لا يتصور العقل البشري أن يقضي إنسان أكثر من خمسين سنة من حياته في بقعة جغرافية، وينجب أبناءً وأبناؤه ينجبون أبناءً وهو لا يزال يصنف مغتربًا، أجنبيًا، وافدًا، أو غيرها من المسميات التي تطلق على كل من لا يحمل جنسية البلد التي يعيش ويقيم فيها.
في الخليج تسقط كل النظريات الاجتماعية، وتختفي كل القوانين التي سنها البشر، لتقنين ما تقضيه من عمر في بقعة جغرافية ما. ولتفصيل الأزمة، كما أفضل أن أطلق عليها، ينبغي الرجوع قليلًا للوراء لفهم كيف نشأت وكيف ظهرت أجيال تعاني من حالة ضياع في الهوية ونكران الانتماء.
كفيل ومغترب
شهدت دول الخليج في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي انتقال عدد كبير من العرب إليها، إذ كانت تصنف كثالث أكبر وجهة عالمية لهجرة العمالة، وصارت نسبة المغتربين العرب فيها 70 إلى 75% من العمالة الأجنبية في سبعينيات القرن الماضي، خصوصًا بعد نهضة النفط وانفتاح المجتمعات على المهن المختلفة، وبالأخص التعليم، الذي يعد المعلمون العرب من مؤسسيه في تلك المنطقة، حتى سميت بعض المدارس بأسمائهم تكريمًا لهم.
إلا إنه ومع تدفق المغتربين العرب، لم تكن هناك دراسة وفهم معمق لمدى تأثير ما يحدث. كانت ولا تزال قوانين الإقامة التي تشترط وجود كفيل سائدة، وهو الأمر الذي ساعد على تعزيز شعور الاغتراب والبعد الدائم عن الانتماء الحقيقي.
مؤخرًا، قررت بعض الدول كقطر إلغاء قوانين الكفالة لتتوافق مع المعايير العالمية لقوانين العمل ومطالبات المنظمات العمالية. وعلى الرغم من تحديث قوانين الإقامة، فإنها لا تزال بعيدة عن إيجاد حلول لأزمة الأجيال اللاحقة للمغتربين العرب.
عقود العمل الطويلة، بعضها لا يزال مستمرًا من ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تعني ضمنيًا بقاء المغترب في دولة الاغتراب لحين وصوله لسن التقاعد، أي عمر الستين أو السبعين أحيانًا.
لشرح تبعات هذه العقود، لنفترض اغتراب مدرس في عمر الثلاثين بإحدى الدول الخليجية مع زوجته، والعائلة تكبر مع مرور الوقت، ويدخل الأبناء المدرسة، ثم يكبر الأبناء ويتزوجون وينجبون أبناء، وتبدأ دورة إقامة أخرى على كفيل آخر بعد الأب المغترب الأول، وبالتالي نكون أمام جيل ثانٍ وثالث وُلد في الاغتراب.
تنبهت الدول الخليجية لاحقًا لازدياد عدد المغتربين العرب فيها. لكن نسبة العرب العاملين في الدول الخليجية انخفضت إلى أقل من 25% في الإحصائيات الحديثة، مع حملات إنهاء التعاقد و«التفنيش» وطلبات المغادرة النهائية، والتي تكون عادة بسبب وصول المغترب من الجيل الأول لسن التقاعد، أو رغبة بعض الدول في تحديد نسب معينة من الجنسيات المقيمة على أراضيها، بالإضافة إلى سهولة وقلة تكلفة استقدام عمالة شرق آسيوية مقارنة بالعمالة العربية.
هناك الكثير من التبعات لموجة الهجرة الأولى والعوائل التي أقامت وكبرت وتفرعت، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية، ولكننا هنا نتحدث عن مآلات ما حدث وانعكاسها على هوية أبناء الجيل الثاني والثالث.
اغتراب الهوية
ما يحدث لهذه الأجيال التي ولدت في الاغتراب هو الضياع، لو نظرنا للأمر من الكل الزوايا الممكنة، فهم لا يعدون مواطنين، لعدم وجود قوانين تجنيس وهجرة تستوعب معنى ولادة إنسان في بقعة جغرافية وقضائه عمره كاملًا فيها.
يقوم التجنيس في دول الخليج على أساس رابطة الدم، والتي تعطَى حصرًا للأب، أو جنسية تعطَى بناءً على قرارات عليا. وبالتالي، لا يمكن للجيل الثاني والثالث من المغتربين الحصول على جنسية الدولة التي ولدوا وعاشوا فيها،وهو ما لا يمكن مقارنته بقوانين بعض الدول التي تقوم على منح الجنسية في حال الزواج أو لمن يولدون في إقليمها أو أبناء المواطنات.
من ناحية أخرى، لا يتمكن المغترب من الجيل الثاني أو الثالث من تكوين رابطة هوية وانتماء مع بلده الأصلي الذي يحمل جنسيته، أو على الأقل لا يمكن لهوية موطنه الأصلي أن تطغى على هوية البلد التي يقيم فيها. إذ إن هوية الفرد تتشكل من مكونات عدة، كاللغة والدين والطائفة والعادات والتقاليد والطبقة والمكان، وهي ما يعبر عن الحالة الزمنية والمكانية للأفراد. ولكون المغترب من الجيل الثاني والثالث بعيدًا زمنيًا ومكانيًا عن بلده الأصلي، نجد أن عناصر هويته التي تتشكل تكون أقرب للبلد التي ولد ويعيش فيها.
هذه الحقيقة تخلق تخبطًا كبيرًا، سواء على الصعيد النفسي أو الاجتماعي. فأنت كـ«مواليد»، مثلما يطلَق عليهم عرفًا في بعض الدول الخليجية، تحمل كل تفاصيل البلد الذي ولدت وعشت فيه: تعرف جيدًا كيف تختصر الطرق، وتدرك تمامًا أي مكان يقدم أفضل شاي كرك، ولديك فريق مفضل كنت ترسم ألوانه على درجك المدرسي، بالإضافة إلى أنك يوم فاز المنتخب كنت تحتفل وتحمل العلم بكل حب.
يمر المغترب من الأجيال اللاحقة بمرحلة طفولة وردية، لكنه سريعًا ما يصطدم بالواقع عندما يبداً في شق طريق حياته.
وفي المقابل، عند ذهابك لمركز صحي تجد أن هناك تقسيمًا لدور المواطن والأجنبي، وعند تقدمك لشغل وظيفة في القطاع الحكومي أو شبه الحكومي، هناك احتمال كبير ألا تحصل على الوظيفة، ولو حصلت عليها فراتبك قد لا يصل إلى نصف ما يحصل عليه المواطن أو المغترب الجديد صاحب العقد الخارجي. وبعض التمييز في الحياة الاجتماعية، مثل مكان السكن وأماكن الترفيه، وغيرها من الفوارق التي خُلقت بدون وعي بين المواطنين والمقيمين.
المواطن له حق بكل ما سبق بيانه وغيره من الحقوق، لكننا هنا نناقش الموضوع من منظور أبناء الجيل الثاني والثالث من المغتربين.
نتيجة لعدم وضوح الأزمة لدى الجيل الأول، يمر المغترب من الأجيال اللاحقة بمرحلة طفولة وردية، لكنه سريعًا ما يصطدم بالواقع عندما يبداً في شق طريق حياته. وغالبًا ما يصاب بصدمة، فهو لا ينتمي للدولة التي اعتقد أنه ينتمي إليها، ولا يحق له تبني هويتها، وهو لا يزال يصنف أجنبيًا فيها. بينما لا يعدو شعور الانتماء نحو وطنه الأصلي سوى أن يكون رابطة ورقية تسمح له بالتنقل بين الدول.
تراه يرتبط بهوية الدولة التي ولد وعاش فيها أكثر من دولته الأصلية. وغالبًا ما يصل المغترب من الجيل الثاني والثالث إلى ضرورة اتخاذ قرار لمعالجة وضعه الاجتماعي والاقتصادي، فنرى كثيرًا منهم يغادر الدولة التي ولد فيها، وهناك من يعود إلى وطنه الأصلي، ومن يبحث عن دولة أخرى تعترف بإقامته فيها وتعطيه الحقوق التي حُرم منها.
مؤخرًا، بدأت الدول الخليجية في اتخاذ خطوة لرسم سياسات إقامة طويلة الأمد مع المغتربين، إذ أصدرت قطر قانون الإقامة الدائمة، وتبعتها السعودية بإصدار الإقامة المميزة، والإمارات كذلك. وكلها تشريعات تقوم على ذات الفكرة، بإعفاء بعض المقيمين من شروط الإقامة المعروفة، والتي تستلزم وجود كفيل وسقف زمني للإقامة، والسماح لهم بالاستثمار أو التملك المشروط، وبعض الامتيازات الأخرى.
لكن للحصول على هذه الامتيازات، هناك شروط معينة يجب أن تتحقق، وهي تستهدف في حقيقتها فئة معينة من المغتربين الذين يأتون إلى الخليج بأموالهم، وليسوا من ولدوا وعاشوا هناك، ممن ينتمي غالبيتهم إلى الجيل الثاني والثالث للمغتربين العرب.
الهدف الحقيقي المرجو من هذه التشريعات هو إعادة تحسين صورة قوانين الإقامة في الدول الخليجية أمام الغرب، وفتح باب للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال لتحريك الأسواق. ولا يحل هذا أزمة الهوية التي يواجهها من نتحدث عنهم.
مجمل القول، لا تزال التشريعات الخليجية بعيدة عن معالجة إشكالية المغتربين من الجيل الثاني والثالث، ولا تزال المحاولات الأخيرة لتنظيم الإقامة بعيدة عن معالجة خصوصية أجيال ولدت على أراضيها من المغتربين العرب، ولا يزال المغتربون من الجيل الثاني والثالث يتخبطون في محاولة انتماء بائسة وخلق هوية من العبث، تنتهي غالبًا بالبحث عن بقعة جغرافية أخرى، تبدأ معها دورة أخرى من إشكالية الانتماء والهوية.