تسمع صوت تنبيه صادرًا عن هاتفك الذكي، فتتذكر ذلك المنشور الذي دوَّنته على صفحتك الشخصية بفيس بوك، ويخطر ببالك أن أحدًا من الأصدقاء أبدى إعجابه أو ترك تعليقًا عليه، فتسرع يداك لالتقاط الهاتف للتحقق من ظنونك تلك، وقبل أن تتركه يجذب انتباهك ذلك الرقم الأحمر على أيقونة الصفحة الرئيسية فيحملك الفضول لمطالعة أحدث ما شاركه الأصدقاء على صفحاتهم، ثم يحملك هذا المنشور إلى تلك الصورة، مرورًا بمقطع فيديو فرض نفسه على اهتمامك، وكأنك في دوامة لا تستطيع الخروج منها، لتعيد الكَرّّة من جديد قبل مرور دقائق على آخر فراق بين يديك والهاتف.
إذا كنت تعيش حالة مشابهة، فـمرحبًا بك يا صديقي، أنت تعاني «إدمان العصر».
الرجل المناسب لإيقاظ ضمير العالم الافتراضي
البرامج والتطبيقات والمواقع مُصمَّمة للفت نظرنا إلى شاشات الهواتف بأكبر عدد ممكن من المرات ولأطول فترة ممكنة.
«تريستان هاريس» (Tristan Harris)، خبير تصميم شاب تجاوز 32 عامًا، سبق له العمل في شركة غوغل، وتحديدًا في منصب يطلق عليه «فيلسوف الإنتاج»، وينحصر دوره في المحافظة على تطبيق الأخلاقيات فيما تقدمه الشركة من محتوى وخدمات، لذلك رأى في نفسه الرجل المناسب لإيقاظ ضمير العالم الافتراضي الذي أصبح التفاعل عليه لا يقل نشاطًا عن التفاعل في العالم الواقعي.
ونتاج ذلك، أسس مع آخرين جماعة دفاعية أو حركة أطلقوا عليها (Time Well Spent) أو «الوقت المثمر»، أخذت على عاتقها مسؤولية إقناع القائمين على عالم الاتصال التكنولوجي بمساعدة المستخدمين على التعافي من إدمان العصر، وعرضت تجربته مجلة «ذي أتلانتك» (The Atlantic) الأمريكية.
يسعى هاريس إلى إلزام مصممي برامج الإنترنت بقَسَم أخلاقي مشابه لقَسَم الأطباء لعدم استغلال المستخدم.
يُلقي بعض الناس اللوم على المستخدمين أنفسهم في الاستسلام لإدمان التكنولوجيا، معتبرين ذلك نتيجة ضعف إرادتهم، بعكس تريستان هاريس الذي يشير بأصابع الاتهام إلى البرامج والتطبيقات والمواقع، ويرى أنها مُصمَّمة للفت نظرنا إلى شاشات الهواتف بأكبر عدد ممكن من المرات ولأطول فترة ممكنة.
تمارس شركات تكنولوجيا المعلومات ذلك بدافع السعي وراء زيادة أرباحها المرتبطة بشكل وثيق بعدد هذه الزيارات، فـلا يمكن القول بأننا، كمستخدمين، مُقصِّرون في تحكمنا في استخدام التكنولوجيا لأنها، ببساطة، أصبحت أقدر على التحكم بنا.
على المبرمجين أيضًا أن يؤدوا القَسَم الأخلاقي
يؤدي الأطباء في بداية حياتهم المهنية ما يعرف بـ«قَسَم أبقراط الطبي»، وهو قسم أخلاقي تقليدي يُلزم الطبيب بمجموعة معايير خلال ممارسته المهنة، ويسعى هاريس من خلال حركة «Time Well Spent» إلى إلزام مصممي برامج الإنترنت بقسم مشابه للحد من قيامهم باستغلال نقاط الضعف النفسية لدى المستخدم، لتحقيق أهدافهم في زيادة الإقبال على خدماتهم التكنولوجية، بما يسمى مجازًا بـ«الإدمان»، وهو بذلك يسعى، بالتعاون مع زملائه في الحركة، إلى وضع معايير ملزمة للمبرمجين تهتم في المقام الأول بتجنيب المستخدم ذلك الخطر.
تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي تصميمات تقدم مجموعة من الخدمات في شاشة واحدة.
بحث هاريس وفريقه في أعماق المناهج التي تتبعها مواقع التواصل الاجتماعي للإيقاع بضحية إدمانها، ووجدوا أنها تلعب على نقطة الاستفادة من الاحتياجات النفسية للمستخدم، مثل ما فعلته إدارة موقع «لينكد إن» حين استخدمت أيقونة تشبه أسلاك عجلة الدراجة الخارجة من مركز واحد، للتعبير عن شبكة علاقات المستخدم، وهو ما أدى بشكل غير مباشر لإثارة الحاجة إلى القبول الاجتماعي لدى المستخدم، لتبدأ أعداد كبيرة منهم في الإسراع بالتواصل مع الآخرين من خلال تلك المنصة، فـحتى إن لم يجد المستخدم ما يفيده على الموقع، فإنه سيدخل في تحدٍ لزيادة حجم شبكته الاجتماعية، وبطبيعة الحال لا أحد يرضى بدور المهزوم.
وجبات تكنولوجية سريعة
تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي طريقة مشابهة لما تستخدمه سلاسل المطاعم العالمية، ففي الوقت الذي تجذب فيه ماكدونالدز زبائنها عن طريق النكهات والتوابل والصوصات، دون أن يعود الطعام بفائدة حقيقية على متناوِله، تصيد شركات فيس بوك وإنستغرام وتويتر مستخدميها عن طريق ما يطلق عليه علماء النفس «المكافآت المتغيرة»، والتي تتمثل في الرسائل والتعليقات والإعجاب والصور، لكن يجب الالتفات هنا إلى أنه لا يوجد جدول زمني محدد ولا مواعيد مسبقة تُخبر المستخدم بموعد تسلمه تلك المكافآت، ما يعني أنه سيظل في حالة فحص دوري لحسابه في انتظارها.
وتستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيس بوك، استراتيجية عرّفها هاريس باسم «وعاء بلا قعر»، تتلخص في أن يُقدِّم تصميم الموقع مجموعة من الخدمات في شاشة واحدة، فعلى سبيل المثال كي تقبل طلب صداقة لا بدَّ أن تمر على الصفحة الرئيسية حيث تجذبك الصور وتغريك مقاطع الفيديو التي تبدأ بشكل أوتوماتيكي. وفي النهاية يقف القائمون على مواقع التواصل الاجتماعي في خلفية المشهد «يتابعون نحو المليار شخص يهرعون للرد على بعضهم والانشغال بمتابعة صفحاتهم، وكأنهم دجاج ينطلق نحو الحبوب دون أدنى تفكير»، على حد وصف هاريس.
اصطدمت مقترحات هاريس لتقليل تشتيت المستخدمين بخطة غوغل للترويج لمنتجاتها.
وظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الاستشاريين يوجِّهون الشركات إلى كيفية جذب المستخدمين وجعل محتوى مواقعهم وخدماتهم لا تُقاوَم، ويُعتبر «نير إيال» (Nir Eyal) مثال جيد لهؤلاء، وهو مؤلف كتاب (How to Build Habit-Forming Products) أو «كيف تخلق عادة بمنتجاتك»، كما ألقى عدة محاضرات في شركات لينكد إن وإنستغرام.
ويرى إيال أن ما تفعله مواقع التواصل الاجتماعي هو تقديم التسلية نفسها التي يقدمها لنا التلفاز والروايات، وأرجع استنكار بعض الناس من إدمان هذه المواقع إلى أنها ما زالت حديثة نسبيًا، ولفت إلى أنه عند ظهور أي وسيلة ترفيه جديدة، نلاحظ أن الجيل الأقدم ينتقد الشباب لاستخدامهم الزائد لتلك الوسائل، لكن مع مرور الوقت تتكيف عقولنا معها وتصبح الأمور طبيعية.
موقف غوغل من «الإدمان»
ويقول هاريس إنه خلال عمله في غوغل عام 2011، تقدم بمقترح مكون من 144 صفحة كتبه تحت عنوان «دعوة لتقليل تشتيت المستخدمين واحترام تركيزهم»، وأرسل مقترحه إلى 10 زملاء مقربين له في غوغل من بينهم «لاري بايج» (Larry Page) رئيس مجلس إدارة الشركة، وسرعان ما انتشر بين نحو 5000 زميل آخر، وتلقاه بايج بصدر رحب، فتبادل النقاش مع هاريس في أحد الاجتماعات، لكن للأسف اصطدمت المقترحات بخطة الشركة للترويج لمنتجاتها.
اختار هاريس ترك العمل بغوغل لتفعيل مقترحاته على نطاق أوسع، ويسعى مع رفاقه في «Time Well Spent» إلى الحصول على دعم ما أسماه بالطعام «الأورغانيك» ولكن في مجال تكنولوجيا المعلومات، لتصبح دعوة لقضاء أوقاتنا بما يعود بفائدة أكبر، وبدأ بالفعل تشكيل شبكة من المتطوعين ممن يؤمنون بفكرته نفسها، وانطلق يعرضها خلال فعاليات الملتقيات والأحداث التكنولوجية المختلفة، حتى إن بعضًا من مسؤولي الشركات الكبرى اعترفوا بأن أفكاره تستحق الاهتمام.
وأقرَّ هاريس بأن بعض الأقسام في شركة غوغل، ومنها يوتيوب، تعتمد على إقناع المستخدم بشكل غير مباشر بالاستمرار في الحملقة بمواقعهم، لكنه برَّر التحاقه بالعمل بها، بكون الشركة تمتلك ثلاثًا من أكبر المنصات التكنولوجية المعروفة في وقتنا الحالي وهي خدمة البريد الإلكتروني «جيميل» ونظام التشغيل «أندرويد» والمتصفح «غوغل كروم»، لذا فمثلما هي جزء كبير من المشكلة، يمكنها، في نظر هاريس، أن تصبح خط الدفاع الأول ضد إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، إذا تم تطبيق المعايير الأخلاقية التي يدعو إليها.
خطوات فعلية للتعافي
ويطمح هاريس إلى أن تُطلق حركته ما يشبه شهادة اعتماد للتطبيقات والمواقع التي تضع الأخلاقيات التي تكافح إدمان التكنولوجيا في اعتباراتها، حتى إنه أعدَّ بالفعل قائمة قصيرة من التطبيقات التي سبقت إلى تطبيق تلك المعايير ومنها تطبيقات Pocket وCalendly وf.lux التي ساعدت المستخدمين على تقليل تشتيت انتباههم ومقاطعة أنشطتهم وزيادة تنظيم الوقت والتركيز في مهامهم بل وتحسين جودة نومهم.
وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف نفسه،أيضًا، ابتكر هاريس تطبيقًا يمكنه حساب عدد الساعات الأسبوعية التي قضاها المستخدم على كل تطبيق، ومن خلال التطبيق ذاته يمكن تحديد التطبيقات الجديرة بالاهتمام وقضاء الوقت في استخدامها، وفي النهاية يمكن إعداد قائمة سوداء بالتطبيقات التي تجذب الناس لإدمانها ولا تحقق لهم الفائدة الحقيقية المرجوة منها.
في المقابل، يدرك هاريس حجم التحديات التي تواجهه، فـعندما تبني الشركات خططًا تحافظ للمستخدمين على وقتهم، وتقلل من الجذب الزائد لانتباههم، هذا من شأنه تقليل أسهم تلك الشركات، وهو ما يجعلنا نعود مرة أخرى لفكرة تقديم «وجبات تكنولوجية سريعة» وغير صحية تعتمد على المذاق الطيب في مقابل جني الأرباح، إلا أن أمله إيجاد بديل «صحي» يحقق المعادلة الصعبة، عن طريق إعادة تقييم الخطط الربحية التي تعتمد فقط على مدة بقاء المستخدم على الموقع.
المستخدمون لا بدَّ أن يطالبوا بالتغيير كي يحدث.
واقترح هاريس لتحقيق ذلك أن تبدأ كل منصة تكنولوجية تقديم بديل يشبه الخضراوات المزروعة بطريقة عضوية أو ما يعرف بالطعام «الأورغانيك»، بمعنى أنه كما توجد هذه الخضراوات الصحية في المتجر، وإن كانت بسعر أعلى من غيرها، فـيمكن لتطبيق مثل فيس بوك أن يطلق إصدارًا آخر له بسعر أعلى تتوافر فيه المعايير التي تقي المستخدم إدمانه، ولم يستبعد هاريس أن يجد من يدفع مبلغ 7 دولارات في نسخة من فيس بوك تساعده على الاستمتاع بحياة أكثر فاعلية وفائدة.
نقطة الانطلاق
ويراهن هاريس على الدور الذي تلعبه توعية المستخدمين أنفسهم، ويعتبره نقطة الانطلاق في دفع الشركات لمكافحة إدمان العصر، فقد تعلَّم من تجربته مع غوغل أن المستخدمين لا بدَّ أن يطالبوا بالتغيير كي يحدث، فـكلما أدرك المستخدم خبايا الاستراتيجيات المتبعة من قبل تلك الشركات للإيقاع به في دوامة إدمان التواصل الاجتماعي، قلَّت فعاليته، وهو ما سيضطر تلك الشركات بالتدريج إلى إعادة النظر في سياساتها.
في نهاية إحدى رحلاته، وبينما كان هاريس يتجاذب أطراف الحديث مع رفيقه، لاحظ إشارة ضوئية تنبعث من هاتفه الذكي، فقطع حديثه بلا سابق إنذار ونظر لأسفل باتجاه شاشة الهاتف، وراح يتعجب مما يقرأه في الرسالة وأبدى تفاعلًا معها أكثر مما كان يبديه مع صاحبه الواقف إلى جواره، لكنه انتبه لذلك فجأة فنظر إلى صديقه بخجل قائلًا وهو يلوح بهاتفه:«أرأيت؟ هذا مثال رائع على عجزي عن السيطرة على هذا الإدمان».