حطمت الثورات الدولة الأموية وقتلت أمراءها وملوكها الذين دانت لهم كثير من مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولم ينجُ سوى الأمير الشاب عبد الرحمن الأول، المعروف أيضًا باسم «صقر قريش» أو عبد الرحمن الداخل، الذي نجح في الهروب من دمشق ووصل إلى شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، ليعلنها إمارةً مستقلةً عام 756 من الميلاد.
يروي لنا مقال نُشر على موقع «OZY» حكاية عبد الرحمن الداخل، أول حاكم مسلم عرفته أوروبا، ويسلط الضوء على بعض اللمحات التاريخية المهمة من تاريخ الأندلس.
الحضارة الإسلامية في الأندلس: ضوء يبدد ظُلمات أوروبا
يذكر المؤرخ «ديفيد ليفيرينج لويس» في كتابه «الإسلام وصناعة أوروبا» أن الغزو الإسلامي لأوروبا كان أحد أكبر الثورات التاريخية على مستوى السَّطوة والدين والثقافة والثروة، بالنسبة إلى أوروبا التي كانت غارقة آنذاك في عصر الظلمات، بعد أن خلَّف سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية مجموعات أغلبها مسيحية في شبه الجزيرة الأيبيرية قبل الفتح الإسلامي.
صارت قرطبة أكبر وأكثر مدن أوروبا ازدهارًا، حتى بدت باريس إلى جوارها مثل «قرية خربة».
يقول أستاذ الدراسات العربية بجامعة نيويورك في أبو ظبي، «جاستين ستيرنز»، إن الغزو الإسلامي لأوروبا حدث بسرعة لم يستوعب معها الإسبان أن المسلمين سيبقون في المنطقة لفترة طويلة، لكن الجيوش الإسلامية توغلت حتى وصلت إلى مناطق من جنوب فرنسا.
عبد الرحمن الداخل: توحيد أرض الأندلس
يقول كاتب المقال إنه عندما وصل الرحمن الداخل إلى أوروبا، كان المسلمون يسيطرون على ثلثي جنوب شبه جزيرة أيبيريا. وباعتباره سليلًا للأسرة الأموية، تمكن من بسط سيطرته وتأكيد شرعيته من أجل توحيد تلك الأراضي.
استمرت دولة الداخل لمدة ثلاثة قرون، وحكم المسلمون أجزاءً من المنطقة التي عُرفت بالأندلس لِما يقرب من 800 عام بعد ذلك.
عبد الرحمن الناصر: استقرار سياسي واقتصادي وثقافي
قد يكون أحد أعظم القادة الأوائل للأندلس هو عبد الرحمن الثالث، أو عبد الرحمن الناصر لدين الله، سليل عبد الرحمن الأول، الذي وصل إلى الحكم بعد أكثر من 120 عامًا من وفاة الداخل، واستمر حكمه 51 عامًا، وأعلن نفسه خليفة ليؤكد سُلطته الدينية إضافةً إلى السُّلطة السياسية التي تمتع بها.
أسند عبد الرحمن الناصر مناصب إدارية مهمة لعلماء يهود، وتميَّز حكمه بالتسامح الديني عمومًا.
يصف ستيرنز عبد الرحمن الناصر بأنه كان حاكمًا رائعًا، ويرى أن قيادته العسكرية وفرت استقرارًا اقتصاديًّا وسياسيًّا شكَّل حافزًا ثقافيًّا في أوروبا الإسلامية، كما شيَّد مدينة رائعة مترامية الأطراف عُرفت بمدينة الزهراء، يعتبرها المؤرخ «أليخاندرو جارسيا سان خوان» أوضح مثال مادي على روعة الخلافة في قرطبة من النواحي السياسية والثقافية والاقتصادية.
قد يعجبك أيضًا: هل كان الترفيه سببًا في انهيار الحضارات؟
الأندلس: نموذج فريد للتعايش الديني
كان مستوى التطور الحضري في قرطبة، ومدن أخرى مثل توليدو وإشبيلية وغرناطة، يتفوق بمراحل على ما وصلت إليه بقية أنحاء القارة من ناحية الإنارة والمكتبات وطُرُق الري الحديثة، ويشير ستيرنز إلى أن قرطبة صارت أكبر وأكثر مدن أوروبا ازدهارًا، حتى أنها جعلت باريس تبدو مثل «قرية خربة راكدة».
عاش المسلمون واليهود والمسيحيون معًا طَوَال هذه الأعوام الثمانمئة، ولم يكن مُنتظرًا من السكان أن يعتنقوا الإسلام، بل إن عبد الرحمن الناصر أسند مناصب إدارية مهمة لعلماء يهود.
يقول كاتب المقال إن المؤرخين ما زالوا يتجادلون بشأن العلاقة بين المسلمين والمجموعات الدينية الأخرى في الأندلس، خصوصًا لأن موضوعات مثل التعددية الثقافية والتسامح تلقى اهتمامًا كبيرًا في زماننا، وقد استغرق الأمر مئات السنوات كي يتحول السكان في المنطقة إلى أغلبية مسلمة.
رغم أن المسلمين واليهود والمسيحيين تعايشوا في مجموعات مختلفة، حسب ستيرنز، فإن ذلك لا يعني أن الأندلس كانت نموذجًا لما يجب أن يكون عليه الوضع حاليًّا، فقد كان على غير المسلمين دفع ضرائب مختلفة، كما أن اليهود تحديدًا تعرضوا للاضطهاد في أوقات معينة من ذلك التاريخ الطويل للحكم الإسلامي، فعانوا من الظلم بنفس القدر الذي عانوه في المناطق المسيحية من أوروبا.
يعتَبر ستيرنز هذا التعايش نموذجًا فريدًا للتفاعل بين أصحاب الأديان المختلفة عبر قرون طويلة في أوروبا، لكنه لا يعتبره نموذجًا عظيمًا للانسجام بين الأديان المتعددة، ويرى أن إسبانيا تتميز بذلك التاريخ المعقد الذي يخص سكانها المسلمين، وهو أمر لا تشاركه فيها أي دولة أوروبية أخرى.
قد يهمك أيضًا: لماذا لا نرضى بممارسة الآخرين شعائرهم في بلداننا؟
عندما استعاد المسيحيون السيطرة على شبه الجزيرة الأيبيرية، أنهت المحاكمات وعمليات الإجلاء والتحويل القسري عن الإسلام وجود المسلمين بدرجة هائلة مع حلول القرن السابع عشر.
لا صلاة في الجامع الكبير
يظل الجامع الكبير في قرطبة أحد أعظم المعالم الدينية في إسبانيا، ويعود تاريخ بنائه إلى عصر عبد الرحمن الداخل. وبعد مئات السنوات، تحول المسجد إلى كاتدرائية مسيحية، غير أن السِّمات المعمارية تكشف أنه بُني مسجدًا، رغم الحملات التي شُنَّت من أجل محو هويته الأصلية، حسب سان خوان.
اليوم، يُمنع المسلمون الإسبان من الدخول للصلاة في ذلك المسجد التاريخي، وهو ما يُعد مثالًا فجًّا على مشكلة إسبانيا في التعامل مع تاريخها الإسلامي الطويل، ويعتبره سان خوان جهلًا شديدًا يثير القلق.
بينما تمثل الأندلس تراثًا خلافيًّا في إسبانيا، يعتبرها المسلمون أسطورة ورمزًا مهمًّا، حتى أن بعض المتشددين يطالبون بإعادتها إلى أحضان الإسلام، فيما تمثل لغيرهم من المعتدلين صورة شعرية أو لوحة جميلة أو مقطوعة موسيقية شجية، فالأندلس رغم كونها قطعة من التاريخ، إلا أنها ما زالت حية في القلوب.