تعاني العاملات الوافدات من آسيا إلى الأردن أوضاعًا قانونية هشة، مما يجعل كثيرًا منهن عُرضةً لمخاطر قد يدفعن حياتهن ثمنًا لها، ويتضاعف حجم المشكلة لكونهن نساءً ووافدات في آن واحد.
يعرض مقال منشور على موقع «النيويوركر» جانبًا من مآساة هاته النسوة، عن طريق تتبع مجموعة من المهاجرات اللاتي يعانين سوء معاملة مستخدميهن، ومن أوضاعهن القانونية المرتبكة في الأردن.
المهاجرات يدفعن الثمن مرتين
يبدأ المقال بسرد قصة «جوجو»، العاملة الفلبينية التي دفعت ثمن هجرتها إلى الأردن وحملها هناك. احتُجزت جوجو في المستشفى بسبب «غزارة الطمث»، حسبما أشار تقرير الشرطة الأردنية. وفي المستشفى، وجد الأطباء أن العاملة كانت حاملًا في أسبوعها السابع، لكن الجنين كان ميتًا.
أعطاها الأطباء مضادات حيوية لم تُجدِ نفعًا في وقف النزيف فماتت، ثم أعلن التقرير الطبي أن الوفاة حدثت نتيجةً لعدوى أصابت الرحم فتسببت في إجهاض غير مكتمل.
المهاجرات اللاتي يتعرضن للإيذاء الجنسي في الأردن يتحملن تبعات الأمور وحدهن، مهما كانت خطورة الموقف.
يحظر القانون الأردني الإجهاض، رغم أن عقار «سايتوتيك» (Cytotec)، المستخدم لإحداث الإجهاض، مُتداول في السوق السوداء الأردنية. ويظن بعض صديقات جوجو أنها قد تكون تناولت ذلك الدواء لأنها لم تخبر أحدًا بحملها، فقد كان الإعلان عن حملها يعرضها للحبس والترحيل وفقد فرصتها في العودة إلى العمل، وفق الكاتبة.
تُعَد الأمور المتعلقة بأجسام النساء «مسألة شرف» في كثير من المجتمعات العربية، إن لم يكن جميعها، لذا فإن الصحة الجنسية والإنجابية للنساء المهاجرات من الموضوعات التي يندر نقاشها في الأردن. وألغى برلمان الأردن منذ أسابيع قليلة فقط قانونًا كان يسمح للمغتصب أن يتملَّص من العقاب إذا تزوج بضحيته، بعد أن كافح المدافعون عن حقوق المرأة من أجل التخلص من ذلك القانون لأكثر من عقد.
إذا تعلق الأمر بحقوق النساء المهاجرات، فهي في مرتبة أكثر تأخرًا، لذا فإن المهاجرات اللاتي يتعرضن للإيذاء الجنسي يتحملن تبعات الأمور وحدهن، مهما كانت خطورة الموقف.
المهاجرون إلى الأردن: أعداد كبيرة وأوضاع سيئة
يعيش في الأردن أكثر من 1.2 مليون عامل مهاجر، لا يملك تصاريح عمل سوى ربعهم حسب مركز «تمكين»، الذي يقدم المساعدة القانونية ويُعنى بشؤون بالمهاجرين.
يبلغ عدد النساء اللاتي يعملن خادمات في المنازل، ومعظمهن من الفلبين وسريلانكا وبنجغلاديش وكينيا، نحو 50 ألفًا. ومثل جوجو، تهرب كثيرات منهن من مستخدميهن الذين ساعدوهن في الحصول على التأشيرات أملًا في زيادة رواتبهن المتدنية.
إذا تعرضت إحدى النساء المهاجرات للضرب أو التحرش، فليس أمامها سوى التحمُّل أو الهرب ومواجهة احتمالات الاحتجاز والترحيل.
ينقل المقال عن محمد الخطيب، المتحدث باسم وزارة العمل، قوله إن الغالبية من هؤلاء الخادمات يهربن، لا بسبب سوء المعاملة، بل رغبةً في زيادة دخولهن.
تعتمد العمالة المهاجرة إلى الأردن على الكفلاء الذين يساعدون على استصدار التأشيرات، فإذا ترك العامل مستخدمه تصبح أوراقه غير قانونية، ويبيت معرضًا للحبس والترحيل. وتقول ليندا الكلاش، رئيسة «تمكين»، إن العمال لا يمكنهم تغيير وظائفهم دون الحصول على موافقة الكفلاء، وهو ما يفشلون فيه في أغلب الأحيان.
إذا تعرضت إحدى النساء المهاجرات للضرب أو التحرش، فليس أمامها سوى تحمُّل الإيذاء أو الهرب ومواجهة احتمالات الاحتجاز والترحيل.
تنتشر أنظمة الوصاية على المهاجرين عبر أنحاء الشرق الأوسط، ما يجعل العلاقة بين المهاجرين وأرباب العمل غير متكافئة على الإطلاق، ويتسبب ذلك الخلل في إيذاء المهاجرين وربما وفاتهم. ففي لبنان مثلًا، يموت عاملان مهاجران كل أسبوع، حسب مسؤولين لبنانيين حكوميين، أما في الأردن فلا توجد أرقام، وتصدر الإحصاءات عن بعض المنظمات غير الحكومية.
التعاطف الفردي مع أوضاع المهاجرين ليس كافيًا
تقول كاتبة المقال إن مهاجرة فلبينية اسمها «روز» حكت لها قصة جوجو، التي كانت تعيش معها في نفس المبنى بوسط عمَّان. يملك صديق روز، وهو شاب أردني من مدينة السلط يُعرف باسم أبي عمر، 22 شقة، يؤجرها جميعًا للفلبينيات دون سواهن منذ 11 عامًا، وأغلب هؤلاء المستأجرات هاربات من العمل.
يقول أبو عمر إنه تعاطف مع هؤلاء النساء بعد أن سمع الكثير من القصص الصعبة، دون أن تكون له أي مطامع مادية أو جنسية، ويقول كذلك إنه ساعد كثيرًا من الخادمات الهاربات عن طريق تخليص أوراقهن، وتوفير مكان للسكن، وترهيب الرجال الذين يضايقوهن.
تخشى الخادمات ركوب سيارات الأجرة، لأن سائقيها يحاولون التحرش بهن.
واحدة من هؤلاء الخادمات هربت من ربتها، فاحتجزتها الشرطة ثم أطلقت سراحها، لتجد نفسها مجبرة على خدمة ضابط شرطة استخدمها للحصول على المال والجنس. وعندما علم أبو عمر بذلك، سعى إلى أن تتحول كفالتها لتكون تحت اسمه، ووفر لها السكن والمأكل حتى وجدت عملا آخر، لكنه توقف عن رعايتها عندما علم بأنها دخلت علاقة جنسية بإرادتها مع زوج مستخدمتها.
الهروب من جحيم الوطن إلى نار الغربة
شكَّل موت جوجو المفاجئ صدمة لسكان المبنى الذي كانت تقيم فيه، فقد اعتادوها محاربة ومدافعة عن حقوق النساء الفلبينيات. تقول صديقة أخرى لجوجو اسمها «كلير» إن الفتاة كانت تدافع عنها حين كان رجال عرب يحاولون مضايقتها في الطريق، فكانت تصدهم بحزم.
تحكي كلير أن جوجو هربت من مستخدم كان يجبرها على تنظيف أربعة بيوت بدلًا من واحد، مثلما كان الاتفاق بينهما، وعلى رعاية شؤون أطفاله يوم راحتها. كانت جوجو تخشى ركوب سيارات الأجرة لأن أحد سائقيها حاول التحرش بها ذات مرة، الأمر الذي ذكرها بالرعب الذي كان يسببه لها زوجها في الفلبين.
تروي روز عن صديقة أخرى اسمها «جنا»، هاتفتها ذات يوم مذعورةً وطلبت منها الحضور فورًا إلى شقتها في الواحدة بعد منتصف الليل، وعندما وصلت أخبرتها أنها ابتلعت ستة أقراص من عقار «سايتوتيك».
كان وجه جنا شاحبًا للغاية، وكانت ترتعش وتبكي على فراشها الملوث بالدم الناتج عن النزيف. روز قالت لكاتبة المقال إن موت جنا كان لِيلقي بالجميع في السجن، فلو انخفض ضغط دمها دون الستين، كانت ستُدخلها المستشفى وتتركها هناك، وإلا سألها الأطباء أسئلة تنتهي بها حتما إلى السجن، إما بسبب الإجهاض أو الزنا أو الإقامة غير الشرعية.
لم يكن هناك خيار أفضل من أن يستمر نزيف جنا في منزلها، وهو ما حدث فعلًا، في حين كانت روز تأتي إليها بالطعام والفيتامينات.
اقرأ أيضًا: الإجهاض في العالم العربي: «لا أحد يرغب في الحديث عن الأطفال الميتين»
المهاجرات يلجأن للعمل غير الرسمي
تختار عاملات مهاجرات عدة ممن يخدمن في المنازل أن يعملن بصورة غير رسمية رغم هشاشة أوضاعهن، لأنهن هربن من مشكلات أسوأ في بلادهن، وتقول كاتبة المقال إن روز أخبرتها أن أباها تحرش بأختها غير الشقيقة وحاول اغتصابها وعمرها 18 عامَا، وأنها لن تعود إلى الفلبين حتى يموت أبوها.
حكت دانا كذلك عن تجارب سيئة مرت بها مع الرجال، إذ هاجرت لأول مرة وهي في التاسعة عشرة، فعملت أولًا في الكويت ثم في سلطنة عُمان، حيث ضربها رب عملها بعد أن رفضت تغيير حفاضة طفل وهي مريضة.
في البداية، كانت دانا ترسل ما تكسبه من مال إلى زوجها، لكن بعد عودتها إلى بلادها أخبرها الجيران أن زوجها أنفق كل ما أرسلته على نزواته مع العاهرات.
تعمل دانا حاليًّا في صالون تجميل في عمَّان، وترسل المال مباشرةً إلى ابنتها الكبرى، وقد وجدت أنها تستطيع تدبير نفقات دخول ابنتها الجامعة لو استمرت في العمل لست سنوات، وعندها ستغادر الأردن إلى الأبد.
جوجو: روايات متضاربة ونهاية أليمة
تقول كاتبة المقال إنها تأكدت من تفاصيل قصة جوجو الحزينة من ملجأ للنساء الفلبينيات تديره السفارة الفلبينية في عمَّان. وصلت جوجو إلى الأردن في أغسطس 2015، ثم هربت من مستخدمها الأول بعد عام واحد، قبل أن تُحتجَز في يناير 2017 بسبب هروبها.
دفعت شركة توظيف أردنية كفالة لإخراجها من الحبس، ووعدتها بوظيفة جديدة في مدينة جرش، لكن جوجو دخلت المستشفى في فبراير 2017، وقال التقرير الطبي إن سبب وفاتها هو الإجهاض الإنتاني (الذي يحدث نتيجة عدوى في الرحم)، وأعادت سفارة الفلبين جثمانها إلى بلادها في نفس الشهر.
يقول مدير شركة التوظيف التي أخرجت جوجو من الحبس إنها لم تعترف بحملها، وادَّعت أن النزيف ما هو إلا دورتها الشهرية، وقال إنه حاول مئات المرات إقناعها بالذهاب إلى المستشفى لكنها كانت ترفض، ولم يُكتشَف الحمل سوى في المستشفى.
يضيف مدير الشركة أنه دفع تكاليف العملية التي لم تتم، ويتساءل: «كيف مات الجنين؟ هل حاولت جوجو إجهاض نفسها؟ هل كان الأب يعلم بحملها؟ كانت جوجو هاربة فلا أحد يعلم الحقيقة سوى الله».
ربما تحتاج القوانين المنظمة لأوضاع العمالة المهاجرة إلى الأردن وغيره من الدول العربية إلى إعادة النظر، قبل أن يدفع مزيد من الأشخاص المستضعفين أثمانًا باهظة، بعد أن تركوا بلادهم بحثًا عن لقمة العيش وهربًا من جحيم آخر مستعر، جعلهم يغادرون حضن الوطن لملاقاة المجهول.