يمكن للطباعة ثلاثية الأبعاد (3D Printing) أن تغير حياة ملايين البشر مِمَّن فقدوا أطرافهم.
توفِّر تقنية الطباغة ثلاثية الأبعاد أعضاء صناعية أرخص وأفضل من الموجودة حاليًا، ويمكنها بالتالي أن تساعد أعدادًا هائلة من الناس الذين يلاقون صعوبات في الحصول على مثل هذه الأعضاء، بسبب غلائها أو عدم توفرها.
ويحاول مقال على موقع «Mosaic» استكشاف أبعاد التطور الذي يمكن أن تُحدثه هذه التقنية في مسيرة البشرية.
الحياة بطرفٍ ناقص
يبدأ المقال بحكاية شاب سوداني جُنِّد في مجموعة مسلحة، وتلقَّى تدريبات شديدة القسوة فقد بسببها قدمه. تضمَّنت التدريبات المشي المستمر لأسابيع، والجري لمسافات شديدة الطول، مع قِلَّة الطعام والشراب.
حارب الجندي الشاب بعد ذلك لأربعة أعوام متواصلة، وتعرض للقصف والرصاص، حتى جاء يوم الحادث المشؤوم، حين داس على لغم بينما يسير مع دورية حراسة. قذف به اللغم بعيدًا، وعندما بدأ يشعر بما حوله لم تكن قدمه في مكانها المعتاد.
لم تتوفر الرعاية الطبية للشاب قبل 25 يومًا، وخلال هذه الفترة كانت حالة قدمه تفاقمت، وساءت حالته النفسية بشدة حتى بدأ يشعر أنه عديم القيمة ويفكر في الانتحار.
اليوم، وبعد عشر سنوات على الحادث، يعيش الشاب في مخيم جوبا للاجئين، ويلعب كرة السلة على كرسي متحرك، ويعتمد على قدم صناعية للحركة على أرض المخيم الطينية.
قد يعجبك أيضُا: لماذا لا أقدر على البوح برفضي للخدمة العسكرية؟
كل مَن أصيب بكسرٍ في ساقه يعرف أن العكَّازات تُسبِّب إعاقة لمعظم الأنشطة العادية.
يحكي المقال كذلك قصة امرأة مصابة بشلل الأطفال تعيش في المخيم نفسه، وتقول إنها كانت تُضطر إلى الاستيقاظ في طفولتها مبكرًا ساعةً كاملة عن أقرانها، لأنها تستغرق وقتًا أطول كثيرًا للوصول إلى المدرسة، كما كانت تعجز عن مساعدة والدتها في الأعمال المنزلية بسبب انشغال يديها الاثنتين بالعكَّازات.
ليست هذه بالتأكيد إلا نماذج بسيطة فقط من قصص كثيرة يعرفها معظمنا، عن أُناس فقدوا أطرافهم أو وُلدوا بعجزٍ فيها، وهو الأمر الذي يسبب لهم صعوبات كبيرة في حياتهم اليومية. وتقدِّر منظمة الصحة العالمية عدد هؤلاء الذين يحتاجون أطرافًا صناعية بثلاثين مليون شخص، قد يكون بعضهم ضحية قتال مسلح، أو أصيب في حادثة سير، أو غير ذلك.
قد يهمك أيضًا: حكاية الصراع الدموي في جنوب السودان
كل مَن أصيب بكسرٍ في ساقه يعرف أن العكَّازات تشغل اليدين فتُسبِّب إعاقة لمعظم الأنشطة العادية، فتخيل أنك مضطر للعيش هكذا طوال الوقت، خصوصًا بالنظر إلى صعوبة استبدال الأطراف الصناعية بالعكَّازات، إذ تكون الأطراف الصناعية مكلفة، وربما تتطلب السفر لإيجاد طبيب تدرَّب على تركيبها.
لكن كل هذا كان قبل اختراع الطباعة ثلاثية الأبعاد.
اطبع ساقك بنفسك
لن يكون مجال الأطراف الصناعية أوَّل التحولات الضخمة التي يُنسب الفضل فيها إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهو أمر متوقَّع بحسب كاتب المقال، إذ إن هذه التقنية أثرت تأثيرًا واسعًا بالفعل في مجالات أخرى عديدة، من صناعة السيارات إلى الأزياء.
لكن يبدو أن الطباعة ثلاثية الأبعاد تحمل وعودًا خاصة للأطباء، فقد أنتجت جلدًا صناعيًّا من أجل المصابين بحروق، وبدائل للأجزاء المستأصَلة من وجوه مرضى السرطان، وأجزاء لزراعة أو تطعيم العظام، بالإضافة إلى سمَّاعات مصممة خصيصًا على شكل آذان لضِعاف السمع، و«تيجان أسنان» يُركَّب الآلاف منها بشكل يومي.
لهذه الأسباب، بدأت الطباعة ثلاثية الأبعاد في إثارة اهتمام العاملين في مجال الأطراف الصناعية.
قد يهمك أيضًا: التكنولوجيا عدو أم صديق؟
يشير المقال مثلًا إلى قصة «إيفان أوين» غير المتوقعة. أوين فنان تشكيلي أمريكي يحب صناعة معدات غريبة لاستخدامها في عروض فنية أو أفلام رعب، صنع يدًا ميكانيكية ووضع لها مقطع فيديو على الإنترنت، فشاهدتها أمٌّ كان ابنها قد وُلد دون أصابع في يده اليمنى.
أرادت الأم أن يصنع لها أوين نسخة صغيرة من هذه اليد، ففكر على الفور في الطباعة ثلاثية الأبعاد، من أجل صناعة تصميم يمكن إعادة طباعته بأحجام مختلفة بعد ذلك عندما يكبر الطفل. أقنع الرجل إحدى الشركات بالتبرع بماكينتين للطباعة ثلاثة الأبعاد، استخدمهما لإنتاج ما أصبح فيما بعد أول يد صناعية مطبوعة، يمكن لأي شخص أن يستخدمها أو يطوِّرها لأغراضه الخاصة.
أعلن هذا ميلاد «Enabling the Future»، وهو مجتمع مكوَّن من سبعة آلاف عضو حتى الآن ينتمون إلى عشرات البلدان، يستخدمون ألفَيْ طابعة ثلاثية الأبعاد لتصميم أطراف صناعية لمن يحتاجونها، والذين يكونون عادةً من الأطفال، إذ تلقَى هذه الأعضاء بينهم رواجًا كبيرًا، خصوصًا لكراهية الكثير منهم شكل الأطراف الصناعية الحديثة، بالإضافة طبعًا إلى تكلفتها العالية التي تبلغ عشرات أضعاف ثمن الأعضاء المطبوعة، ويلزم مع ذلك تغييرها كل فترة بمقاس جديد.
الطباعة: آمال هائلة للأطفال
توفِّر الأطراف الصناعية المطبوعة للأطفال تصميمات مختلفة يستطيعون الاختيار بينها. يحبُّ البعض أن يستخدم يدًا تشبه «الروبوت»، فيما يميل آخرون إلى الأيدي الأقرب للشكل الطبيعي.
تساعد الطباعة ثلاثية الأبعاد الأطفال في تلطيف الأثر النفسي للإصابة، ولهذا يريد باحث الميكانيكا الحيوية في جامعة نبراسكا، «جورج زونيجا»، أن يرى الأطفال أطرافهم الصناعية كما لو كانت ألعابًا.
توفر الطباعة ثلاثية الأبعاد يدًا صناعية ميكانيكية بسعر تذكرة سينما.
تتجنب الأطراف المطبوعة كذلك مساوئ الكراسي المتحركة بالنسبة لهؤلاء الذين فقدوا أطرافهم السُّفلية، إذ يعاني مستخدمو الكراسي المتحركة للسير على الطُّرق، خصوصًا غير المجهزة لاستخدامها، كما يكون الحال عادةً في الدول النامية، وقد يعني عدم القدرة على الحركة بشكل جيد أن يفقد المرء كل مصدر ممكن للرزق.
علاوةً على ذلك، تسمح الأطراف المطبوعة بتحقيق أغراض أخرى، فقد طوَّر زونيجا مثلًا ذراعًا لها نفس وزن الذراع الطبيعية، ممَّا يعني تحسينًا في التوازن واستقامة الظهر بالنسبة للطفل الذي يستخدمها، وكل هذا ممكن فقط بسبب المرونة الكبيرة للطباعة ثلاثية الأبعاد.
من المدهش، بحسب المقال، أن هذه التقنية يسَّرت على كثير من الناس أن يحصلوا على يد صناعية ميكانيكية لطفل بسعر تذكرة سينما، ويستلمونها في أقل من 24 ساعة.
الطباعة: آمال للدول النامية
لن تؤدي تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى تحسين أحوال أعداد كبيرة من الأطفال فحسب، وإنما كذلك ملايين الناس في الدول النامية، الذين يصعب عليهم شراء وتركيب الأطراف الصناعية التقليدية.
كان «توم كاتينا» الطبيب الوحيد في مستشفى «أم الرحمة» بجبال النوبة في السودان. قاوم كاتينا، ذو الأصل الأمريكية، أهوال الحرب من أجل البقاء لمداواة المرضى والمصابين بالمنطقة، مدفوعًا في هذا بقناعاته الدينية.
يشير كاتينا إلى أن الحاجة لبتر الذراع كانت شائعةً للغاية بين مرضاه نتيجةً للحرب ونقص الرعاية الطبية، ويحكي لكاتب المقال أن معظم المصابين كانوا مزارعين، وربما يعني فقد أحدهم ذراعًا واحدة ضياع مصدر رزقه بالكامل.
اقرأ أيضًا: هل يدفع نظام البشير ثمن جرائمه أخيرًا؟
تستطيع هذه التقنية توفير أعضاء صناعية قليلة التكلفة وسريعة الإنتاج في الدول الفقيرة.
سمع «ميك إبلينج»، وهو أحد منتجي الأفلام الأمريكيين المهتمين بالعمل الخيري، بقصة الطبيب توم كاتينا في الوقت نفسه الذي بدأ فيه يعرف عن الأذرع الميكانيكية قليلة التكلفة. ابتاع إبلينج طابعات ثلاثية الأبعاد وسافر بنفسه إلى حيث يعمل كاتينا، وتعاون مع طاقم المستشفى لتوفير أذرع جديدة لمن فقدوا أذرعهم باستخدام الطباعة.
أما «كلاودين هومور»، التي فقدت ذويها خلال الحرب الأهلية في رواندا، وبُترت ساقها بعد إصابتها بسرطان العظام وعمرها 12 عامًا، فتولت مؤسسة خيرية أمرها وأرسلتها إلى الولايات المتحدة للحصول على طرف صناعي، ثم عادت إلى رواندا بساقٍ جديدة.
لكن ساق هومور الثمينة انكسرت، وكانت هذه مقدمةً كي تفهم بشكل أفضل كيف يعاني كل من يحتاج إلى طرف صناعي في الدول النامية. عادت الفتاة إلى أمريكا لدراسة الأحياء وإدارة الأعمال في جامعة مرموقة، وأجرت أبحاثًا حول الأطراف الصناعية، وعندما سمعت بالطباعة ثلاثية الأبعاد شعرت بإثارة غير مسبوقة.
تستطيع هذه التقنية توفير أعضاء صناعية قليلة التكلفة وسريعة الإنتاج في الدول الفقيرة التي تعاني صعوبة تعويض الأعضاء، وتعتقد هومور أن هذه التقنية قادرة على تغيير العالم أمام ملايين البشر.
أُعجب كثيرون بالطباعة ثلاثية الأبعاد فور ظهورها لِمَا رأوا فيها من تقنية غريبة وجديدة، لكن قدرتها على إحداث تحولات اجتماعية بهذا الحجم لم تكن قد ظهرت بعد.
بدأ الجدل بعد إدراك إمكان الطباعة ثلاثية الأبعاد صُنع أسلحة رخيصة، وتوفير تصميماتها على الإنترنت للجميع. أما اليوم، فتعيد الطباعة ثلاثية الأبعاد تقديم آمال جديدة، إيجابية هذه المرة، لقطاع ضخم من المرضى والمصابين الذين يتعسَّر عليهم الوصول لأعضاء تعويضية تقليدية، وربما تعني لهم هذه التقنية حياةً جديدة، وتتغير معها صناعة الأجهزة التعويضية إلى الأبد.