«ما راح ندخل السم لأجسامنا»، «ماراح نطعم وأعلى ما في خيلكم اركبوه»، هذا ما قيل في ساحة الإرادة، حين اعتصم مجموعة من الأفراد رافضي التطعيم بلقاح فيروس كورونا. ورغم أن الكويت لم تعلن صراحة إجبار الأفراد على التطعيم، فإنها منعت الدخول إلى بعض الأماكن مثل المجمعات التجارية ودور السينما والصالونات والأندية الرياضية، ومنعت السفر إلا للمطعمين، مما حدا برافضي التطعيم إلى الاعتصام باعتبار هذه القرارات نوعًا من الإجبار الذي يخالف قناعاتهم.
تحدث المعتصمون عن رفض إدخال مواد لا يثقون بها إلى أجسامهم، وعن رفض عدم وجود خيارات للفرد، والخضوع لقرارات الدولة غير المقنعة بحسب رأيهم، بالإضافة إلى واحدة من المعتصمين رفضت اللقاح الذي يصنعه اليهود.
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديوه للمتحدثين في الاعتصام، وعلق الساخر منهم و المؤيد، لكن هل فعلًا من حق هؤلاء رفض التطعيم؟
من هم رافضو التطعيم؟
ليس رفض التطعيم أمرًا حديثًا، فقد بدأت الحركة في فرنسا عام 1763، واستمرت حتى ظهور لقاح كورونا، مرورًا برفض التطعيم الثلاثي للأطفال بحجة تسببه في التوحد.
ينقسم رافضو لقاح كورونا أربعة أقسام، أولًا: من هم ضد اللقاحات عمومًا، المؤمنون بنظرية المؤامرة، الذين يرون أن اللقاحات ما هي إلا مواد سامة تُحقن في البشر لقتلهم، للتخلص من بعض سكان الكرة الأرضية. نجم هذه النظرية هو بيل غيتس، المتهم بزراعة شرائح إلكترونية في أجساد المطعمين للتحكم بهم، ولتحقيق شركات الأدوية المكاسب المادية من بيع اللقاح.
ثانيًا: غير الواثقين في اللقاحات، وهم الذين يرون أن اللقاح صدر بسرعة غير معقولة ولا يمكن التأكد من أعراضه الجانبية على المدى الطويل بسبب هذا التسرع. ردت صحيفة الغارديان على هذا بأنه: «قبل تفشي الجائحة، كان هناك وعي عالمي باحتمال ظهور وباء ما، وقد عملت حكومات ومؤسسات وهيئات دولية على جمع الموارد لذلك، كما أطلقت مبادرات تصب في مصلحة هذا التوجه، مثل التحالف الدولي لابتكارات التأهب للأوبئة سنة 2017. كذلك كانت شركات وجامعات مثل بيونتيك وموديرنا وأكسفورد تطور تقنيات حديثة تستهدف إنتاج لقاحات بالاعتماد على الرموز الجينية لمسببات الأمراض المعدية، والتي جرى اختبارها لسنوات».
ثالثًا: المهتمون بحرية الاختيار، وهذا النوع من رافضي التطعيم لا يرفض اللقاح نفسه، بل يرفض الإجبار على تعاطيه، ويؤمن بحق كل شخص في التحكم بجسده، وأنه لا يجوز للدولة إجبار الأفراد على التطعيم والتحكم في أجسادهم.
رابعًا: الخائفون وضحايا الشائعات، فبعض رافضي التطعيم خاصة من كبار السن المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي التي تستوي فيها الشائعات والحقائق، يجدون أن من الآمن توخّي الحذر من اللقاح وعدم التطعيم، نظرًا لما قد يحدث من أعراض جانبية مثل التي يتابعونها عبر السوشيال ميديا.
ورغم حوارات الأطباء والمختصين مع كل النماذج الرافضة، لا يزال الأمر غير مقنع بالنسبة إليهم. تقول إحدى الرافضات في اعتصام ساحة الإرادة موجهة حديثها لوزير الصحة: «اطلع اشرح لنا بشكل علمي عشان تقنعنا، وما راح نقتنع».
هل التطعيم إلتزام أخلاقي؟
عندما انتشر فيروس كوفيد-19 لم يكن أحد محصنًا بطبيعة الحال، فلم يجد مقاومة وانتشر بسرعة. يتطلب إيقافه نسبة مئوية عالية من الناس المحصنين عبر تشكيل الحصانة المجتمعية، أي تشكيل مناعة جماعية تتكون عندما يكون معظم السكان قد التزموا بالتطعيم.
على سبيل المثال، إذا كان 80% من السكان محصنين ضد الفيروس، فلن يمرض أربعة من كل خمسة أشخاص يواجهون شخصًا مصابًا بالمرض (ولن ينشروا المرض أكثر من ذلك). وبهذه الطريقة نتحكم في انتشار الأمراض المعدية.
اعتمادًا على مدى القدرة على نقل العدوى، عادة ما نحتاج إلى إكساب المناعة لما بين 50% إلى 90٪ من السكان قبل أن تبدأ معدلات الإصابة في الانخفاض. والمثال على ذلك ما حدث لكل من الحصبة وشلل الأطفال والجدري، والتي كانت أمراضًا معدية شائعة جدًا وأصبحت نادرة الآن، بسبب اللقاحات التي ساعدت في تكوين الحصانة المجتمعية.
ولهذا تحديدًا بدأت الكثير من المؤسسات داخل الدولة في اعتبار التطعيم أمرًا ملحًا، مما دفع الكثيرين إلى التفكير في أنه أشبه بالواجب المدني أو الالتزام الأخلاقي.
الفيلسوف الأخلاقي «ترافيس إن رايدر» يجد أن حجة «الفوائد تفوق المخاطر» المستخدمة في هذا الصدد ليست أخلاقية، فكثيرًا ما يعتقد الآخرون خطأً أنهم قادرون على تحديد كيفية الاهتمام بصحتهم. وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا تنتشر الرياضات المحفوفة بالمخاطر حتى عندما لا يكون ذلك في مصلحة الفرد؟ ومع ذلك، فمسألة أخذ اللقاح أخلاقية وذلك في سياق اتجاهين مهمين للغاية:
- أنه يؤثر على الآخرين، فمن المتوقع أن تقلل اللقاحات الفعالة لا من معدل الإصابة فقط، بل معدلات انتقال الفيروس أيضًا. فالحصول على اللقاح يمكن أن يحمي الآخرين منك، ويسهم في وصول المجتمع إلى ما يعرف بالحصانة المجتمعية.
- يسمح الانتشار العالي للمرض بظهور المزيد من الطفرات الجينية للفيروس، وهذا هو سبب ظهور المتغيرات الجديدة. لو لم نطعم عددًا كافيًا من الأشخاص بسرعة، فقد تتطور متغيرات تكون أكثر قدرة على العدوى أو أكثر خطورة ولا يمكن مقاومتها باللقاحات الحالية.
هذا يعني بحسب رايدر أن التطعيم لا يتعلق بك وحدك فقط. ومع أنه من حقك المخاطرة بسلامتك، فإنه لا يمكن تجاهل ما جادل حوله الفيلسوف البريطاني «جون ستيوارت مل» عام 1859، من أن حريتك مقيدة بالضرر الذي يمكن أن تُلحقه بالآخرين. بمعنى آخر، ليس لديك الحق في المخاطرة بصحة الآخرين، وبالتالي فأنت ملزم بأداء دورك لتقليل معدلات العدوى وانتقالها. وبتفصيل أكبر: يجب على الأفراد ألا يسهموا في الأضرار الجماعية، خصوصًا أن سلوكهم هذا قد يحدث فرقًا في التأثيرات على الجماعة، حتى وإن كان من الصعب رؤيتها.
لكن هذا لا يعني بالطبع أنه يجب على هؤلاء أن يصمتوا حول مخاوفهم، بدعوى أن هذا الإجراء الفردي يؤدي إلى هدف جماعي. على العكس من ذلك، فعلى هذه المطالبات أن تتضمن التزامًا بالعمل من قبل الدولة، وسعيها المستمر للتصرف إزاء كل هذه المخاوف.
فحتى عندما تكون الأسباب واضحة ومستدَل عليها وحاسمة، لا يعني هذا بالضرورة أنها قد تشكل واجبًا، ولا تجعل من مسألة اللقاح مسألة ضرورية وبديهية بالنسبة للجميع. التصرف كما لو أن الحالة الأخلاقية واضحة ومباشرة في سياق تطعيمات كورونا قد ينفر أولئك الذين يرفضون التطعيم. لذلك من المهم جدًا، خصوصًا وأننا نطلب من الناس أن يحقنوا مادة في أجسامهم، أن نشركهم في الطلب، حتى لو كانت الحجة المنطقية تنحاز بوضوح نحو أهمية التطعيم وجدواه.
عدالة الوصول للموارد الطبية
هناك ما يعرف بـ«قواعد بيلمونت» (Belmont Principles) في التعامل مع المرضى في الطب الإكلينيكي، وقد طُورت كقواعد للتعامل مع عناصر الأبحاث الطبية في الأصل، لكنها تستخدم اليوم في الممارسة الطبية.
يمكن أن نفهم في ضوء هذه القواعد أن النزاع الحاصل في موضوع اللقاح نابع من التعارض بين «مبدأ احترام حرية الأشخاص» و«العدالة». فمن ناحية، يمكن للشخص عدم تتبع مسار علاج معين حتى لو هدد ذلك حياته، ومن ناحية أخرى هنالك اعتبارات مرتبطة بالعدالة، وما يهمنا منها الآن قدرة جميع الأشخاص على الوصول إلى الخدمات والموارد الصحية متى ما احتاجوا إليها.
وفي ضوء الوضع القائم، من تعطيل المؤسسات الصحية بسبب ازدحام حالات كورونا، قد يؤثر ذلك على عدالة وصول جميع المستحقين إلى الخدمات الصحية، لأن الأولوية للمرض المعدي بطبيعة الحال، كما حدث عندما أعلنت الكويت عن توقف المستشفيات عن تنفيذ العمليات الجراحية غير الطارئة، ناهيك بالضغط على العاملين في المنظومة الصحية.
هنا يثار التساؤل الشائك الذي نتج عن إعلان بعض المعتصمين في ساحة الإرادة من رافضي التطعيم أنهم لن يتلقوا اللقاح، وأنهم على استعداد لتوقيع تعهد في حال مرضهم بعدم طلب الرعاية الصحية من الدولة، فهل في حال مرض أحدهم من حق الدولة رفض علاجه بسبب هذا التعهد؟
هل التطعيم الإلزامي قانوني؟
من المفهوم جدًا أن يكون هذا الموقف معتمدًا على الثقة في المنظومة.
وُضعت مسألة حرية التعبير على طاولة النقاش في السوشيال ميديا حول تعبير رافضي التطعيم عن رأيهم في ساحة الإرادة، وهنا نقف في جانب آخر من الرفض نفسه، فالتعبير عن الرفض حق للجميع ولا تجوز مصادرته، لكن الجدل يدور هنا حول الرفض نفسه وما إذا كان منافيًا لحق المجتمع في الصحة العامة.
وفي ظل موافقة نطاق واسع من المجتمع الطبي، واعتقاد البعض فيه أن لا قيمة للتطعيم في منع انتشار المرض أو أن له أضرارًا جانبية، هل يمكن أن نعتبر التطعيم الإلزامي تحت الوباء قانونيًا؟
في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، يوجد قانون يعمل على ألا تُختصر الامتيازات أو الحصانات أو يُحرم أي شخص من الحياة والحرية دون اتباع الإجراءات القانونية اللازمة، ومنها السلطة التي تمنح الدولة القدرة على سن قوانين صحية، بما في ذلك قوانين الحجر الصحي والتطعيم لحماية مواطنيها. ولأن هذا الجدل ليس حديثًا فقد شهدت المحاكم قضايا مرتبطة بهذا الموضوع، منها قضية «جاكوبسون ضد ماساتشوستس» حول تطعيمات الجدري عام 1905، والتي قضت فيها المحكمة بإلزامية التطعيم.
جاء هذا القرار غير متعارض مع الحرية الشخصية للأفراد المكفولة حسب المادة رقم 14 من دستور الولايات المتحدة، لأن هذه الأخيرة تخضع لقيود مرتبطة بالصالح العام. فلا يمكن أن توجد الحرية الحقيقية للجميع إذا سُمح لكل فرد بالتصرف دون اعتبار للضرر الذي قد تسببه أفعاله للآخرين؛ فالحرية مقيدة بالقانون. وبهذا فإن السماح لفرد واحد برفض اللقاح قد يسهم في خرق القوانين والتنظيمات المشرعة من أجل الحفاظ على الصحة العامة.
وفي الكويت، يذكر قانون الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض السارية رقم 8 لعام 1969 في مادته 12: «ولوزير الصحة العامة أن يصدر قرارًا بالتطعيم الإجباري لوقاية المواليد او فئة معينة من السكان أو جميع السكان من أي مرض سارٍ، وفقًا لمقتضيات حماية الصحة العامة، ويحدد القرار والمواعيد والإجراءات التي تتبع في هذه الأحوال، ويستعان بأفراد الشرطة العامة في تنفيذ هذا العمل إذا اقتضت الضرورة ذلك».
يمكن القول إن الموقف الذي ينطلق من حرية الاختيار يتجاهل في الوقت نفسه العدالة بالنسبة للمجتمع. ومن المفهوم جدًا أن يكون هذا الموقف معتمدًا على الثقة في المنظومة، وقدرتها على منح الأسباب الكافية لا لتلقي اللقاح فقط، بل للتفاعل مع منتجات مختلفة لهذه المنظومة. وعلى المسؤولين أخذ هذا بعين الاعتبار، وتقديم الضمانات المستمرة والمطمئنة، وغرس الإيمان بالصالح العام كقيمة عليا في ظروف كهذه، وشرح الأسباب والتداعيات والآثار لكل الأفراد لخلق هذه الثقة.