توفي أبو بكر الصديق في الشهور الأولى من عام 13 هجرية/644 ميلادية، وكان أوصى قبل وفاته بأن يخلفه عمر بن الخطاب. لم يكن ذلك غريبًا، لأن عمر كان من أقرب الناس إلى أبي بكر، إذ كان مستشاره الأول في الأمور الصعبة والعظيمة، وكان لعمر دور كبير في اختيار أبي بكر لمنصب الخلافة في بيعة «السقيفة».
إذًا يمكن القول إن وصول عمر إلى كرسي الخلافة كان متابعة لنتائج اجتماع السقيفة. فمع استخلاف عمر بقي منصب الخلافة محصورًا في العصبية القرشية دونًا عن الأنصار، واستمر المنصب في إحدى القبائل الضعيفة (قبيلة عدي التي ينتسب إليها عمر بن الخطاب)، ولم يصل إلى الهاشميين أو بني عبد مناف.
موقف علي من استخلاف عمر
أما عن موقف علي بن أبي طالب من استخلاف عمر، فبينما نجد أن الروايات السنية التقليدية لا تذكر أن علي أبدى أي اعتراض على خلافة عمر، فإننا في الوقت نفسه نلاحظ أن الروايات الشيعية أظهرت اعتراضه وسخطه على ذلك الأمر.
فبحسب ما يذكر الشيخ المفيد في كتابه «الأمالي»، فإن عليًّا قال: «والله لقد بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا (يقصد الخلافة)، فكتمت غيظي وانتظرت أمر ربي وألصقت كلكلي بالأرض... واستخلف عمر، وقد علم والله أني أولى الناس بهم مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي...».
لكن السياق الروائي الشيعي لا يذكر أن هناك أي أحداث عنيفة قد وقعت في بداية حكم عمر، مثل تلك الأحداث التي وردت في السياق نفسه إبان تناول فترة السقيفة وبداية حكم أبي بكر.
يظهر ذلك في ما ورد في الرواية السابقة: «فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي»، ما يؤكد تسليم علي بن أبي طالب بالواقع المفروض عليه من ناحية، وتفاعله معه بشكل إيجابي من ناحية أخرى. يظهر ذلك التفاعل بشكل واضح في طبيعة العلاقة بين علي والخليفة الثاني. فالمصادر الشيعية تمتلئ بالروايات التي تبين مشورة الأول للثاني في كثير من المواقف.
من ذلك أن علي بن أبي طالب نصح عمر بعد استخلافه بـ«ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن، وإن تركتهن، فلا ينفعك شيء سواهن. قال: وما هن؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال له عمر: أبلغت وأوجزت»، وذلك حسبما ذكر ابن شهر أشوب في كتابه «مناقب آل أبي طالب».
أما على صعيد الاستشارة العسكرية، فقد أوردت المصادر الشيعية، ومنها «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، ما يفيد بأن عليًّا كان اعترض بشدة على فكرة أن يقود عمر جيش المسلمين بنفسه ضد الفرس، فكان مما قاله له: «فكن قطبًا، واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها». وقال علي للخليفة عندما أراد أن يقود الجيش ضد الروم: «فابعث إليهم رجلًا مجربًا واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله، فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، فردءًا للناس ومثابة للمسلمين».
أما المجال الثاني الذي تُظهر الروايات الشيعية أن علي قدم فيه نصائح مهمة إلى عمر، فهو مجال الأعمال المالية والتنظيمية والإدارية للدولة الإسلامية. ورد في تاريخ اليعقوبي، أن عليًّا هو الذي نصح عمر بن الخطاب بعدم تقسيم أراضي السواد في العراق بعد فتحها، وأنه برر ذلك بقوله إن «قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا، فقال: وفقك الله، هذا الرأي».
يعزو اليعقوبي الفضل لعلي في وضع التقويم الهجري، وذلك عندما وقع الخليفة في مشكلة عدم معرفة تواريخ كتابة الرسائل التي تأتيه من عُمَّاله في الولايات المختلفة.
أكدت الروايات الشيعية علم علي بن أبي طالب الغزير، وانتهزت كل فرصة للتعريض بمحدودية علم عمر وإثبات جهله وقصور إدراكه.
أما المجال الثالث الذي شهد مشورة ونصيحة علي بن أبي طالب للخليفة الثاني، فهو مجال الفقه والعلم الديني.
يذكر اليعقوبي صراحةً أسماء عدد من الصحابة الذين تميزوا بالفقه والعلم في زمن عمر، فيجعل على رأسهم وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب. وظهر أثر ذلك في كثير من الروايات، ومنها أن عمر جيء إليه برجل سرق فقطع يده، ثم جيء بالرجل بعد ذلك، وقد سرق مرة أخرى، فقطع رجله، فلما أوتي بالرجل للخليفة للمرة الثالثة وقد سرق، وهَمَّ الخليفة أن يقطعه، تدخَّل علي بن أبي طالب، فعارض عمر، وقال له: «لا تفعل. قد قطعت يده ورجله، ولكن احبسه».
موقف آخر يظهر فيه اعتراض علي بن أبي طالب على الأحكام القضائية التي أصدرها عمر، ذلك أن خمسة رجال زنوا، فأصدر عمر عليهم حكمًا بالرجم، فخالفه علي وأصدر حكمًا مختلفًا لكل واحد من الخمسة، فلما تعجب الخليفة من ذلك، شرح علي حُكمه: «فأما الأول، فكان ذميًّا زنا بمسلمة، فخرج عن ذمته. وأما الثاني، فرجل محصن زنا، فرجمناه. وأما الثالث، فغير محصن، فضربناه الحد. وأما الرابع، فعبدٌ زنا، فضربناه نصف الحد. وأما الخامس، فمغلوب على عقله مجنون، فعذرناه»، وذلك بحسب ما يذكر التستري في كتابه «قضاء أمير المؤمنين».
من الروايات الأخرى التي تبين اعتراض ابن أبي طالب على بعض أحكام عمر القضائية، أن الخليفة الثاني كان أصدر حكمًا برجم امرأة زنت، فحملت سفاحًا، فعارضه علي ووضح له أنه لا يحق له أن ينفذ مثل هذا الحد في تلك الحالة، بسبب أن ابن المرأة بريء، ولا سبيل للخليفة عليه، وأشار بأن يترك المرأة حتى تلد وتضع ولدها، ثم ينفذ الحد عليها، فقال عمر عندها قولته المشهورة: «لولا علي لهلك عمر».
إضافة إلى الروايات السابقة التي تُظهر تميز علي بن أبي طالب في الفقه والقضاء، فإن هناك روايات أخرى تبين مدى علمه الواسع في العقائد والأصول والعبادات.
هناك ملاحظات يمكن الإشارة إليها في ما يتعلق بروايات مشورة علي لعمر في السياق الروائي الشيعي عمومًا، ومنها:
- الروايات الشيعية حاولت أن تؤكد علم علي بن أبي طالب الغزير، وانتهزت كل فرصة ممكنة للتعريض بمحدودية علم عمر بن الخطاب وإثبات جهله وقصور إدراكه في كثير من المسائل، وهو ما يشير بطبيعة الحال إلى عدم استحقاقه منصب الخلافة
- معظم انجازات عمر بن الخطاب، زمن خلافته، في ميادين السياسة والإدارة والتنظيمات المالية والاقتصادية للدولة، قد نسبتها الروايات الشيعية إلى علي بن أبي طالب، فأصبح هو، لا عمر، المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية بموجب آرائه الصائبة والسديدة التي أشار بها على الخليفة
- الصورة التي رسمتها الروايات الشيعية للعلاقة بين علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، إبان خلافة الأخير، تُظهر قدرًا كبيرًا من المودة، ما يتعارض بشكل كامل مع صورة العلاقة بين الرجلين في زمن خلافة أبي بكر، وما ورد فيها من أحداث عنف ومحاولة اجبار عمر لعلي على البيعة
- معظم الروايات التي تطرقت إلى المشورة بين علي وعمر، أظهرت أن هناك اتصالًا مباشرًا بين الرجلين، وأن المشورة كانت تجري في حضور علي لمجلس الخليفة، وليس عن طريق وسيط كما كان الحال زمن أبي بكر
يمكن أن يكون تغير طبيعة تلك الروايات دالًّا على أن حالة انعزال علي بن أبي طالب عن السلطة السياسية في زمن عمر، قد قلت وتضاءلت عنها في زمن أبي بكر، بشكل أجبر الروايات الشيعية على أن تستسلم لفكرة وجود اتصال مباشر وودي بين «الإمام» و«الخليفة»، الأمر الذي حرصت تلك الروايات على إخفائه والتمويه عليه والتقليل من شأنه زمن أبي بكر.
إلى أي حد شارك علي في فتوحات عمر؟
لكن على الرغم من الاتفاق السني-الشيعي على مشورة علي بن أبي طالب للخليفة الثاني، فإن قضية مشاركة علي في الفتوحات الإسلامية في تلك الفترة، استحوذت على قدر كبير من الاهتمام والدراسة لدى الباحثين المسلمين.
تتفق المصادر السنية والشيعية على الصمت التام في ما يتعلق بمشاركة علي بن أبي طالب في الفتوحات زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. فرغم أن فترة خلافة عمر (13-23 هجرية)، شهدت عددًا من التوسعات في بلاد الشام وفارس والعراق ومصر، فلا توجد أي رواية تذكر أن علي شارك في أيٍّ من تلك الفتوحات، الأمر الذي تفسره المصادر الشيعية بعدم اعتراف علي بمشروعية حكم عمر.
لكن من المهم أن نشير هنا إلى أن عددًا من الروايات السنية والشيعية، أثبتت أن هناك عددًا كبيرًا من أنصار علي بن أبي طالب وشيعته الأوائل، شاركوا في تلك الفتوحات، ومن أهم هؤلاء: الزبير بن العوام وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والبراء بن عازب وعبادة بن الصامت وحذيفة بن اليمان وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم.
هذا يثبت أن دوافع هؤلاء، ممن سميناهم من قبل «الشيعة الأوائل» (الطبقة الأولى للتشيع)، لم تكن دوافع دينية خالصة، بل كان وقوفهم بجانب علي واعتقادهم بأحقيته في الخلافة، مزيجًا وخليطًا من دوافع دينية وقبلية وخلقية وفكرية.
لذلك تغيرت مواقف هؤلاء بعض الشيء مع التطورات والتغيرات الواسعة التي أصابت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، حتى إننا نجد واحدًا من كبار المدافعين عن حق علي بن أبي طالب في الخلافة، وهو سلمان الفارسي، يحارب ويقاتل في خلافة عمر على الجبهة الفارسية، ليس ذلك فحسب، بل إن سلمان يتولى «المدائن» بأمر من عمر بن الخطاب، ما يؤكد قبوله مشروعية خلافته.
الأمر الثالث الذي حرصت الروايات السنية والشيعية على تبيانه وإبرازه، في ما يخص العلاقات بين علي بن أبي طالب والخليفة الثاني، هو التأكيد على استمرار مطالبة الأول بحقه في إرث الرسول، ورفض الثاني تسليمه إياه.
ورد عدد من الروايات السنية والشيعية التي أشارت إلى أن علي بن أبي طالب استمر في مطالبته بميراثه من الرسول في زمن عمر بن الخطاب، ولعل الرواية التي نقلها مسلم في صحيحه، من أهم تلك الروايات وأكثرها صحة وموثوقية.
تذكر تلك الرواية أن علي بن أبي طالب والعباس قدِما على عمر، وطالبا بحقهما في ميراث الرسول، فرفض عمر إعطاءهما هذا الحق، وكان مما قاله لهما:
«لما توفي رسول الله، قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فجئتما تطلب ميرثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله: ما نورث ما تركناه صدقة»، فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله، وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق».
أهمية تلك الرواية تتمثل في أنها أثبتت أن علي لم يكن اقتنع بالحجج التي ساقها كلٌّ من أبي بكر وعمر في معرض رفضهما تسليم ميراث الرسول إليه.
لذلك، فإن تلك الرواية تمثل شذوذًا عن السياق الروائي السني الذي اعتاد على تأكيد أن علي اقتنع برأي أبي بكر في عدم إعطائه ميراثه من الرسول بعد وفاة فاطمة ومبايعة أبي بكر.
وتلك الرواية تتعارض مع الصورة العامة التي أسسها عدد من الروايات السنية والشيعية، التي ترى أن عمر بن الخطاب اختص علي بن أبي طالب بأكبر عطاء في زمنه. وورد في كتاب «الخراج» لأبي يوسف، أنه من غير المعقول في الوقت الذي يختص الخليفة فيه علي وابنيه الحسن والحسين، بالعطاء الأكبر من بين جميع المسلمين، أن يتهم علي عمر بجميع تلك الأوصاف المشينة، إذ لو كان الخليفة يريد التضييق على ابن أبي طالب وبني هاشم، لكان الأنسب أن يساوي بينهم وبين جميع المسلمين في العطاء، أو يجعل عطاءهم دون غيرهم.
لعل الحق الذي طالب به علي والعباس في الرواية السابقة، هو «الخُمس»، فقد كان من الطبيعي أن يطالب به آل بيت الرسول في ذلك الوقت، خصوصًا مع كثرة الفتوحات والمغانم، وكان من المنطقي أن يرفض عمر تسليم ذلك الحق لهما، لأنه بلغ من الكثرة ما يمكن أن يؤدي إلى أزمة هائلة في المركز المالي والسياسي للدولة، إن جرى تسليمه لمن تغلب عليه صفة معارضاتها.
من الممكن أن نحاول أن نوفق بين الروايات المتعارضة حول السياسة المالية للخليفة الثاني تجاه بني هاشم، بأن نرى الأعطيات الكبيرة التي منحها عمر لعلي والعباس خصوصًا، وبني هاشم عمومًا، بمثابة تعويض عن حقهم في الأخماس التي استأثرت بها الدولة.
يبدو أن موقف علي من النظام القائم في عهد عمر بن الخطاب يشوبه بعض الغموض كذلك، وإن بدا أنه كان أقل جهرًا بالخلاف، وأقرب إلى تقديم النصح والمشورة للخليفة، لكن دون مشاركة صريحة في الفتوحات الإسلامية في ذاك العهد، ومع استمرار وجود بعض الخلافات المالية بينه وبين الخليفة.