هل قرأت على مواقع التواصل لمدون يتغنى بالخمر والعشيقات ويسبُّ الحكومات؟ هل لك صديق يستخدم البذاءة في سياق سياسي؟ هل سبق أن كتبت خاطرة تتلذذ فيها بالحزن؟ مرحبًا بك في جيل يستعيد مظفر النواب.
«الأيام لم تقدر على رأسي»
«أنا إنسان بسيط ذهبت إلى الأشياء بلا قناع»، هكذا يصف نفسه في لقاء له مع الجمعية الثقافية العراقية في السويد، شاعر العراق اليساري، الفصيح والعامي، مظفر النواب.
طورد مظفر من مكان لمكان هاربًا من بطش الساسة الذين يسبهم في قصائده.
مظفر، الذي انضم إلى الحزب الشيوعي العراقي وناضل معه حتى اضطره العمل السياسي إلى الهرب لإيران في ستينيات القرن الماضي، ثم تسليمه إلى العراق ليُسجن ويهرب من السجن، اشتهر بقصائد الحزن والغزل والبذاءة، وأعتى قصائده السياسية لا بد أن يكون في مطلعها شتيمة للحكومات، وقلبٌ عراقيٌّ مفطور.
شتم الحكام العرب في قصيدة «قمم»، وشتم العرب وصفقوا له في قصيدة «القدس عروس عروبتكم»، ولم يتوانَ عن ذلك حتى في رائعته «في الحانة القديمة».
طورد مظفر من مكان لمكان هاربًا من بطش الساسة الذين يسبهم في قصائده: «أولاد القحبة، لا أستثني منكم أحدًا»، بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وإريتريا وإيران وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وفنزويلا والبرازيل وتشيلي.
عاش طريدًا يخفق قلبه حنينًا إلى العراق، فيقول في أحد لقاءاته عام 2011 بعينين تذوبان وجعًا: «الحنين صعب»، وهو الذي قضى حياته يشدو:
«يجي يوم ونرد لأهلنا
يجي يوم نلم حزن الأيام وثياب الصبر ونرد لأهلنا
يجي يوم الدرب يمشي بكيفه يأخذنا لوطنا
يجي يوم نفرق الغربة على العالم ملبَس والحزن طاسات حنا»
«أروني موقفًا أكثر بذاءةً ممَّا نحن فيه»
في 2011، حين قامت ثورات ما أُطلق عليه «الربيع العربي»، وحين صار الشباب أكثر طلاقةً في التعبير عن آرائهم وغضبهم وسخطهم، كان لا بد من استعادة مقولات الشعراء الذين أفنوا حياتهم يعبرون عن وجع الشعوب وغضبها، من أمثال الشاعر العراقي أحمد مطر، والشاعر المصري أمل دنقل، والشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، وبالتأكيد الشاعر مظفر النواب.
من باع بغداد والقدس .. لن يشتري دمشق !
— سين (@Havana_H) June 15, 2013
- مظفر النواب
كيف يحتاج دم بهذا الوضوح
— هـاجــر (@Euuff) February 11, 2013
إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟
- مظفر النواب pic.twitter.com/zFEcSQbl
أتيتكِ والعراق دموع عيني
— بثينة العيسى (@Bothayna_AlEssa) November 23, 2013
لماذا قد جعلتِ الدّمعَ شاما؟!
- مظفر #يعور
مَن يقتبسون مِن مظفر على مواقع التواصل الاجتماعي معبِّرين عن كراهيتهم للأنظمة هم من يعيشون أدوار الصعاليك، الغاضبين المتمردين. مظفر كان يمثل الجانب الساخط والهائج الرافع إصبعه الوسطى لدى هؤلاء الشباب، الذين أخذتهم الأوضاع إلى الشتيمة والحزن والحديث عن النساء والخمر.
جلسوا وقت طويل في محاربة سيقان النساء و أصابع العازفين و حناجر المطربين و حزن السكارى ... ونسوا أن هؤلاء لا يستخدمون أسلحة .. ونسوا أنفسهم.
— سين (@Havana_H) August 15, 2015
هذا وطن والا قلة أدب؟
— يسار (@5YX5) August 9, 2013
لكن، كما تقول الروائية الكويتية بثينة العيسى: «ما عرفوه ولكن شُبِّهَ لهم»، إشارةً إلى حصر مظفر النواب في مجرد سباب، وهو الذي له من الشعر أجمله، ومن الصور الشعرية أعذبها وأصدقها.
اقرأ أيضًا: كيف يُقمَع الإبداع في العالم العربي؟
هل البذاءة فعل ثوري؟ يبرر مظفر موقفه من الكلمات البذيئة في شعره قائلًا: «اغفروا لي خمري وحزني وكلماتي القاسية، بعضكم قد يقول بذيئة، لا بأس، أروني موقفًا أكثر بذاءةً ممَّا نحن فيه».
لكن كيف يبرر جيل الربيع العربي البذاءة التي يستخدمها في خطابه السياسي ضد السلطات؟ هل يجدها فعل مقاومة؟
«يا حزن يا ريت أعرفك»
«يا حزن يا ريت أعرفك
كنت أسويلك حديقة ياسمين
وممشى من كاشي الفرح
قدَّام بيتك
يا حزن يا ريت أعرفك
وين تسكن
كنت أقل لك لا تجيني
وتمشي كل هاي المسافة
أنا وحدي كان أجيتك
يا حزن وحياة حزنك ما عرفتك
كنَّك مغير مشيتك
حاط ريحة رخيصة كلِّش
يا رخيص إشقد بكيتك»
في غمرة اليأس، بعد أن شهد الشباب العربي سقوط أحلامهم، لم يكن شعار «اليأس خيانة» حاميًا من الوقوع في دوامة الألم والهموم، فلم يغِب مظفر، كان حاضرًا في تغزله بالحزن، وهو الذي غلَّف الحزنُ فؤاده وخاط من غيمة أوجاعه مسند حزن يستريح عليه في الليل، ليخبرنا بأن «الحزن جميل جدًّا، والليل عديم الطعم بلا هموم».
ليس فقدان الأمل وحده، فالزعزعة النفسية التي أحدثتها الثورات العربية ألقت بأثرها على طبيعة النظام الاجتماعي والمراجعات الدينية، فضيق الحال جعل بعض الشباب يناجي الله في نشوة سُكر على مواقع التواصل، كما كان يفعل مظفر في قصيدته «وما هَمَّ ولكنه العشق».
يبقى السؤال هنا: ما الاستفادة من هذه الاستعادة؟ أهو السباب الذي يلقيه مظفر النواب و«قدمه التي في الحكومات» كما يقول؟ أم روح اللغة الغاضبة الثورية التي يحملها؟