في ظل الخطابات والدراسات التي تتناول قضايا المرأة وتسلط الضوء عليها، وتطالب بحقوقها وعدم تهميشها، وجدت أننا وحيدات، نحن نساء البدون. ماذا تعرف عنا التجمعات النسوية هنا في الكويت والجمعيات المهتمة بحقوق المرأة؟
أعرف كيف تعيش معظم الشخصيات النسوية الكويتية في فقاعة من الامتيازات، وبعضهن يحظين بما لا تحظى به غيرهن من الطبقات المتوسطة والأدنى. وأعرف كيف تبدو نظرتهن، وكأن الكويت تخلو من أي تداخل اجتماعي أو ثقافي فكري، ومعظم المشكلات تتمحور في دائرتهن وحدهن. فكيف تبدو نظرتهن إزاء نساء البدون؟
أعتقد كما تعتقد كثيرات غيري أن قضيتنا أبعد ما تكون عن أولوياتهن، ومنفصلة تمامًا عن واقعهن. ونأيًا عن أن يُؤخذ كل هذا بحساسية مفرطة، فلا أُسفّه الجهود الفردية من النساء الكويتيات التي تسعى لإيصال معاناة نساء البدون، لكن هذه الأصوات المتناثرة الفرادى سرعان ما تتلاشى، كأصواتنا نحن .
لا داعي لتعليم البنت البدون
تواجه المرأة البدون تعقيدات خاصة، وهي طرف ضعيف في دائرة الحرمان التي تُدار حول البدون بشكل عام. وهنا نعرض تفاصيل يجهلها كثيرون عن حياة النساء البدون، ولا نسعى في ذلك إلى تهميش الأطراف الأخرى للقضية، بل لحياة المرأة البدون تفاصيلها الأقسى معزولة الذكر، وأنصح كل من يقرأ ببدء العد: كم من فتاة بدون تعرفها ستعبر في شريط ذاكرتك أثناء قراءة هذه السطور؟
تبدأ هذه التعقيدات منذ ولادة الفتاة في حال عدم حصولها على شهادة ميلاد، ثم في عملية تعليمها التي تصطدم بأزمة البطاقة الأمنية، والتي غالبًا ما لا تملكها أو تكون غير قابلة للتجديد. كثيرات منهن اختار لهن ذويهن البقاء في المنزل دون تعليم، وذلك قسرًا بحكم واقع التمييز بين الذكور والإناث.
لكن أخريات أتيحت لهن بفضل صلاحية البطاقة واختيار أولياء أمورهن إكمال تعليمهن الثانوي. بعضهن تخرجت بنسبة عالية وحصلت على المراكز الأولى على مستوى الكويت ثم توقفت حياتها بعدها، والسبب عدم قبول الجهاز المركزي أن يكون لها مقعد في الجامعة بسبب التضييق على أسرهن في مسألة تجديد البطاقة، خاصة في السنوات الأخيرة التي يُتلاعَب فيها بالأوراق ويُجبَر الأب على توقيع أوراق تهضم حقه وحق أسرته.
أما اللاتي يُكملن تعليمهن الجامعي فينقسمن لفئات عديدة، منهن من انتظرت حتى أتاح لها الحظ فرصة القبول لدى جهة تعليمية حكومية بسبب كون والدها عسكريًا، أو القليلات اللاتي يُقبلن عن طريق استثناءات يقرها مكتب وزير التربية والتعليم. قد تتشارك في ذلك مع الرجل البدون، لكنها تُحصر من قبل ولي الأمر في تخصصات معينة قد لا تمثل رغبتها الحقيقية، فتقدم على عدة تخصصات لا تطمح في معظمها، وكثيرًا ما تُقبل لدى الجامعة في تخصص لا ترغب فيه كثير من الكويتيات مثل التمريض، أما الطبيبات البدون فهن ممن ندر ابتعاثهن على حساب ذويهن.
في هذا الصدد، يندر ابتعاث الطالبة البدون للخارج حتى وإن كانت نسبتها تؤهلها لذلك، وحتى إن كان للأسرة قدرة على تحمل تكاليف الدراسة، في حين يُفضل ابتعاث الشاب تحججًا من قبل الأسرة بأنه الأقدر على إعالة عائلته في ما بعد.
أما من أكملت تعليمها الجامعي في الجامعات الخاصة في الكويت لنفس الاستثناءات السابقة عوضًا عن أبناء الكويتيات، فالتغريدات التي نشهدها والتي تسبق كل فصل دراسي، تطلب فيها الطالبات مبالغ من فاعلي الخير لإعانتها قبل أن يفوتها الفصل، هذه التغريدات تشرح كل شيء عن حالة القلق والخوف التي تعيشها هذه الفئة، واحتمال تحطم الأمل في تسديد المبالغ ثم تدهور مستقبلهن الدراسي. هؤلاء يتخرجن بشق الأنفس، ويُبارك لهن للخلاص من ثقل الأعباء المادية لا عبء الدراسة نفسها.
الجدير بالذكر أن كثيرات من الفتيات البدون يرفض ذويهن أن يكملن تعليمهن سواء الثانوي أو الجامعي، ويعود هذا إلى العقلية المتحجرة التي لم تُذبها أي ثقافة تعليمية للأب البدون، فالغالبية بنات لرجال في الجيش والشرطة ومنهم من لم يتلق أو يكمل تعليمه، وكذلك الأم فهي ربة منزل بثقافة بسيطة تكاد لا تكون لها كلمة. ولا ننسى ما تعرض له جيل كامل من البدون في التسعينيات وبعد الغزو العراقي من عملية تجهيل، بفضل إلغاء مجانية التعليم لهم ومنع عودة كثير من الآباء للعمل في السلك العسكري، مما نتج عنه ضعف دخل تلك الأسر.
جاءت المدارس الأهلية الخاصة بعدها، وبسبب العجز عن دفع الرسوم كانت عملية التجهيل هذه أشد على النساء من الرجال، فحرِمت بنات البدون من التعليم. وبعض بنات تلك الحقبة درست في المراحل الدراسية الأولى، ثم أخرجها أهلها من المدرسة قسرًا واكتفى بتعليم الأولاد فقط.
ما حدث في التسعينيات يحدث الآن في بعض أسر البدون، التي تتيح فرصة التعليم لفرد واحد منها فقط بسبب ضعف المعيشة وتزايد الرسوم الدراسية في المدارس الأهلية، فيقع الاختيار على الشاب لا الشابة. وشخصيًا، نظمت حملة تبرعات لجمع الرسوم الدراسية للطلبة والطالبات البدون، فقال لي أحد المتبرعين: «سأدفع لمدارس الأولاد، أما البنات فلا داعي».
في المجمل، لا تحظى الطالبة البدون بإعانة مادية من الجامعة عدا بعض الاستثناءات القليلة، فتتحمل عبء شراء الكتب والأدوات وعبء المواصلات أيضًا. أعرف من لم يكن بمقدرتهن شراء الكتب، وقد تشاركت أنا وزميلة لي كتابًا واحدًا نتبادله كل يوم، وتقاسمت جهاز اللابتوب مع أخرى. ولهذه المشكلة تأثير مؤلم على البنت البدون يفوق تأثيرها على الشاب البدون، نظرًا لأن كثيرات منهن يُمنع عليهن الجمع بين العمل والدراسة، فيحرمها ذووها من إعالة نفسها، بينما في الوقت ذاته يسمحون بذلك للشاب البدون.
الموظفات البدون
في مجال العمل والوظيفة، كثير من الفتيات البدون سواء جامعيات أو غير جامعيات ينتهي بهن المطاف للعمل في أماكن محددة براتب مئة دينار أو أقل، وفي بعض الحالات قد يصل إلى مئتي دينار كحد أقصى، ناهيك بجشع بعض أرباب العمل المتخصصين في امتصاص كل ذرات جهدهن، خاصة مع معرفتهن بأن المرأة البدون ستظل متمسكة بأي وظيفة مهما كلفتها جهدًا لتحاول إعالة نفسها وعائلتها، حتى أن بعضهن قد يصمت في قضايا التحرش من قبل رب العمل بسبب الخوف من خسارة الوظيفة التي يعشن عليها.
أجور الممرضات قليلة مقارنة بزميلاتهن من الكويتيات أو حتى الوافدات، وتواجه الممرضات تعسف الجهاز المركزي وتعسير وزارة الصحة في صرف رواتبهن في أحيان كثيرة، ولا يُسمح لهؤلاء الممرضات بإكمال تعليمهن ليصبحن طبيبات.
أما المعلمات البدون فيحصلن على راتب هو في الواقع ربع راتب زميلاتهن الكويتيات، إذ تحصل الكويتية على ما يقارب ألف دينار وأكثر، في حين تحصل المعلمة البدون على أربعمئة وما دون ذلك.
ورغم قلة هذه الرواتب، فإن فرص زواج المعلمات البدون ربما تكون أكثر من غيرهن، بسبب تفضيل الخاطبين في هذه المجتمعات لعمل المرأة في بيئة نسائية. لكن هؤلاء المعلمات المتزوجات مأساتهن عظيمة تحت ظل القرارات الجاحدة في حقهن من وزارة التربية، فلا يحق للمعلمة البدون إجازة الأمومة مثل قرينتها الكويتية، ولا الإجازات الدورية أو إجازة الحج، نظرًا لأن التعاقد معهن على أساس عقود الاستعانة بالخدمات. تخيّل أن من تلد يوم الخميس تمارس عملها مجبرةً يوم الأحد. كذلك، تتوقف أجورهن في أحيان كثيرة مثل عطلة الصيف أو أزمة وباء كورونا الحالية، وهو موضوع نسوي بحت لا نجده يثير اهتمام التنظيمات النسوية.
وبحكم أن كثيرًا من النساء البدون يكن قبليات مثلهن مثل كثير من النساء الكويتيات، فإنهن يرتدين العباءة والنقاب. وبسبب محدودية الوظائف التي تحيط بالمرأة البدون، فالتمييز ضدهن على أساس المظهر يصبح بلاء. أعرف شخصيًا من رُفض توظيفهن حتى وهن مؤهلات للوظيفة بسبب التزامهن بلبس العباءة، والتي يرفض محيطهن الاجتماعي التنازل عنها مقابل الوظيفة، بينما يرفض المجتمع الوظيفي تقبلهن بها، مفضلًا قبول جنسيات أخرى.
الزواج طريقة النجاة الأسوأ
تظل الفتاة البدون منتظرة الزواج، إذ لا مرحلة تالية مقبولة سواه. وفرص الزواج هذه محصورة جدًا وغير متنوعة، فتخرج الفتاة من بيت أهلها إلى بيت يشبهه في كل شيء. باختصار: حياة البنت البدون غير قابلة للتجديد إلا في ما ندر .
وعلى الرغم من أن شيئًا لا ينتظرها سوى الزواج، فهو صعب الإتمام على بعضهن حتى مع توافر الفرص، لانتهاء صلاحية البطاقة وعدم القدرة على تجديدها، وهذا بفضل الجهاز المركزي ولعبه في أوراق كثير من أسر البدون وإغلاق ملفاتهم والتضييق عليهم.
هذا يشكل مشكلة كبيرة في حالة الحمل والولادة، فتنتهي المسألة باللجوء إلى المخافر لإظهار عقد الزواج، أو للمحاكم لإثبات نسب الطفل، وهما طريقتان ذواتا سمعة سيئة مجتمعيًا، باعتبارهما الطريقتين اللتين يلجأ إليهما مَن مارس الجنس خارج إطار الزواج في العادة، وبالتالي تتعرض المرأة البدون لنظرة سيئة ويُلصق بها العار حتى وإن كانت المسألة تمثيلية من أجل الحصول على الأوراق الرسمية. المرأة هنا هي الطرف الأكثر تعرضًا للأذى من الرجل.
بعض النساء البدون المتزوجات قد يكن معنفات لكنهن يخفن اتخاذ قرار الطلاق، والسبب صعوبة العودة إلى بيت العائلة برفقة أطفالهن، خاصة مع احتمالية المكوث في غرفة ضيقة يعيش فيها ثلاثة أفراد وأكثر، فلا يطيق عودتها أحد، وهذا بفضل بيوت الصفيح أو الشقق الضيقة التي يعيش الكثير من أسر البدون فيها.
سهم المجتمع فوق السهام الأخرى
معظم النساء البدون هن في الأصل من أسر قبلية ذات طابع تقليدي مغلق، وقد تُمنع فيها من الحصول على حقوقها الشحيحة والمسموح بها قانونًا، فلا يُسمح لكثيرات منهن بالعمل أو القيادة، وبالتالي تظل المرأة البدون في حاجة أبدية لمن يعيلها.
حتى أن هناك كثيرات منهن من أصحاب المواهب يُرفض عملهن من داخل المنزل، سواء في الأعمال اليدوية أو الطبخ أو البيع، وتخبرني صديقة: «يريدونني مكسورة ومحتاجة إليهم دائمًا، يرفضون اعتمادي على نفسي». تظل البنت البدون عالقة في قبضة الأب أو الأخ ولا تملك سوى أن تخضع، دون أن يكون في صفها شريكاتها في الوطن المناصرات لحقوق المرأة.
كثير من فتيات البدون تتوقف حياتهن الاجتماعية، وتنتهي صداقتهن بانتهاء فترة الدراسة أو العمل، إذ لا يُسمح لهن بزيارة الصديقات أو حتى دعوة صديقة إلى المنزل، فتظل دائرة معارفهن وصداقاتهن منغلقة تدور حول الأهل المقربين جدًا، حتى أن كثيرات منهن لا يُسمح لهن بالخروج للأماكن العامة، في تضييق شديد على حرية التنقل.
لا يمكنني أن أنسى تعرض النساء البدون للتنمر والعنصرية، وأنا ممن كانت حياتهن الجامعية مريرة بفضل ما كنت أراه وأسمعه بصفتي من هذه الفئة، رغم أني لم أكشف عن هويتي لأحد، فأسمع كيف يُسخر ويُستهزأ بالطالبات البدون وأصولهن الشمالية، وكيف يُقصين اجتماعيًا بتكبر وعنجهية، ويُنظر إليهن على أنهن لا شيء .
لي مواقف شهدتها بنفسي، فحين قُسمنا للتدريب الميداني، حدث أن وقع الاختيار على واحدة من الطالبات الكويتيات للتدرب في مدرسة بمنطقة الصليبية، فوجدتها تصيح في مجموعة واتساب: «ويع قاطيني عند البدون اللي كلهم مجرمين وحرامية سيارات».
بفضل هذا النفَس العنصري، هُمشت شخصيات كثير من فتيات البدون، وخفن من الدفاع عن أنفسهن وقضيتهن أمام هذا الجمع العنصري، وفضلن الصمت وتقبل الإهانة على تدمير حياتهن الدراسية بفصل أو شطب أو إقصاء اجتماعي.
كثيرات منهن حُرمن من استخراج جواز مادة 17 الذي يصدر لبعض فئات البدون، في الوقت الذي استخرجه إخوتهن أو والدهن، بحجة أن حصولهن على فرصة للسفر قليلة، لكن ما لم يؤخذ في الحسبان تعطل استلام كثيرات منهن لشهاداتهن الجامعية بسبب عدم امتلاكهن للجواز، والذي يُطلب صورة منه لاستلام الشهادة الجامعية.
وبسبب عدم التعليم أو الانخراط في السوشيال ميديا، تجهل كثيرات حقوقهن، حتى أنهن يجهلن خبايا قضيتهن ولا يعرفن منها سوى البؤس والمعاناة، وأنهن وُلدن بدون جنسية، وكل هذا بفضل التهميش الذي يتعرضن له. وأعرف كثيرات غير مسموح لهن بالخوض في هذه الأمور «فالقضية يتولاها الرجال»، ولا توعية تقدم من الجمعيات النسائية.
كثيرات في حاجة للمساعدة النفسية، فهن في أسوأ حالاتهن، وأكاد أجزم أن كثيرات منهن يمارس الاكتئاب لعبته في إتلافهن، حتى يجبرهن الواقع التعيس والظلم الواقع عليهن على التخلص من مأساتهن منتحرات.