استقر في يقين سكان شمال غرب أوروبا حتى نهاية القرن الثامن عشر أن الله ينفخ من روحه في أشجار مقدسة، لينبثق من ثمارها نوع من الإوَزّ يعرف بالإوَزّ البحري أو «إوَزّ البرنقيل» (Geese Barnacle)، ثم تَنثُر الأمواج أخشاب تلك الأشجار على شواطئ البحر فتنبت منها فراخًا تتهادى على البر.
يتميز الإوَزّ البحري بريش غزير ولون أسود فخم يغطي الظهر والرقبة والرأس، وأجنحة فضية متألقة ووجه أبيض صبوح. لم يرَ السكان لهذا النوع من الإوَزّ بيضًا أو عشوشًا، فأسرابه تختفي تمامًا في موسم الشتاء، وتظهر فجأة في فصل الصيف مع صغار تحجل قرب شاطئ البحر لا تقوى على الطيران. وعلى مدار ستة قرون، حرَّمت الكنائس الأوروبية لحم هذا الإوَزّ المقدس وفراخه التي يأتي بها الله كل عام من البحر كما أتى بالمسيح من العذراء.
مع بدايات القرن التاسع عشر، لاحظ بعض البحارة أنه بحلول فصل الشتاء تستقر طيور تشبه الإوَزّ على ذُرَى جبال بعض الجزر المنعزلة، وسرعان ما أدركوا أنها مجاميع لهذا الإوَزّ المقدس، وأخذوا في تناقل أخبارها على وجل.
ومع عمران تلك الجزر، دلف السكان بمحاذاة الجبال، فتبدَّت عشوش الإوَزّ على ارتفاعات شاهقة لا يقدر الإنسان على الوصول إليها. بدا الأمر آنذاك محيرًا، فلو كان الإوَزّ يضع بيضه في تلك العشوش، فأنَّى لصغاره أن تقتات على قمم جبال جدباء مقفرة؟ علما بأن الإوَزّ من الطيور التي لا تُحضر الطعام إلى الصغار في عشوشها، وإنما تدفعهم دفعًا إلى ملاحقة السرب في البحث عن الكلأ.
بالمراقبة المستمرة للجبال وتطور آليات التصوير، تكشَّفت تفاصيل مأساة هذا النوع من الإوَزّ. ففي يومها الثالث، تُضطر الصغار إلى مواجهة أمر رهيب: الأم تغادر العش دون رجعة، ثم توحي للصغار أن يلحقوا بها عن طريق القفز من ارتفاعات تصل إلى مئات الأمتار.
الإوَزُّ البحري: قفزة الثقة.. قفزة الحياة
تُظهر الأفلام الوثائقية الحديثة صورًا لصغار هذا الإوَزّ وهي تَطُل في هلع، مرتعدةً من مرأى الهُوَّة السحيقة، تتردد في القفز وجلًا، ثم تطفق عائدةً يعضُّها الجوع والعطش. الأم تصرخ فيها من السفوح السحيقة لتقطع عليها خط الرجعة وتوجهها إلى مسار القفز الأمثل. يفشل كثير من الصغار في القفز بطريقة صحيحة، فينتهي بها الحال منطرحةً على الصخور تتخطفها الثعالب وتنوشها العقبان. حظ عاثر وطالع منكود لفراخ لم تتجاوز الثلاثة أيام من العمر.
بينما يفشل كثير من صغار الإوَزّ في القفز، لا تخلو الفراخ الناجية من رضوض وكسور قد تلازمها طيلة حياتها.
تقتضي القفزة الصحيحة أن يمدد صغير الإوَزّ جسمه ويفرد أجنحته وأقدامه تمامًا كأنه ورقة منبسطة، بحيث يرتطم بالأرض على بطنه.
هذه القفزة تعتمد على قانون فيزيائي يتعلق بسرعة الأجسام الساقطة، فمن المعروف أن سرعة الأجسام تثبت في مرحلة ما من السقوط عند حد معين لا تزيد عنه ولا تنقص. وتصل الأجسام الساقطة إلى هذه السرعة عند ارتفاع تتساوى فيه قوة شد الجاذبية الأرضية إلى أسفل مع قوة دفع الهواء إلى أعلى، ويطرأ هذا الاتزان على الأجسام قبل الارتطام بوقت يطول أو يقصر حسب ارتفاع مكان السقوط.
تلعب مساحة سطح الجسم الساقط أيضًا دورًا كبيرًا في تخفيف قوة الارتطام. فعلى سبيل المثال، لو أخذنا ورقة ثم تركناها تهوي نحو الأرض وهي منبسطة، سنلحظ أنها تتهادى ببطء في سقوطها ثم ترتطم بالأرض هَونًا. في حين أننا لو طوينا نفس الورقة وضغطناها على هيئة كرة ثم تركناها تسقط من نفس الارتفاع، فسترتطم بالأرض بسرعة أكبر بكثير من الورقة المنبسطة، لأن ممانَعة الهواء لسقوط الورقة ذات المساحة السطحية الكبيرة أعظم بكثير منها في حالة الورقة المضغوطة المكورة.
هذا ما يفعله صغير الإوَزّ الذي يجيد القفز. فبدلًا من القفز بالرأس أو القدم، الذي يؤدي إلى انكماش الجسم وتقلص مساحته السطحية، يبسط الصغار أجسامهم ليزيدوا مساحتها، ممَّا يعظم قوة دفع الهواء إلى أعلى ويوهن شدة الارتطام. هذا بالإضافة إلى خفة وزن الفراخ وليونة عظامها، وريشها الهش الغزير الذي تتدللى ذوائبه لتحيط بالجسم كوسائد دعم إضافية تعين على امتصاص الصدمات.
بطبيعة الحال، لا تخلو الفراخ الناجية من بعض الرضوض والكسور التي قد تلازمها طيلة حياتها.
بشرٌ كالإوَزّ: لأن الحياة ليست عادلة
تذكرتُ صغار الإوَزّ البحري عندما رأيت الطفل سيد ذا التسعة أعوام وهو يحضر لي كرسيًّا لأجلس في واحدة من حواري القاهرة الضيقة، ثم يمسحه بمرفق معطفه المهلهَل.
يعمل سيد صبي ميكانيكي ليعول نفسه وإخوته ويُعين أمه بائعة المناديل، فالأب الذي أقعده المرض لم يعد بوسعه إعالة الأسرة.
يصبو سيد إلى أن يصبح طيارًا عندما يكبر. كان ينظر إلى أعلى وهو يَبُثُّ لي أحلام خَلَاصِه من أرض الألم إلى سماء الرحابة والرحمة.
بين ثنايا وجه سيد الملطخ بالسواد، تنبثق وداعة أخَّاذة لا تملك معها إلا أن تحبه. طفولة بريئة عذبة تنسَلُّ من بين ندبات وجناته الغائرة وعرق جبينه اللامع. قال لي الميكانيكي إن سيد يجيد القراءة والكتابة ويعرف الحساب، فهو يأتي بكتبه المدرسية إلى الورشة، يقتنص لُحيظات يقرأ فيها متى تيسرت القراءة. أخبرني الرجل أيضًا أن سيد يقيم في هُوَّة ضيقة ملحقة بالورشة، يحضِّر فيها طعامه ويرفأ ثيابه ويغسلها بنفسه تهوينًا على أمه.
يكابد سيد الحياة مكابدةً عصيبة، يضعضع معها طفولته ويغالب رغبته في اللعب بالأرجوحة المعدنية الملونة المعلقة في منتصف الشارع. عرفت من أحد المارة أن سيد يواظب على الصلاة في الزاوية المجاورة للورشة، ويداوم على تنظيف فُرُشها وملءِ أزيارها.
عندما أجزلت له العطاء قال لي إن أمه ستسعد كثيرًا بهذا المبلغ، وكأنه يُرحِّل سعادته دائما إلى الأخرين. فأنَّى لطفل في التاسعة أن يحفل للمال وهو يتلظى في أتون حياة يستقطر منها السعادة قطرات يجففها لَفْحُ الضنك الحارق، ويلتمس فيها الحب كلمعات ضوء خاطفة لا تلبث أن تخبو في فاحم الليل.
في نهاية لقائي بسيد، لم أقوَ على التحديق في عينيه الغَضَّتين. فهو كصغار الإوَزّ البحري، تُرِك وحده على رقته وقلة حيلته ليواجه مصيرًا مجهولًا، يرتطم فيه بحواف الصخر المدبب بحثًا عن القوت.
يصبو سيد إلى أن يصبح طيارًا عندما يكبر. كان ينظر إلى أعلى وهو يَبُثُّ لي أحلام خَلَاصِه من أرض الألم إلى سماء الرحابة والرحمة، يمد ذراعيه ويشب على أطراف قدميه كأنه يلامس السحاب.
للأديب الإنجليزي «أوسكار وايلد» مقولة محيرة لكنها جديرة بالتأمل: «الحياة ليست عادلة على الإطلاق ولن تكون، وربما كان في هذا الأمر نفع عظيم للبشر».