اقتحم الهاتف حياة الأمريكيين في بداية العقد الأول من القرن العشرين. لم يفهم كثير من الناس، في البداية، كيف يهاتفون بعضهم.
أراد «ألكساندر غراهام بيل» من الناس أن يبدأوا المحادثات الهاتفية بكلمة «آهُوْي هُوْي-Ahoy hoy»، وحثَّت شركة الاتصالات الأمريكية الرائدة «AT&T» الناس على عدم استخدام كلمة «مرحبًا» (Hello)، قائلين في أحد الأدلة الإرشادية، إن «هذه وقاحة».
لكن في النهاية، استخدم الأمريكيون كلمة «مرحبًا»، لا أي شيء آخر. ثم بنوا بعدها ثقافة كاملة حول الهاتف. حذرت مجلة «إيتيكيت» قرَّاءها، من النساء مثلًا، من دعوة الناس على العشاء من خلال الهاتف، لكنهم استسلموا عندما لم تنجح تحذيراتهم.
ابتاع الطبيب هاتفًا، فابتاع الصيدلي هاتفًا، فابتاع المريض هاتفًا. انتشرت حمى الهواتف سريعًا في أمريكا. لم يحدث الأمر دفعة واحدة، لكنه كان ثابتًا ومستمرًّا.
في مقال بمجلة «The Atlantic»، يشرح «أليكسس مادريغال»، الكاتب المختص في علوم التكنولوجيا، ومؤلف كتاب «Powering the Dream: The History and Promise of Green Technology»، عن الطريقة التي نتعامل بها مع هواتفنا، وكيف تغيَّرت مع الوقت.
إيتيكيت الرد على الهواتف
كانت العادات الاجتماعية تفصل بين كثير من الناس وهذه الأداة التقنية بشكلها المجسم، وبالحبل المجعد الواصل بينها وبين القاعدة، والأسلاك التي تعبر البلاد حتى تجتمع معًا في محطات تحويل واسعة ومتضخمة ومتعددة، ثم بعد ذلك تتفرع إلى مدن وأحياء ومبانٍ وبيوت مختلفة.
عدم الرد على الهاتف يشبه أن يطرق أحدهم على باب منزلك، بينما تنتظر أنت وراء الباب لا تجيب الطارق. إنه أمر وقح ومريب.
في اللحظة التي كان يرن فيها الهاتف، كان الرد أمرًا لا مفر منه، في إعلان «هاللو، كيتي» القديم، والمصمم خصوصًا لتعليم الأطفال كيفية استخدام الهاتف. يرن الهاتف، ونسمع كيتي وهي تنادي على أمها، وتقول: «الهاتف يرن. ماما.. ماما.. إن الهاتف يرن. أسرعي، سيتوقف عن الرنين».
قبل انتشار تقنيات «هوية المتصل» أو حتى خدمة «69» (التي تسمح لك بالاتصال بآخر شخص اتصل بك)، فإنك إذا فشلت في الوصول إلى الهاتف في الوقت المناسب، فقد ضاعت فرصتك. يجب عليك الإنتظار إلى أن يتصل بك مرة أخرى. لكن ماذا إذا كان لدى المتصل أمر شديد الأهمية ليخبرك به، أو يطلبه منك؟ لقد كانت المكالمات الفائتة أمرًا يبعث على القلق لكثرة الاحتمالات.
قد يهمك أيضًا: ما الذي تفعله الهواتف الذكية في أدمغتنا؟
عدم الرد على الهاتف يشبه أن يطرق أحدهم على باب منزلك، بينما تنتظر أنت وراء الباب لا تجيب الطارق. إنه أمر وقح، غريب، وكذلك مريب. إضافة إلى أنه كلما رن الهاتف تصاعدت الأسئلة، وكثرت الاحتمالات.. من المتصل؟ ماذا يريد؟ هل كان الاتصال يخصني؟
نظرة سريعة على الشاشة قبل التجاهل
أصبح هذا من البديهيات الثقافية لفهم كيفية التعامل مع التكنولوجيا بغرض التواصل مع الآخرين. عندما تتصل بأحدهم، سيرد عليك إذا كان بالمنزل، سيقول: «مرحبًا»، ويتحدث معك. وإذا اتصل أحدهم بك، وكنت بالمنزل، ستلتقط الهاتف، وتقول: «مرحبًا».
كانت هذه طريقة عمل الهاتف، بهذه البساطة. وتوقع إجابة الآخرين للهاتف هي ما جعلت الهاتف يستمر حتى الآن كوسيلة تواصل مزمنة.
لم يحدث هذا بقصد، كانت هذه هي الطريقة التي تطوَّرت بها الأمور ببساطة، فعل البشر ما فعلوه دائمًا: تفاعلوا مع بعضهم بطرق مختلفة. ونتج عن هذا التفاعل نتيجة معينة.
عودة إلى اللحظة الحالية. فلم يعد أحد يرد على الهاتف، حتى إن عددًا من أماكن العمل تفعل ما في وسعها لتتجنب الرد على الهاتف. تقول الكاتبة إنه من بين 50 مكالمة أو أكثر، أجابت هي عن الهاتف أربع مرات أو خمس فقط. رد الفعل السريع لهاتف يرن لم يعد التقاط السماعة.
كما يصف الباحث «روبرت هوبر» الأمر، فالمسألة «ليست طقوسًا، لكنها كانت مجرد روتين، وتكراره جعله أقرب للطقوس». رد فعل منعكس، ربما هو الوصف الأدق، عندما يرن الهاتف يتسارع جميع الحاضرين للرد، وهم يعرفون كيف يُجيبون. لكن الآن، فقد نسي الناس كيف يجيبون الهاتف، وماذا يقولون بعد ذلك.
إذا سمع المرء صوتًا ينطلق من هاتفه لا يزعج نفسه بالرد، ربما يكتفي بنظرة سريعة على الشاشة لمعرفة المتصل، ثم يتجاهل الهاتف في العادة.
هناك أسباب عدة لفناء تلك السلوكيات واحدة تلو الأخرى. وأحد أهم الأسباب هو: وجود خيارات أخرى للتواصل الاجتماعي. فالرسائل النصية وخدمات الوسائط المتعددة المرتبطة بها مفيدة وكافية، كلمات ممزوجة برموز تعبيرية، صور كرتونية، جي آي إف، صور، فيديوهات، وروابط.
إن الرسائل النصية أمر ممتع، فهي غير متزامنة، ويمكن تنفيذه مع أكثر من شخص في الوقت نفسه. إنه أقرب ما يكون لفورية المكالمات. لدى كلٍّ منا حساب على تويتر وفيسبوك وسلاك والبريد الإلكتروني ومكالمات فيس تايم الواردة من أفراد العائلة.
كل هذا جعل التواصل أفضل وأسهل. لكنه جعلنا في الوقت نفسه نطوِّر عادات جديدة تسمح لنا بعزل أنفسنا وقتما نحب وكيفما نشاء.
تعترف الكاتبة بأنه في خلال 2016 و2017، كان هنالك سبب آخر أكثر تحديدًا وراء التعامل مع الهاتف بحذر. ربما 80%، أو حتى 90%، من المكالمات الواردة إلى الهاتف، كانت مكالمات غير مرغوب فيها أو «سبام».
الآن، إذا سمع المرء صوتًا ينطلق من هاتفه، يتحمس أولًا لاعتقاده بأنها رسالة نصية، لكن عندما يستمر الهاتف في الرنين ويدرك أنها مكالمة، لا يزعج نفسه بالرد، ربما نظرة سريعة على الشاشة لمعرفة من يتصل، ثم تجاهل الهاتف في العادة.
إن الهاتف يرن بمعدل مرة أو اثنتين في اليوم فقط، ما يعني أن المرء يمكنه أن يقضي أسبوعًا كاملًا دون الرد على الهاتف، دون معرفة سبب المكالمة، أو حتى الرغبة في الإجابة على الهاتف. لو كان أمرًا مهمًّا، لا يحتمل التأجيل، لكان المتصل قد أرسل لي رسالة نصية. هكذا نفكر. وربما نكون محقين.
على ناحية أخرى، تحاول لجنة الاتصالات الفيدرالية تقليل المكالمات المسجلة (سواء لأغراض تسويقة أو ترويجية) مسبقًا لأكثر من نصف عقد، ولكن لا يبدو أن الأمر ينجح. يحاول تطبيق «YouMail» الذي يحاول حظر هذه المكالمات تلقائيًّا، تقدير عدد المكالمات المسجلة مسبقًا التي تجري كل شهر، والعدد كبير جدًّا، ويظهر في إبريل 2018 أعلى معدل لتلك المكالمات.
بالطبع، كان المسوقون عبر الهاتف أكثر من استفاد من ثقافة الرد الدائم على الهاتف. لكن توظيف الناس يكلف أموالًا طائلة، والناس أنفسهم يَملُّون من الوظائف التكرارية ويستقيلون.
بينما الآلات (نوع البرامج الذي يمكنه الاتصال بأرقام الهواتف) أقل تكلفة، ولا يثملون، أو يتحتم عليهم العودة للدراسة، أو يمرض طفلهم الصغير، فيأخذون أجازة. إنهم لا يفعلون سوى الاتصال والاتصال والاتصال دون كلل أو ملل.
قد يعجبك أيضًا: هاتفك، حرفيًّا، جزء منك
عندما يخطئ شخص، ويرد على الهاتف دون تفكير مسبق، تكون هناك مكالمة مسجلة. من شركة الاتصالات، من شخص يود الترويج لبضاعة ما.
يبدو أن الأمور تتغيَّر، والطريقة التي نتعامل بها مع هواتفنا تتغيَّر بشكل واسع هي الأخرى. نحن لم نعد نرد على هواتفنا بنفس المعدل، ولا بنفس الاهتمام. لكن كلما زادت مساحات سيطرتنا على أمور كهذه، يبدو أننا نفقد السيطرة على أمور أخرى، أبسطها قدرتنا على تبادل حديث لطيف مع طرف آخر على الناحية الأخرى.