قد يكون الطب أكثر المهن التي ترى السن الكبير سببًا رئيسيًّا للتفضيل، فالتعامل مع طبيب ذي شعر أبيض يوحي بأنه صاحب خبرة، ويطمئن المرضى ويُشعرهم بأنهم في أيدٍ أمينة.
حتى اليوم، ما زال الطب مهنة تقوم بالأساس على التلمذة، يلتف فيها الأطباء الشباب حول الطبيب الكبير لينهلوا من علمه وخبرته. بل إن زي طالب الطب يتطور تبعًا لخبرته في بعض المؤسسات التعليمية، فليس مسموحًا للطلاب في كثير من كليات الطب أن يرتدوا «المعطف الأبيض» في سنواتهم الدراسية الأولى، فيما تمنع كليات أخرى الأطباء المقيمين من ارتداء المعطف الطويل، وتسمح لهم بارتداء معطف قصير يدل على كونهم قيد التمرين.
لكن مع تطور مجال الطب، وبروز أهمية البيانات والمعلومات على حساب الآراء العشوائية، والتشخيص المبني على القدرات الشخصية، أو ما يعتقده بعض الأطباء بالأحرى من مهارات في أنفسهم، بات جليًّا أن قلة الخبرة قد لا تكون أمرًا بالغ السوء كما تبدو، وهذا ما يستعرضه مقال منشور على جريدة «نيويورك تايمز».
الأبحاث تنصف الأطباء الشباب
الأطباء الشباب يميلون إلى تبني الممارسات الطبية المتطورة، وتعلُّم طرق جديدة للإجراءات الطبية.
أظهرت ورقة بحثية صدرت من جامعة هارفارد في 2017 أن احتمالات وفاة المرضى الذين يعالجهم أطباء صغار السن أقل من غيرهم من المرضى، وكذلك أن احتمالات طلب الأطباء الشباب اختبارات غير ضرورية من مرضاهم تقل عن الأطباء الأكبر سنًّا، وتقل احتمالات تعرضهم لمجالس تأديبية ومشكلات قانونية.
يوضح كاتب المقال، وهو طبيب، أن أغلب الأبحاث تُظهر علاقة إيجابية وثابتة بين قلة الخبرة وتقديم رعاية طبية أفضل.
قد يعجبك أيضًا: أطباء على كراسٍ متحركة
أيهما أفضل: الطبيب الشاب أم ذو الخبرة؟
يرى كاتب المقال أن قلة خبرته نقطة قوة، فإحساسه بأن عليه أن يتعلم باستمرار يجعله يفتح عينيه، ويُحسن الإنصات ليلتقط كل جديد، ويتعلم ممن حوله: من الأطباء السريريين الذين شهدوا تطور مجال الطب، ومن المرضى الذين يشاركون الأطباء تفاصيل حياتهم، ومن طلبة الطب، والأطباء المتدربين والمقيمين حتى لو كانوا أصغر منه سنًّا.
يحكي الكاتب أنه كان يتناول قهوته مع صديق حديث التخرج يساعده في تطوير نموذج للتعلم الآلي، يساعد على التكهن بحالات المرضى وتصنيفهم على أساس الأكثر عُرضةً للوفاة، وهو ما ساعده كثيرًا.
يميل الأطباء الشباب أكثر إلى تبني الممارسات الطبية المتطورة، مثل وصف عقارات حديثة ذات أعراض جانبية أقل، أو تعلم طرق جديدة للإجراءات الطبية، مثل قسطرة القلب عن طريق شرايين الرسغ بدلًا من الفخذ، وهو الإجراء الأكثر أمنًا.
يتميز الطبيب الشاب قليل الخبرة بخلوُّه من عُقَد الماضي، فهو لم يتلقَّ تدريبه الطبي في عصر شديد الأبوية مثل أسلافه، ولهذا يكون أكثر إجلالًا للمريض، وفق الكاتب.
السن وحده لا يجب أن يكون معيارًا يحدد الاستمرار في ممارسة المهنة، وتُظهر بعض الدراسات أن مهارات الأطباء تتدهور بمرور الوقت.
برز الاتجاه نحو تمكين المريض في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في أمريكا، وتُرجم في صورة تقديم رعاية طبية تتمركز حول المريض، واقترن بذلك التوجه احترام الحرية الذاتية للمريض، ما يعني إعطاءه حق اتخاذ القرارات التي تخص علاجه، فلا يُترك للأطباء سوى اتخاذ القرارات العاجلة أو اليسيرة.
ورغم أن الحديث عن تمكين المريض يبدو في ظاهره برَّاقا يُجِل المريض، فإن إحدى الدراسات ترى أن تكبيل يد الطبيب بصورة كبيرة قد لا يخدم مصلحة المريض، بل قد لا يكون أخلاقيًّا أيضًا. فإذا كان الأطباء يرون أن ترك المريض يحدد اختياراته يعكس احترامًا لهم، فإن كثيرًا من المرضى لا يرون الأمر كذلك، وربما تضطر غالبيتهم إلى اتخاذ قرارات لا يرغبون في اتخاذها أصلًا.
يتضح هذا الفارق العقائدي بين الطبيب كبير السن والشاب عند التعامل مع المرضى المشرفين على الموت، إذ تُظهر الأبحاث أن الأطباء الشباب يُحتمل بصورة أكبر أن يناقشوا أمورًا مهمة، ولكن صعبة، مع المرضى الذين يعانون حالات حرجة، مثل تشخيص مرضهم، وتفضيلاتهم في العلاج، وفي ما يتعلق بالسكن في دور كبار السن، بل والمكان الذي يفضلون أن يموتوا فيه.
يميل «ويليام نوركروس»، اختصاصي طب الشيخوخة، إلى تفضيل الأطباء الشباب كذلك، ويرى أن الأطباء بشر كغيرهم، وليسوا بمأمن من تأثيرات كبر السن. فتدهور وظائف العقل يحدث بصورة تدريجية في كثير من الأحيان، وغالبًا لا يعي الأطباء كبار السن أنهم يعانون مشكلات إدراكية وعصبية، بل إن كثيرًا منهم ينكر أنه يعاني من مشكلة على الإطلاق.
يرى بعض الخبراء أن العمر وحده لا يجب أن يكون معيارًا يحدد الاستمرار في ممارسة المهنة، إذ تُظهر بعض الدراسات أن مهارات الأطباء تتدهور بمرور الوقت، فمعدل وفيات المرضى في العمليات المعقدة يرتفع لدى الجراحين الذين يتجاوز عمرهم الستين مقارنةً بالأطباء الأصغر سنًّا.
يرى «جوناثان بوروز»، الاستشاري الذي عمل لدى مستشفيات تسعى لتطبيق سياسات لاختبار الأطباء الأكبر سنًّا، أن فكرة الإبقاء على الأطباء الكبار في المهنة من باب الامتنان لعلمهم وخبرتهم شعور نبيل، غير أنه سيجلب المشكلات، فقد يعرِّض المرضى لتبعات كارثية، مثل الإصابات الخطيرة أو الوفاة، بالإضافة إلى احتمال تعرض الطبيب نفسه للمقاضاة أو فقدان رخصة ممارسة المهنة.
قد يصعب وضع قاعدة صارمة تحدد سنًّا معينًا يُجبَر الطبيب فيه على التوقف عن ممارسة المهنة، فلكل حالة فردية ظروفها، وقد تتفاوت اللياقة الذهنية والجسمانية من طبيب إلى آخر، ولهذا يقول الجراح «مارتي مكارثي» إن عملية فرز بسيطة قد تمكِّن من استبعاد الأطباء الذين لم يعودوا قادرين على ممارسة الطب بالكفاءة المطلوبة، ويؤكد ضرورة ترك الأطباء كبار السن الذين يمارسون دورهم بكفاءة دون وصمهم بسبب تقدمهم في العمر.
ربما يظل التساؤل مطروحًا عما إذا كانت ممارسة الطب تحتاج إلى تنظيمها على نحو يشبه مهنة الطيران مثلًا، التي يخضع فيها الطيارون لاختبارات دورية، ويُضطرون إلى التقاعد عند سن معينة، فتكلفة الخطأ في المهنتين هي «أرواح البشر».
قد يهمك أيضًا: الوجه القبيح للطب: قصص انتصار النفعية على الأخلاق
دعوة إلى إنصاف الأطباء الشباب
على الأطباء الكبار أن يتعلموا تطوير أنظمة رعاية جديدة من الصغار.
رغم ما يتمتع به الأطباء الشباب من مميزات، فإنهم يرون أن فرصهم في النجاح تتضاءل بسبب تعاظم أعداد الأطباء كبار السن، مع نزوع الأطباء الأكبر سنًّا إلى تأخير فترة المعاش. على سبيل المثال، فإن خُمس الأطباء الأمريكيين يزيد عمرهم عن 65 عامًا، ومن المتوقع أن ترتفع تلك النسبة إلى الثلث بحلول عام 2021، وهو وضع من شأنه أن يقلل فرص الأطباء الشباب في الترقي إلى مناصب قيادية، حسب كاتب المقال.
لو أردنا التقدم في الممارسة الطبية ينبغي الاعتراف بأن الأطباء الكبار يمكن أن يتعلموا الكثير من الأطباء الأصغر سنًّا، وفق الكاتب، مثلما نتوقع أن يتعلم الشباب منهم من الكبار الأكثر خبرة، فهي عملية تبادلية. ينبغي كذلك أن يُمنح الأطباء الأصغر سنًّا أدوارًا أكبر في صناعة السياسات الطبية وصياغة مبادئ المهنة، إضافة إلى تقصير مدة التدريب.
يقول كاتب المقال إنه يتطلع باستمرار إلى معلميه للاسترشاد، غير أنه يتوقع منهم كذلك أن يتعلموا من الأطباء الأصغر سنًّا، من أجل إضفاء روح جديدة على المجال وإيجاد حلول لبعض المشكلات الطبية المزعجة، مثل تطوير أنظمة رعاية طبية جديدة محورها المريض، والتخلص من تأثير مصالح الشركات على تطوير المبادئ والأعراف الطبية، وتضمين القيم التي يحملها المرضى في عملية العلاج.
المحزن أن نحو 30% من الأطباء الشباب في العالم يعانون من الاكتئاب أو أعراضه، ويواجه الأطباء حديثو التخرج مشكلات نفسية على نحو يفوق غيرهم، والأسباب متعددة ومعقدة، وتشمل ساعات العمل الطويلة وقلة النوم مثلًا.
يوضح «توماس شوينك»، الأستاذ في كلية الطب في جامعة نيفادا الأمريكية، أن «ظهور أعراض اكتئاب بين الأطباء في مرحلة التدريب مؤشر قوي على وجود مشكلات عميقة في نظام التدريب الطبي».
أما الأطباء العرب فكثيرًا ما يعملون في ظروف شديدة القسوة، على خلفية أوضاع اقتصادية معقدة وغير مستقرة في أغلب الأحيان، ويتقاضون راتبًا زهيدًا في بداية المشوار، في مهنة يُفترض أن توفر للقائمين عليها أوضاعًا إنسانية كي يتمكنوا من رعاية المرضى على الوجه الأمثل. كم يا ترى ستكون نسبة الاكتئاب لو أجرينا دراسة على أوضاع الأطباء العرب؟