصحية والسكنية، وافتقارهم إلى الوثائق الرسمية، ومواجهتهم للتمييز بشكل دائم، وتدني مدخولهم المادي، كل ذلك يزيد من تعرض أطفالهم للعنف وسوء المعاملة والإتجار.
وعلى الرغم من تعدد هذه العوامل، فإن لها سببًا رئيسيًا واحدًا مهيمنًا هو الفقر، والحاجة الملحة إلى المادة لتأمين القوت اليومي وأساسيات الحياة.
الطفل عديم الجنسية الذي يجلس على رصيف يكاد ينصهر من شدة القيظ ليؤمّن قوت يومه ويسد حاجاته وحاجات عائلته، هذا الطفل في حد ذاته قضية لها خصوصيتها وأبعادها المختلفة عن قضية عمالة الأطفال بشكل عام في العالم كله.
يدفع أطفال عديمي الجنسية ثمن التضييق الذي تمارسه الحكومة الكويتية على فئة البدون ضعفَ الضعف، فبدلًا من أن يذهب طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره إلى المدرسة أو يمارس ما يمارسه أقرانه من نشاطات، تجده يعمل في حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية.
مارست السلطة وكل جهة مسؤولة في الكويت سياسة إفقار وعزل وتجهيل متعمدة وممنهجة إزاء فئة عديمي الجنسية، وتعسفت في قراراتها للضغط على هذه الفئة واستفزازها. هذا التعسف والتضييق لم يكن تخبطًا حكوميًا وقرارات عشوائية، بل هو مشروع مدروس ومخطط له، كما بينت الوثيقة التي سُميت سرية للغاية، والتي تعود إلى 29/12/1986، وتحوي أغلب القرارات التي تُطبَّق اليوم على فئة عديمي الجنسية.
مفاد هذا التضييق كله هو خلق فئة مُفقَرَة، والعمل في الشارع جزء لا يتجزأ من هويتها ووجودها، ابتداء باستثناء عديمي الجنسية من التعليم المجاني، ذلك الذي حرم أطفالًا كُثر من التعلم، ومرورًا بصعوبة تحصل ذويهم على وظائف تؤمن حياة كريمة لأطفالهم، وانتهاء بتراكم الممارسات التمييزية والتضييق الممنهج مع أسرة الطفل.
وكما جاء في وثيقة 86 وطُبّق بعد ذلك تدريجيًا، تحد الحكومة الكويتية من ارتياد عديمي الجنسية للمدارس الحكومية، لذلك يرتاد الطلاب عديمي الجنسية المدارس الخاصة العربية والتي تخدم بشكل خاص فئة البدون، وتبلغ مصروفاتها السنوية لكل طالب ما بين 250 إلى 450 دينارًا كويتيًا، وهذا ما يتكفل بسداده الصندوق الخيري الذي تديره الحكومة. لكن السياسات الحكومية استبعدت بعض الطلاب من الصندوق الخيري ممن ليست لديهم بطاقات أمنية سارية، أو أولئك الذين رسبوا في اختبارات السنوات الماضية.
إضافة إلى أن المدارس الخاصة العربية التي يرتادها عديمو الجنسية تعتمد على موارد ومعايير منخفضة جدًا، علاوة على أنها تفرض رسومًا تسمى بفرق الشريحة لكل طالب، ويتكفل الآباء بسدادها. ويتفاوت مبلغ فرق الشريحة بين 110 إلى 190 دينارًا بحسب المرحلة الدراسية، وهذا ما يتسبب في تعثر الكثير من الطلاب دراسيًا وتركهم لمقاعد المدرسة.
التعسف أيضًا في قبول أفراد من فئة عديمي الجنسية في الكثير من الوظائف الحكومية أو الخاصة، إما بسبب العوائق أمام الحصول على تعليم عالٍ أو لمحدودية وجود خبرة عملية أو الافتقار للوضع القانوني الملائم، كلها أسباب تحد من فرص عديمي الجنسية في سوق العمل، بالتالي يلجأ الكثيرون إلى الشارع والعمل كباعة متجولين هم وأطفالهم، كباب رزق أخير.
هل يقع الطفل ضحية استغلال أسرته؟
يمكن أن يقع ذلك، إذ تعمل هي الأخرى على استغلاله وإخراجه عمدًا إلى الشارع ليعمل بائعًا متجولًا، لما في ذلك من إثارة للشفقة وكسب للتعاطف، الذي قد يؤدي بدوره إلى بيع أفضل مما لو كان البائع رجلًا كبيرًا.
هذا الاستغلال الجائز حدوثه من أسرة الطفل لا يجعل أصابع الاتهام توجّه للأسرة وحدها، واعتبارها المذنب والمُنتهِك الوحيد لطفولة هذا الطفل، لأننا نجدها بشكل أو بآخر اضطرت إلى ذلك، ولم تعمل على استغلال أطفالها لمجرد الاستغلال، ولكنها استنفدت جميع السبل حتى وصلت إلى مرحلة تشغيل أطفالها تحت هذه الظروف، ولأنها بدت الطريقة الوحيدة أمامهم للعيش. وهذا ليس تبريرًا لاستغلال الأطفال، وإنما هو استعراض لجذر وبُعد هذا الاستغلال الذي تصنعه الحكومة، وترعاه بتواطئ صريح كل مؤسساتها ومسؤوليها.
استمرار الشراء من الأطفال الباعة المتجولين يعني استمرار وجودهم في الشارع، والإسهام بشكل غير مباشر في انتهاك طفولتهم.
هناك معضلة أخلاقية تجعلنا نتساءل عن ماهية التصرف الأخلاقي في حال واجهنا طفلًا يبيع في الشارع، هل نمتنع عن الشراء منه كنوع من الاحتجاج على وجوده في الشارع؟ هل نشتري بهدف مساعدته ومعاونته على تحقيق الهدف المنشود من نزوله إلى الشارع؟
من وجهة نظر مناهضي الشراء من الأطفال الباعة المتجولين، علينا أن نمتنع عن ذلك حتى لا تكون موافقة ضمنية منا وتطبيعًا لوجود هؤلاء الأطفال في الشوارع، وحتى لا يستمر استغلالهم من قبل عائلاتهم، وحتى لا يؤدي هذا إلى تشجيع عائلات أخرى على استغلال أطفالها كطريقة للاسترزاق.
بعض مؤيدي هذا الرأي يرون كذلك أن استمرار الشراء منهم يعني استمرار وجودهم في الشارع، والإسهام بشكل غير مباشر في انتهاك طفولتهم، أو معاونة من ينتهك طفولتهم بشكل أو بآخر.
أما على النقيض تمامًا، ومن وجهة نظر مؤيدي الشراء من الأطفال الباعة المتجولين، علينا أن نتجه عمدًا للشراء منهم بدلًا من الشراء من أماكن أخرى، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لمساعدتهم وعائلاتهم، إلى جوار أن الامتناع عن الشراء منهم لن يحل جذر مشكلة وجودهم في الشارع، ولن ينهي ظاهرة الباعة المتجولين من الأطفال في الشوارع، ولن يحد مما يحدث لهم من انتهاك صارخ للطفولة.
يرى مؤيدو هذا الرأي أن الحديث عن المعضلة الأخلاقية والامتناع عن الشراء منهم من باب أخلاقي ما هو إلا حديث من مركز امتياز لا أكثر، ومحاولة لمعالجة النتائج وتجاهل الأسباب.
الحلقة المفرغة
ابن الطبيب طبيب، وابن المهندس مهندس، وابن البائع المتجول بائع متجول كذلك.
هكذا تبدو الأمور في مخيّلة الأطفال، إذ لا يتجاوز تصورهم لحيواتهم المستقبلية عن كونها صورة مصغرة من حياة آبائهم، حتى أنهم لا يعتقدون بحياة أخرى أبعد قليلًا لا تشبه الحياة التي لطالما عرفوها، حياة ذات سقف أعلى وامتيازات أكثر ولحاف أطول ولو قليلًا. مجرد صدفة التي جعلت طفلًا ما قادرًا على أن يحلم، وآخر يعيش في نفس البقعة الجغرافية يدور في حلقة مفرغة ويتصادم باستمرار مع واقع وضعه القانوني، الذي لا يعد ملائمًا لشيء.
مشكلة عمالة الأطفال مشكلة حقيقية يواجهها المجتمع، ولا بد من وجود تحركات جدية للقضاء على أسباب وجودها لا نتائجها. سواء كنت تتفق أو تختلف مع قضية عديمي الجنسية في الكويت، فعليك أن تعي تبعات حرمان طفل من حقوقه الأساسية مثل التعليم، وتعريضه لظروف قهرية مثل العمل في الشارع، وأثر ذلك على الطفل نفسه والمجتمع في ما بعد.