«كانت الخمور متاحة في كل مكان في إيران، وكنا نستمتع بالجلوس في البارات ليلًا. كانت البيرة تباع مثل المياه الغازية في الأسواق، والأمور كانت طبيعية إلى أن قامت الثورة فأصبح كل شيء ممنوعًا، ولا أدري لماذا كل تلك الممنوعات. أحيانًا أُشفق على أبنائي أنهم وُلدوا في إيران ما بعد الخميني». هكذا تحدث إلى «منشور» الإيراني علي زاده، الذي يبلغ من العمر 60 عامًا ويمتلك متجرًا لبيع الأثاث.
أُتيحت الخمور في عهد الشاه، ولم يكن هناك إثم على من يتناولها، لكن بمجيء الخميني وقيام الثورة الإسلامية أُغلقت كل البارات، وأَعدم رجال الثورة كل زجاجات الخمور في البلاد، وصار الجَلد عقوبة من يُضبَط حال تعاطيه الكحول أول مرتين، والإعدام في الثالثة.
لكن في نهاية عام 2016، حذر وزير الصحة الإيراني من الارتفاع الكبير في معدل استهلاك الكحوليات رغم حظرها، وأعلن أن معدل استهلاك الكحول في إيران وصل إلى 420 مليون لتر سنويًّا.
الكحول: ممنوع يسهل الحصول عليه
يقول «سامان حسين» لـ«منشور»: «أتناول الكحوليات منذ خمس سنوات وأحصل عليها خلال ساعتين. لدي الكثير من أرقام الموزعين الذين يسلمون الخمر حتى باب منزلي. لا أنكر أن الأمر محفوف بالمخاطر ومكلف، لكن تلك هي الطريقة الوحيدة التي أضمن بها أن أحصل على كحول عالي الجودة».
هذا ما أكده كذلك حسين (اسم مستعار)، الذي يعمل في مجال تهريب الكحوليات منذ 20 عامًا. كل ما يفعله حسين هو استلام الخمر من المهربين الصغار الآتين من إقليم كردستان العراق، ثم توزيعه على من يبيعونه لراغبي الشراب.
يوضح حسين لـ«منشور» أن أصعب مرحلة هي رحلة «الكولبار»، أي المهرب الصغير، الذي يحمل شحنة الخمر على ظهره ويسير بها في طرق جبلية وعرة بين العراق وإيران. يتراوح عمر المهرب بين 17 و40 عامًا، ويستلم الشحنة من التاجر الكبير الذي يحضرها من العراق وتركيا أحيانًا، ثم يحملها على ظهره أو على حصان إذا كان يمتلك واحدًا: «معظمهم فقراء للغاية ولا يملكون شراء حصان وإطعامه يوميًّا».
قد يهمك أيضًا: كيف يُستهلك الكحول في الدول العربية التي تمنعه؟
تهريب الخمر: في كل خطوة موت محتمل
تختلف أسعار الكحول في إيران من الصيف إلى الشتاء، حين يكون التهريب أصعب بسبب البرد القارس وهطول الأمطار والثلوج.
يقول الصحفي الإيراني «رامين جمشيدي»، الذي ذهب إلى الحدود ليغطي تلك القصة، إن حياة المهربين الأكراد في خطر دائم، فالطرق جبلية غير ممهدة، وعلى المهرب أن يسير قرابة 10 ساعات على قدميه كي يصل إلى الحدود الإيرانية، بجانب خطر التعرض لرصاص جنود الحرس الثوري في أي لحظة، وربما الاعتقال، وتعيس الحظ يدوس لغمًا باقيًا منذ الحرب العراقية الإيرانية: «يموت نحو 15 مهربًا من الأكراد سنويًّا، وكل هذه المخاطرة مقابل 30 أو 40 دولارًا في اليوم».
يرى جمشيدي أن الأكراد محاصَرون بين الفقر الشديد من جهة وإهمال النظام الإيراني من جهة أخرى، فنسبة البطالة في إقليم كردستان إيران وصلت إلى 50%، وبدلًا من احتواء المشكلة وحلها، يلجأ الأمن إلى قتلهم معتقدًا أنه يقضي على التهريب: «49 مهربًا لقوا حتفهم في عام 2016، أغلبهم لم تزد أعمارهم عن 20 سنة».
تصل زجاجة الويسكي الفاخرة مثلًا، بحسب سامان حسين، إلى المستودعات في مدينة السليمانية بكردستان العراق وثمنها نحو 10 دولارات أمريكية، لكن سعرها يقفز إلى 50 دولارًا عند وصولها إلى إيران: «البيرة أرخص الكحوليات، إذ يكون ثمنها دولارين تقريبًا، وتباع في إيران بخمسة أو ستة دولارات».
نبهنا حسين إلى أن هذه أسعار الصيف، لكن الأمر يختلف في الشتاء، إذ يصير التهريب أصعب بسبب البرد القارس في تلك المناطق وهطول الأمطار والثلوج، فتقل عمليات التهريب ويزيد سعر الكحول بجميع أنواعه.
أحد الضباط المسؤولين في وزارة الداخلية الإيرانية، رفض ذكر اسمه، أكد لـ«منشور» أن قوات حرس الحدود تؤدي واجبها بكل الطرق لإنهاء التهريب عبر الحدود وإحكام السيطرة على إقليم أذربيجان، الذي يعتبر المعبر الرئيسي لدخول الكحول إلى إيران، لكنه لفت إلى أن «الجانب العراقي لا يساعدنا لأن هناك من ينتفعون من وراء التهريب، وأعتقد أن قرار البرلمان العراقي بمنع الكحوليات سيُنهي المشكلة قريبًا».
اقرأ أيضًا: تاريخ الكحول في العراق منذ اختراع البيرة إلى منع البرلمان
تهريب الكحول خيارنا الوحيد
يوضح الصحفي رامين جمشيدي أن صغار المهربين هم فقط من يتعرضون للقتل والاعتقال، لكن «ليس أمامهم خيار آخر غير التهريب، أما كبار التجار، سواءً في إيران أو العراق، فلا يتعرضون لأي مخاطر لأنهم قادرون على حماية أنفسهم جيدًا».
في عام 2016، ومع تزايد الأخبار عن أن القوات الإيرانية تقتل المهربين الصغار، أمر المرشد الأعلى علي خامنئي بالتصدي للمهربين الكبار كأولوية، لأن الصغار لا يشكلون خطرًا كبيرًا على إيران.
طرق أخرى للحصول على الخمور
هناك من يشرب الخمر في إيران ولا يتعرض للعقاب، مثل أفراد الطائفة المسيحية الأرمنية، التي يسمح لها القانون بتناول الكحول في الأعياد الدينية، والتي تشتهر بصناعة النبيذ المحلي.
يصنع «توشه» (اسم مستعار) المشروبات الكحولية في منزله، ويقول لـ«منشور» إن «أسعار الكحول المهرب مرتفعة للغاية، ولديَّ أصدقاء يشربون كل يوم تقريبًا، ففكرت أنه سيكون من الجيد أن أصنع الخمر في المنزل وأبيعه بنصف ثمن المهرب، لكن الأمر خطير جدًّا إذا انكشف أمري، وسأتعرض لعقوبة قاسية قد تصل إلى الإعدام، لذلك أخفيت عنوان المكان الذي أصنع فيه الشراب حتى عن زوجتي».
للكحول المحلي مخاطر كثيرة، فقد تعرض كثير من الإيرانيين للتسمم بسببه، لعدم قدرة الصُنَّاع على ضبط مقدار الإيثانول المضاف إلى العنب المقطر الذي يُصنع منه النبيذ.
اقرأ أيضًا: الخمر والمخدرات في زمن الثورة الإسلامية
بلاد «أشهر نبيذ في العالم» تحذف «الخمر» من الكتب
قديمًا، كانت مدينة شيراز التي تقع جنوبي غرب إيران تشتهر بزراعة العنب، وكانت معظم العائلات تحترف صناعة النبيذ، ويُقال إن النبيذ الشيرازي كان يصدَّر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كأجود أنواع النبيذ في العالم.
للخمر مكانة كبيرة في الثقافة والأساطير الفارسية، وكان حافظ الشيرازي يذكرها في أشعاره كثيرًا، لكن جاءت الثورة الإسلامية لتمحو وتمنع كل هذا، حتى أن وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي أمر في عام 2016 بحذف كلمة «الخمر» من كل المطبوعات التي سبق إصدارها، ومنعها في المطبوعات التي ستُطبَع مستقبلًا.
إذا أتيحت لك فرصة لزيارة إيران وحضور حفل في منزل أحد الإيرانيين، ستصيبك الدهشة من وجود كميات كبيرة من الكحول بمختلف أنواعه، وأنت تعلم مسبقًا أن الخمر محرَّم في الجمهورية الإسلامية، لكن الإيرانيين اعتادوا التحايل على كل ما هو ممنوع، حتى إن كانت فيه كثير من المخاطرة، فلا أوامر النظام ولا قوة الأمن ستبعد الإيرانيين عن ما يريدون.