تجربة شخصية: بين ابن أحلامي وابني المصاب بالتوحد

الصورة: pixabay

ضاري الرجيب
نشر في 2020/02/14

رن هاتفي عشية الأول من نوفمبر 2015، واستقبلت بفرح وبهجة خبر ولادة ابني الأول، ووُلدت معه آمالي وأحلامي لحياته المستقبلية وشكلها.

وصلت إلى المستشفى بين هرولة ومحاولات للسيطرة على نفسي وصورتي أمام من سبقوني في نادي الأبوة، التي لم أعرف عنها إلا الصورة والزاوية التي رأيت فيها الآباء في حياتي وعائلتي.

حملت هذا المخلوق الجميل الكامل بيدي، وحبست أنفاسي وأنا أتأكد من وجود كامل أصابع يديه وقدميه. شعرت بحب كبير، وشعرت كذلك أننا متأخرين وليس أمامنا وقت لتنفيذ الخطط والأحلام التي تحوم وتتموضع مع كل نظرة على أجزاء جسمه الصغير، آذنًا لها أن تستقر على كاهل هذا الولد الذي سيصنع المعجزات التي عجزت عن تحقيقها، وسيتفادى أخطائي وأخطاء البشرية كلها.

وفق خططي سوف تكون له ابتسامة ساحرة، وسوف يحبو قبل العمر المزعوم لأنه صاحب إرادة وعزيمة، سوف يحب الآيس كريم الذي سأهربه له دون علم أمه، سألبسه كما يحلو لي دون مساعدتها، سيكون له حس فكاهة ليسحر الحسناوات، سأشرح له الفلسفة ووحدة وصراع المتضادات، وسيتعلم كيف يدافع عن نفسه وعن حقوق الآخرين.

سآخذه للمدرسة في يومه الأول، وأهرب حتى لا يراني أبكي خلال انتزاعه مني للمرة الأولى. سيكون ذكيًا، ورياضيًا، سيكون رابحًا متواضعًا وأفضل خاسر، شجاع وطيب القلب، سيعشق لأول مرة في الجامعة وسيكسر قلبه بعدها بأشهر.

خططي العشرينية كانت تحتل كل لحظه أراه فيها، وكنت أشعر بفخر وتغرق عيناي بالدموع في أثناء التفكير بحفل تخرجه الافتراضي. لم أستطع أن أوفر له إلا آمالي وأحلامي وأخطائي.

راودتنا أنا ووالدته بعد ذلك شكوك حول تغيرات في سلوكه، لكننا لم نعرها اهتمامًا بالغًا حتى قبل عيده الثالث، حين قررنا الذهاب لأخصائية أطفال، وقالت: «ابنك ينطبق عليه مقياس اضطراب طيف التوحد».

ضاري الرجيب وابنه سلام

في هذه اللحظة اختفت حياة ابني من رأسي وأدركت لحظة موت أحلامي، كنت مشوشًا غاضبًا متعبًا ضائعًا بين ابني الحقيقي وحالته وابن أحلامي.

أُجبرت على التخلي عن سنين من الأحلام والآمال لكل فترة عمرية وودعتها بكل تفاصيلها، فلن يكون هناك من يتعلم الجدل والديالكتيك، ولن يكون هناك من يوقظني من نومي صباح عيد العمال، ولن يكون هناك من ينشد معي نشيد الأممية في إحدى التواريخ المرسخة في أذهاننا، ولن يكون هناك من يهاجمني لموقفي السياسي الذي يعده غير كافٍ بسبب ثوريته الشابه المتطرفة. آلمني التخلي عنها جميعًا، كفقدان شخص قريب مني دون مقدمات ولن أراه مرة أخرى.

غيمة سوداء حلت ورافقتني لمدة ليست قصيرة، انشغلت بأدوات التحليل والبحث والعمل حتى اللحظة التي أدركت فيها أن المنزلق الذي أمشي إليه طوعًا لن يكون من صالح أحد، لا سيما ابني الذي لم يتغير حبي له، بل زاد.

ودعت آخر مسودات ومخطوطات أحلامي، ومع كل ورقة تختفي في الأفق أصبحت أرى ابني الحقيقي وليس ابن آمالي، ابني الجميل، المستقل بطريقته وجميل بكل المعايير. أخذت مني المسألة وقتًا وجهدًا وإصرارًا للتخلي عن ما بنيته.

خجلت من نفسي، فلم أتربى عائليًا وفكريًا على اليأس، بل تربيت على أن أصنع شيئًا من لا شيء، وأن أرى الواقع كما هو وأعمل على تغييره، بغض النظر عن صغر حجمه أو صعوبة تغييره.

في حقيقة الأمر، الواقع يختلف عما كنا نطمح ونتأمل بغض النظر عن ظروف أبناءنا، وتخلينا عن أحلامنا الوردية، أو في حالتي أنا أحلامي الأيديولوجية الحمراء التي تكون متطرفة أحيانًا. نستطيع العمل على واقعنا وفق ظروفه، وفي عملنا الصغير التراكمي سنجد الجمال ومنظورًا مختلفًا لم نكن نراه سابقًا، وسنجد أيضًا كمًا من الحب والتجارب التي لم نتوقع حصولها.

بعد هدوء غبار المعارك واستقراره في رأسي، تذكرت مدى سوء أن يتوقع الناس منك أشياء قد لا ترغب فيها، والضغط النفسي لإرضاء من حولك وإرضاء نفسك، الذي ستنتصر فيه حتمًا توقعات الناس، وستخسر نفسك لكسب رضا الآخرين.

استجمعت ما تبقى مني، وبعد البحث عما يمكن تقديمه لابني والخطوات العملية التي تليها، تبين لي أنه في الكويت لا يوجد ما يوجه ويساعد أهالي الأطفال المصابين بالتوحد، لا يوجد من يساعدهم على تجاوز النقلة النوعية في حياتهم القادمة.

كان أفضل ما يمكن تقديمه بالتوازي مع رعاية ابني وتوفير الخدمات المعنية بحالته، هو مشاركة هؤلاء الأهالي تجربتي اليومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتوفير الدعم لهم بما أملك، والإسهام في رفع الوعي والقبول المجتمعي للتوحد.

تعلمت، خلال إعادة التعرف إلى ابني الحقيقي، أن الحب غير المشروط هو اختيارك أن تحب شخصًا ما فقط لأنه هو كما هو وليس شخصًا آخر.

وبعد التخلي عن الآمال والأحلام والخطط المستقبلية، والتركيز على الواقع ومتغيراته، استنتجت أن أوهامي كانت تحجب شيئًا عظيمًا في ابني، واكتشفت شخصيته التي في الحقيقة أفضلها على فتى أحلامي البغيض.

مواضيع مشابهة