الإشعاع أكثر رحمةً من القنبلة: لماذا يعودون إلى تشيرنوبل؟

الصورة: Emma Thomson/Adventure.com

ياسمين أكرم
نشر في 2018/11/02

نعرف ما يمكن أن تخلفه الحرب من دمار. فالعالم لم يُعطنا فرصة كي ننسى. اطلاعنا على كتب التاريخ ومشاهدة الوثائقيات التاريخية والسياسية لا يكفيان لرسم صورة دقيقة في أذهاننا لمشاعر إنسان يفر من الموت، وما هو قادر على التضحية به من أجل سلامته وسلامة أحبائه، وما قد يختار أن يتنازل عنه من أجل ليلة هادئة دون خوف، وما هو مضطر للتعايش معه من أجل أن يشعر بلحظات من السلام.

تفاجئني الحروب بقصص مشابهة ما زالت تدهشني وما زالت عاجزة عن اعتيادها. في تقرير كتبته «Zhanna Bezpiatchuk» على موقع «BBC»، بعنوان «العودة إلى تشيرنوبل»، تتجلى هذه القصص في أبرز صورها، قصة عن الدمار والخوف والأمل.

ليست قصة عن مدينة تتعرض للتدمير فتنهض من جديد، لكنها قصة عن مدينة مُدمَّرة إلى الأبد، لكنها ما زالت تنبض بالحياة وتحتضن من لا مأوى له.

حكاية تشيرنوبل

الصورة: calflier001

الغابات هي الصورة الوحيدة للحياة في ذلك المكان، إذ تسنى لها الانتشار عن طريق النباتات الزاحفة.

«خلفت كارثة تشيرنوبل النووية التي وقعت في السادس والعشرين من إبريل 1986، سلسلة من القرى التي فر منها سكانها خوفًا من التسمم الإشعاعي. لكن الآن اختارت الناس العودة مجددًا إلى تشيرنوبل للسكن في المنازل المتداعية على أطراف منطقة الحظر».

في مساء دافئ صيفًا، كانت «مارينا كوفالينكو» تلعب كرة القدم مع ابنتيها المراهقتين في ساحة منزلهم الخلفية. «إيرينا» و«أولينا» تضحكان وهما تشاهدان كلبهما يتصارع مع الكرة مُفزعًا الدجاجات الصغيرة. خارج السياج الخلفي لمنزل هذه العائلة، كان كل شيء هادئًا تمامًا.

زحف الصمت على قرية ستتشينا شمال أوكرانيا، فلم يعد بمقدورك أن تجد فيها أي شيء عدا المنازل الخاوية ومكتبة ومتجر، فقط لا غير. أما الغابات، فهي الصورة الوحيدة للحياة في ذلك المكان، إذ تسنى لها الانتشار عن طريق النباتات الزاحفة التي تنمو فيها.

لا تعيش العائلة في عزلة تامة. لديهم جيران، ولكن جميعهم في سن السبعين أو الثمانين تقريبًا. لم يُثن نقص الفرص ووسائل الراحة في مدينة تشيرنوبل، مارينا عن القرار الذي اتخذته في 2014، عندما حزمت أمتعتها وبناتها وسافرت مئات الأميال عبر أوكرانيا، ليستقررن جميعًا في مكان يبعد 30 كيلومترًا فقط عن منطقة الحظر النووي في تشيرنوبل.

منطقة الحظر النووي

في 26 إبريل عام 1986، عانت مدينة تشيرنوبل أسوأ كارثة نووية في العالم. بدأ الأمر في محطة للطاقة النووية تابعة للاتحاد السوفييتي كانت تبعُد عشرة أميال عن شمالي غرب مدينة تشيرنوبل الأوكرانية.

تكونت المحطة من أربع مفاعلات نووية. أجرى بعض الخبراء تجربة غير محسوبة بدقة على المفاعل الرابع فيها، بهدف التحقق من سلامته، فقطعوا عنه الكهرباء وعطلوا نظم الأمان المخصصة لتبريد اليورانيوم في المفاعل، ما أدى إلى ارتفاع درجة حرارته، ثم انفجاره في تمام الواحدة وثلاث وعشرين دقيقة من ذلك اليوم، وانطلقت إشعاعات نووية هائلة استمرت في الانتشار لمدة عشرة أيام، وأدت إلى هطول مطر سام في جميع أنحاء أوروبا.

مات شخصان مباشرة في الانفجارات الأولى بتقدير التقارير الأولية عن الانفجار، بينما رجحت تقارير أخرى أن العدد وصل إلى 50 شخصًا.

تضاربت الأقوال حول العدد الحقيقي للخسائر البشرية، وفرضت السلطات السوفييتية وقتها حظرًا كاملًا على النشر والحديث عن الموضوع. لكن «منظمة الصحة العالمية» نشرت تقريرًا مفصلًا شارك فيه عدد من الخبراء والباحثين في كتابته، لتوضيح الآثار المباشرة للحادث، وتلك التي تلته على مدار السنين.

بحسب التقرير، فإن ألف شخص من طاقم العمل المسؤول عن المفاعل تعرضوا لدرجات عالية من الإشعاع النووي في اليوم الأول للحادث، ومن المتوقع أن يموت نحو ألفي عامل من أصل مئتي ألف من طاقم الإغاثة والطوارئ بالمحطة جراء الإشعاع النووي.

في وقت الحادث، أُصيب 4000 طفل ومراهق بسرطان الغدة الدرقية نتيجة التلوث الإشعاعي، مات منهم تسعة أطفال.

هناك من لم يُغادر تشيرنوبل قط، بالرغم من خطر العيش في المنطقة المحظورة والقوانين الصارمة التي ما زالت تمنع ذلك إلى يومنا هذا.

يُخالف التقرير المنشور في مجلة «Time» تقرير منظمة الصحة العالمية، مؤكدًا أن الخسائر كانت أفدح بكثير. 5000 شخص على الأقل تُوفوا بالسرطان جراء الحادث في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، في عام 2005 تلقت 19,000 عائلة في أوكرانيا المعونة الحكومية نظرًا لفقدانها عائلها الذي توفي نتيجة الحادث. هذا بخلاف الأضرار الوراثية التي أُلحِقت بمن وُلِدوا بعد الحادث، وأخطر هذه الأضرار حالة تُدعى «Microsatellite Instability» تؤثر في قدرة الحمض النووي DNA على التجدد وإصلاح ذاته.

لم تتوقف المأساة عند هذا الحد، إذ اضطُر أكثر من 116,000 شخص إلى مغادرة تشيرنوبل فورًا بعد الحادث، وفي الأشهر القليلة التي تلت الحادثة غادر 234,000 آخرين في عجالة، دون أن يُسمح لهم بوقتٍ كافٍ لجمع أغراضهم وحزم أمتعتهم.

سكن هؤلاء الناس في ما بعد، في بنايات خرسانية عملاقة بعد أن كان لكلٍّ منهم منزل خاص به. ظنوا أنه وضع مؤقت، وبخاصة بعدما وعدتهم الحكومة بالسماح لهم بالعودة إلى منازلهم القديمة في تشيرنوبل، وهذا ما لم يحدث قط. فقد فُرِضت منطقة حظر مساحتها 32 كيلومترًا حول المفاعل، وازدادت هذه المساحة بالتدريج لتشمل كل المناطق التي وقع عليها الضرر.

لكن هناك من لم يُغادر تشيرنوبل قط، بالرغم من خطر العيش في المنطقة المحظورة والقوانين الصارمة التي ما زالت تمنع ذلك إلى يومنا هذا. تتراوح أعداد هؤلاء الأشخاص بين 130 150 ساكنًا، معظمهم من النساء في عمر السبعين أو الثمانين، واللواتي تولين مسؤولية رعاية أراضي أجدادهن وزراعتها.

أما المناطق القريبة من محيط منطقة الحظر، فقد بدأت في استقبال وافدين جدد.

بيت صغير في تشيرنوبل

الصورة: Roman Harak

تسكن «مارينا» وأسرتها في منزل متواضع خارج منطقة الحظر. المنزل في حاجة ماسة للإصلاح، فالأرض متعفنة والمُبرِّد المعدني المسؤول عن ضبط درجة الحرارة تصدَّع، ما يؤدي إلى انخفاض درجة الحرارة إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر في فصل الشتاء.

تتوفر للأسرة بعض وسائل الراحة البسيطة، مثل: الغاز والكهرباء وشبكة المحمول، ما يعني أن بإمكانهم استخدام الإنترنت. لا يتوفر لديهم مرحاض داخل الشقة. فقط مرحاض خارجي لأن مصدر المياه الوحيد بئر تتصل بمنزلهم عن طريق أنبوب واحد. مياه هذه البئر ملوثة، لذلك يتوجب عليهم تسخينها حتى درجة الغليان قبل استخدامها.

بعض المنازل التي تكون في حالة جيدة نسبيًّا تتكلف 3,500 دولارات، لكنها نادرة مقارنة بالمنازل الخشبية الفارغة المنتشرة في تشيرنوبل، والتي يبيعها مُلاكها السابقون بمئات الدولارات فقط.

كانت مارينا أفقر من أن تشتري واحدًا من هذه المنازل حين وصلت إلى تشيرنوبل، لذلك عرض عليها مجلس إدارة القرية صفقة غريبة من نوعها. فمقابل الإقامة والطعام، على الأسرة الاعتناء برجل عجوز يُعاني الخرف. حين مات الرجل بعد عامين، ورثت مارينا وأسرتها منزله.

تتباهى إيرينا وأولينا ببقية العائلة التي تعيش خارج فناء المنزل، وهي: بضعة دجاجات وأرانب وماعز.

حينما لا تكون الفتيات في المدرسة التي تبعُد خمسة كيلومترات عن منزلهن، يساعدن الأم في زراعة الخضراوات والعناية بالحيوانات.

مصدر الدخل الوحيد للأسرة هو الإعانة الحكومية التي تتلقاها، وتعادل 138 دولارًا شهريًّا. لذلك يتوجب عليهم زراعة طعامهم وإنتاج مخزونهم الخاص من اللحوم والألبان كي لا تتبدد الميزانية على الطعام.

ملجأ من الحرب

هربت مارينا من مدينة توشكفكا الصناعية في شرق أوكرانيا، بعد سنوات من الصراع في البلاد، قُتِل فيها 10,000 شخص وشُرِّد مليونان آخران.

بدأت هذه المشكلة عام 2014، بعدما أعادت روسيا ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية لحدودها، وكانت القرم ملكية أوكرانية منذ عام 1954، عندما أهداها الرئيس الروسي «نيكيتا خروتشوف» إلى الجمهورية الأوكرانية في لافتة طيبة لدعم العلاقات الروسية الأوكرانية.

هناك عشر عائلات على الأقل اتخذت قرار الرحيل عن دونباس والسكن في إحدى القرى القريبة من منطقة الحظر في تشيرنوبل.

بعد اندلاع الثورة الأوكرانية في فبراير 2014، بهدف التخلص من الوصاية الروسية والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ظهرت حركة مضادة موالية لروسيا تزعَّمها مسلحون انفصاليون ادَّعوا أنهم يعملون لصالح محليين ناطقين بالروسية شرقي أوكرانيا، وأعلنوا التمرد بالسيطرة على إقليمي دونيتسك ولوهانسك.

بعدها بدأ الانفصاليون الموالون لروسيا في الاستيلاء على القرى وطرد الجيش الأوكراني (القوات العسكرية الأوكرانية) خارج المدن الموجودة بالمنطقة، وكان منزل مارينا أحد تلك المنازل التي تعرضت للقصف بصورة مستمرة.

لم يتوقف القصف يوميًّا سوى ساعات قليلة في الصباح، كانت حياة الأسرة تعود فيها بشكل مؤقت إلى صورتها الطبيعية، فتذهب إيرينا وأولينا إلى المدرسة، ومارينا إلى السوق. وفي الظهيرة يُستأنف القصف. أما في الليل، فتحتمي الأسرة بقبو المنزل.

في إحدى المرات، عند عودة إيرينا وأولينا من المدرسة، وجدت الفتاتان أنفسهما في مرمى النيران المتبادلة بين الطرفين، ولم تستطع مارينا أن تصل إليهما بسبب القذائف التي انهمرت كالمطر. تدين الفتاتان بالفضل في نجاتهن ذلك اليوم إلى صاحبة متجر أبعدتهما عن الشارع، واستضافتهما في قبو متجرها حتى انتهاء القصف.

كان ذلك الحادث بمثابة إشارة إلى مارينا بوجوب الرحيل من ذلك المكان.

هناك عشر عائلات على الأقل اتخذت نفس قرار الرحيل عن دونباس والسكن في إحدى القرى القريبة من منطقة الحظر في تشيرنوبل. المشترك بين كثيرٍ منهم أن القرار كان مبنيًّا على ترشيح صديق قديم، وفي أحيان أخرى بترشيح من محرك بحث غوغل، كتلك المرة التي بحثت فيها سيدة من هذه العائلات عن أرخص مكان للسكن في أوكرانيا، لتدفع محركات بحث غوغل لها باسم تشيرنوبل.

قد يهمك أيضًا: لماذا طالب آينشتاين بصنع القنبلة الذرية؟

ماذا عن أخطار الإشعاع؟

الصورة: Roman Harak

منذ وقوع الكارثة والعلماء يراقبون باستمرار مستويات الإشعاع في التربة والأشجار والنباتات والحيوانات الموجودة بالقرب من تشيرنوبل، حتى في تلك المناطق التي تقع خارج منطقة الحظر.

يرى دكتور «فاليري كاشباروف»، الباحث في المعهد الأوكراني لفحص المزروعات بالأشعة، أن خطر الإشعاع لم يعد قائمًا إلا في بعض المناطق التي يُشكل تلوث التربة فيها خطرًا على حياة الناس.

لكن بالرغم من هذا، فإن كاشباروف وفريقه اكتشفوا مؤخرًا نِسَبًا خطيرة من عنصر «سيزيوم 173» المشع في ألبان الأبقار المصنعة في بعض المناطق خارج منطقة الحظر، إضافة إلى امتصاص جذور بعض النباتات لجسيمات من عنصر السيزيوم المشع، والتي انتقلت بدورها إلى قطعان الماشية التي تتغذى عليها.

تناوُل هذه النباتات أو اللحوم أو الألبان بكميات كبيرة بإمكانه أن يدمر الخلايا البشرية، وفي بعض الحالات يمكنه أن يتسبب بسرطان الغدة الدرقية. لكن هذه الأخطار، كما يوضح كاشباروف، مقتصرة على مناطق محددة يحاول هو وفريقه منذ 30 عامًا تحديدها بدقة، كي يتمكن من تقدير الأخطار المحتملة التي قد يتعرض لها من يعيش ويعمل بالقرب من المنطقة المحظورة.

ينظر كاشباروف إلى خريطة توضح نسب عنصر السيزيوم المُشِع في أنحاء تشيرنوبل، مؤكدًا أن خطر الزراعة وتربية الحيوانات وشرب ألبان الماعز في القرية التي تعيش فيها مارينا وأسرتها قليلة جدًّا. لكن تظل المنطقة تخضع للفحص لتقدير نسبة الإشعاع في النباتات البرية كالفطر (عش الغراب) والتوت البري.

فكرت مارينا كثيرًا في خطر الإشعاع، لكنها وجدته هينًا مقارنة بالجحيم الذي هربت منه، تقول:

«قد يقتلنا الإشعاع ببطء. لكنه لن يُطلِق علينا الرصاص أو يُلقي علينا القنابل. العيش مع الإشعاع أهون علينا من العيش في ظل الحرب».

أصحاب الأعمال

في المناطق المحيطة بمنطقة الحظر، والتي تبعد عن العاصمة كييف مسافة ساعتين فقط بالسيارة، لم تهاجر العائلات فقط بحثًا عن فرص في تلك القرى المهجورة، بل جاء إليها أصحاب المشروعات أيضًا.

يسير «فاديم مانزوك» مع كلبه بمحاذاة السور المعدني الذي يحيط بمنطقة الحظر، مكانه المفضل على حد قوله، والذي يستمتع فيه بغناء الطيور وهدوء الغابة.

يقول فاديم: «الحياة هنا تشبه كثيرًا الحياة في شمال فنلندا أو ألاسكا (..) هذه المنطقة لديها أقل كثافة سكانية في جميع أنحاء أوكرانيا، شخصان فقط لكل كيلومتر مربع».

كان فاديم يعيش سابقًا في بلدة شرقي أوكرانيا، وكان رجل أعمال ناجحًا يربح سنويًّا ما يعادل مليون دولار. لكن بعد أن أضحت بلدته في الخطوط الأمامية لمعارك الانفصاليين، وبعدما قُصِفت بنيران المدفعية، طُمِست مصانعه ومخازنه التي ازدهرت في الماضي، ثم لم يعد لها وجود.

يتذكر فاديم تلك المرة التي نظر فيها من نافذته الخلفية وشاهد الثوار يقيمون متراسًا أمام سور حديقته مباشرة، وفي بعض الأحيان كان الجيشان يتمركزان على مسافة مئة متر فقط من بعضهما.

تحمَّل فاديم وأسرته لمدة تزيد عن السنة، روتين التحقق من هويتهم في نقاط التفتيش العسكرية في جميع أنحاء البلدة. شاهدوا جثثًا مُلقاة على الطريق، بل شهدوا بأنفسهم حادثة قتل، عندما سحب الثوار رجلًا من عربة تقف أمام عربتهم مباشرة، وأطلقوا عليه النار في وضح النهار.

لم يستطع فاديم تحمُّل هذه الحياة الرهيبة، فهرب هو وأسرته من هورليفكا وتركوا كل شيء ورائهم.

بداية جديدة

زيارة إلى الأماكن التي أُخليت من السكان بالقرب من تشيرنوبل

كلٌّ من مارينا وفاديم عانى من ويلات الحرب، من الشعور الدائم بالخوف لذلك تبدو حاجتهم إلى الهدوء والسلام منطقية، وبها قدر كبير من الحكمة.

عاش فاديم وأسرته على مدخراتهم لبضعة أشهر، مُتنقلين في أنحاء أوكرانيا بحثًا عن سُبُل للبدء من جديد. وفي أحد الأيام سمع فاديم من أحد أقاربه عن عقار بالقرب من تشيرنوبل معروض للبيع بثمن زهيد. ذهب بنفسه ليعاين العقار الذي كان عبارة عن «صومعة غلال»، وأشبه ببرج في المزارع. كان المبنى يقع في قرية على حدود منطقة الحظر.

لم تقتصر مميزات العقار على ثمنه الزهيد فقط، فقد كان يبعُد عن العاصمة كييف مسافة 115 مترًا فقط، ما جعل شراؤه فرصة جيدة للتوسع في الأعمال.

قابل فاديم مالك العقار واشتراه بثمنٍ زهيد، واشتري أيضًا مستودعًا بمبلغ 1,400 دولار، وثلاثة منازل بمبلغ 240 دولارًا، ووصلهم بالكهرباء، وشرع يعمل في مجال صهر المعادن.

قرر فاديم أن يتركز عمله الجديد على تقديم منتجات مصنوعة من النفايات. لم يُحالفه الحظ في العام الأول، لكن تحسن الأمر كثيرًا آخر عامين.

كثيرًا ما يُفكر فاديم في أخطار الإشعاع، حتى إنه اشترى لنفسه عداد غايغر محمولًا باليد ليقيس نسبة الإشعاع باستمرار. لكنه بالرغم من ذلك، مطمئن إلى أن نسبة الإشعاع في الجو آمنة. بخلاف ذلك، فالذي شهده في الحرب يجعل كل شيء سواه هينًا.

لا يمتن فاديم فقط لنجاته من الحرب، بل يستمتع بحياته الجديدة في آخر مكان يتوقع أحدنا أن يستمتع أي إنسان بالحياة فيه.

كلٌّ من مارينا وفاديم عانى من ويلات الحرب، من الشعور الدائم بالخوف، بانعدام الأمان والخوف من الموت أو فقد الأحبة. لذلك تبدو حاجتهم إلى الهدوء والسلام منطقية، وبها قدر كبير من الحكمة، حتى لو كان هذا الاختيار الغريب يمنعهم من الحصول على أصدقاء كُثُر وفرص أفضل للحياة.

كل ما يهم مارينا أنها وأسرتها يحظون بنوم جيد ولا يشعرون بالحاجة إلى الاختباء.

تفكر زوجة فاديم في مسقط رأسها كثيرًا، وتشعر أحيانًا بالحنين إليه. لكنها الآن هنا، في تشيرنوبل، ترى مستقبلًا لأسرتها بعد أن ظنوا أنهم فقدوا كل شيء. للغرابة، في هذا المكان الذي شهد واحدة من أسوأ الكوارث البشرية.

مواضيع مشابهة