في الليلة الأخيرة من شعبان، وبينما يتزاحم المصريون على محلات البقالة والفول لتحضير سحورهم الأول في شهر رمضان، لا يعبأ بعض الناس سوى بشيء واحد: التموين، تموين المشروبات الكحولية.
تصدر وزارة السياحة في التوقيت نفسه من كل عام قرارًا يمنع تقديم وبيع الخمور والمشروبات الكحولية بمُقتضى قرارات إدارية، إذ لا يوجد نص في القانون المصري يُقِر ذلك.
«زمان قبل ما السياحة تضرب كُنا بنفتح في رمضان عادي من الصبح لحد الليل علشان السُياح، إنما دلوقتي بقينا نقفل»، واجهني مدير بار «إستوريل»، الموجود في ممر صغير بمنطقة وسط البلد، بوجه القاهرة الآخر الذي اختفى منذ سنين.
تمر على محلات الخمور في تلك الليلة فتجد أُناسًا مصطفِّين لشراء المؤونة التي ستكفيهم طَوَال الشهر، نظرًا للغلق الإجباري لهذه المحال في رمضان، بالإضافة إلى إغلاق الملاهي الليلية.
ترى الكباريه الملاصق لمسرح ميامي في وسط البلد، حيث كانت تقف الفتيات الممتلئات للترحيب بالزبائن المقبلين، مُغلق الأبواب، وتطفئ أنوار كل فروع «درينكيز»، محل الخمور الذي يوفر أنواع النبيذ والبيرة والمُسكرات، وكذلك توصد محال الخمور الرخيصة المتخصصة في ترطيب مزاج الطبقة الفقيرة.
ماذا يفعل بائعو الخمور في رمضان؟ إلى أين يذهبون؟ هل يتوقف البيع فعلًا؟ كيف تعيش العاملات في الكباريهات الشعبية خلال رمضان؟ ماذا عن الراقصات؟
قطع عيش

تتجه إحدى مضيفات البار المتواضع إلى الطاولة التي يجلس إليها أصدقائي لترحب بمن يبدو أنه «زبون دائم»، وتدردش معه لتفتح شهيته إلى شرب المزيد من زجاجات البيرة.
«رمضان كريم يا لوزة».
لوزة وظيفتها «فتَّاحة»، وتملك كما يقول بعض الزبائن «شاسية مفيهوش غلطة». ترد على «الزبون الدائم» بضحكة عالية وتتغاضى عن جملته. طبيعة عمل لوزة لا توفر لها رفاهية الحصول على إجازة مدفوعة الأجر، فهي مجرد فتاة «غلبانة» تعمل في بار متواضع يغلق لمدة شهر كامل كل عام.
تتجه لوزة وبعض زميلاتها للعمل في محلات الملابس خلال رمضان، إن حالفهن الحظ من الأساس ووجدن وظيفة في أحدها. وفي أسوأ الأحوال، تبقى كلٌّ منهن في المنزل معتمدةً على النقود القليلة التي تحفظها لأيام التوقف الرمضاني. أما الأخريات اللاتي لا يكتفين بوظيفة الفتَّاحة، فيجدن مخرجًا من هذا الشهر في إحدى مناطق القاهرة الراقية.
الإيد البطالة نجسة

المهندسين، المنطقة التي لا تنام، المشهورة بالنوادي الليلية، حلم العاملات في البارات الرخيصة، «تهاجر» إليها بعض الفتيات في شهر العطلة لمزاولة الدعارة تحت ضغط الحاجة، ولأن «الإيد البطالة نجسة».
«رمضان إيه؟ إحنا مزروعين زرع شارع يا مدام، ولا أقولك يا آنسة؟» هكذا بررت بوسي عملها في الدعارة خلال رمضان عند حديثها لـ«منشور»، هذه الترقية التي نالتها بمجرد «ما طلعلها بذرتين» بحسب قولها، بعدما قضت سنين طفولتها في التسول.
لم تقف أبواب الملاهي الليلية المغلقة عقبةً في طريقهن، فمواقع التواصل الاجتماعي مثل «Tinder» و«Live.me» سهلت لهم العمل خصوصًا في رمضان، فكل ما عليهن فعله هو الجلوس في بعض الكافيهات المعروفة في المهندسين وانتظار الطلب.
تواجه الوافدات الجدد إلى المهندسين خطر الضرب إذا قررت إحداهن العمل دون اتفاق مسبق مع قوادة أو قواد، يأخذها تحت جناحه في هذه الفترة. تتردد لوزة قبل أن تترك محيطها الآمن في وسط البلد، فهي تعلم أنها لو وضعت قدميها في هذه المنطقة الراقية فلن تفلت من أسنان القواد بعد ذلك، فإما تُكمل بإرادتها أو رغمًا عنها، وفي الحالتين لن تعود إلى بار وسط البلد ثانيةً.
لا ينقطع دحل راقصات الدرجة الأولى في رمضان بفضل الزبائن المخلصين للمزاج.
لا تؤرِّق البطالة الرمضانية إلا العاملين في البارات الدُّنيا التي تخدم الزبائن متواضعي الحال. فمَن حالفه الحظ بالعمل في محل خمور معروف أو بار كبير مثل «إستوريل» يحصل على أجره كاملًا في رمضان، حسبما قال مدير البار: «أكيد طبعًا، مش موظفين عندنا؟».
قد يهمك أيضًا: البار المصري يحاول الانتصار على الأزمة الاقتصادية
فن إيجاد الثغرات هو لعبة أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرون في الملاهي الليلية، فمع قرار الغلق الرمضاني تنبت خيمة رمضانية إلى جوار الكباريه، ويستمر الحال على ما كان عليه، باستثناء عدم تقديم مشروبات كحولية للزبائن.
أرقص.. غصب عني أرقص

لا يحتاج صفوة المجتمع إلى تخزين المشروبات الكحولية مثل عامة الشعب، لأنها تأتي إلى حفلاتهم متى أرادوا.
لا ينقطع دخل راقصات الدرجة الأولى في رمضان بفضل الزبائن المخلصين للمزاج، والتغيير الوحيد الذي يحدث هو المكان، فبدلًا من إحياء الليالي في شارع الهرم والمهندسين، تعمل الراقصات في الأماكن الراقية البعيدة عن الأعين مثل الزمالك والرحاب وأكتوبر والتجمع.
تقول فيفي، «اللبيسة» التي ترافق إحدى الراقصات المعروفات للإشراف على ملابسها وطلباتها، إن رمضان ليس موسمًا لكنه «مريح ورزقه وافر»، تعمل خلاله الراقصات في الحفلات الخاصة التي يقيمها الدبلوماسيون وبعض الخليجيين في الفيلات الفخمة.
لا يحتاج صفوة المجتمع إلى تخزين المشروبات الكحولية مثل عامة الشعب، لأنها تأتي إلى حفلاتهم متى أرادوا، يقضون لياليهم في هدوء غير مكترثين بمنع أو حظر، فقرار المنع الرمضاني السنوي يطبَّق على «ناس وناس»، بحسب فيفي.
قد يهمك أيضًا: كيف يُستهلك الكحول في الدول العربية التي تمنعه؟
خمور للأجانب فقط

يرى بعض المصريين في شهر رمضان، خصوصًا حين يهل في الصيف، فرصةً لا تعوَّض للذهاب إلى المدن الساحلية والتمتع بالبحر.
يقول جورج، الذي هرب من حر القاهرة إلى الغردقة: «فرحة ما تمت خدها الغراب وطار»، معبرًا عن ضيقه بسبب صعوبة الحصول على الخمر.
لم يتعطل العاملون في الغردقة، ولم يبحثوا عن وظيفة بديلة في رمضان كما يحدث في القاهرة، وإنما اقتصر عملهم على توفير الخمور للأجانب فقط دون المصريين، حتى لو كانوا مسيحيين لا دخل لهم بالصيام. يحكي جورج أنه حين حاول شراء زجاجة «أولد ستاج»، أخبره «بارمان» يتعامل معه أن شرطة السياحة لو عرفت ستفرض غرامة على المحل قد تصل إلى 10 آلاف دولار، وربما تسحب تراخيصه.
لعل البارمان يبالغ في أمر الغرامة للتأثير على جورج كي يشتري زجاجة الخمر بـ250 جنيهًا بدلًا من 60، فرمضان بالنسبة إليه فرصة لزيادة دخله.
السوق السوداء الرمضانية

«القومسيونجي» وظيفة شاملة، فهو رجل الأوقات الصعبة، يكثر عليه الطلب في رمضان، وكل ما تريده من خمر وخلافه ستجده عنده.
هل يتوقف بيع الخمور في رمضان، أم أن هناك طُرُقًا للتحايل على الحظر؟
ظاهريًّا، تلتزم محال المشروبات الروحية بالحظر، لكن هناك سُبلًا عدة للحصول على الكحول رغم المنع، ويستمر أصحاب المحال في إدارة العمل من بعيد.
في منطقة جاردن سيتي، اجتمعت طوفي بأصدقائها لتجميع ما يكفي من المال لشراء صندوق بيرة، لأن مجدي، العامل في أحد البارات، لديه أوامر صارمة بعدم فتح المخزن وبيع أقل من صندوق كامل، إذ لا يسمح صاحب البار ببيع زجاجات مفردة.
تحولت وظيفة مجدي من بارمان إلى عامل توصيل في رمضان، لكنه على الأقل يحتفظ بعمله، عكس كثيرين يُسرَّحون من البارات والملاهي الليلية.
إذا لم تجد مجدي فابحث عن «القومسيونجي»، هذا هو رجل الأوقات الصعبة، يكثر عليه الطلب في رمضان، وكل ما تريده من خمر وخلافه ستجده عنده، لكن بالطبع مع ضريبة مضافة تقديرًا لمصاعب المهنة وخطورتها خلال رمضان.
صارحني محمود، أحد أصدقائي الذي ساعدني بمصادره لإتمام هذا الموضوع، بأنه لا يظن أن الحياة في رمضان بهذا التعقيد، لأنه كلما اشتاق إلى زجاجة بيرة مثلجة أو «شوت» فودكا يذهب إلى أحد أصدقائه المسيحيين، فيحقق له أمنيته دون مقابل.
قرار حظر المشروبات الكحولية في رمضان والمناسبات الدينية مجرد سطور مخطوطة لحفظ ماء الوجه، باعتبار مصر دولة إسلامية، ورغبةً في الحفاظ على الأعراف الاجتماعية وعدم إثارة حفيظة المتشددين دينيًّا، رغم علم الجميع أن هذه القرارت صورية، فالناس لا يتوقفون عن الشرب، ويستمر بيع الخمور رغمًا عن الجميع خلال الشهر الكريم.