نظرية «سيغموند فرويد» في التحليل النفسي كانت صاحبة النصيب الأكبر من التأثير في الحياة الفكرية للقرن العشرين، وامتد تأثيرها من الأدب إلى السينما والدراسات التاريخية، واختلف الاستقبال الأكاديمي والشعبي لها بين إشادة وترحيب أو رفض واستنكار. وعلى كلٍّ، انحسرت سطوة نظرية التحليل النفسي منذ أواخر القرن العشرين وانطفأ بريقها، وأفسحت المجال لغيرها من النظريات والمدارس في علم النفس، مثل مدرستي علم النفس السلوكي وعلم نفس الإدراك، وكذلك الدراسات المختلفة حول تأثير عوامل الوراثة والبيولوجيا والأعصاب ومناطق عمل الذهن.
وفي حين أثار فرويد إعجاب كثير من المفكرين لذكائه، توقف فريق آخر عند هذا الإعجاب وحاولوا البحث عن السر وراء انتشار كتابات فرويد، هل بسبب أسلوب كتابتها؟ هل لأنها وفرت امتيازًا بامتلاك الحقيقة؟ أم أن السبب يكمُن في الأرباح العائدة على المشتغلين بالتحليل النفسي؟
في كتابه «تدهور إمبراطورية فرويد وسقوطها»، الذي نُشر للمرة الأولى سنة 1985، يبحث «هانز آيزنك»، المولود في برلين عام 1912 والحاصل على الدكتوراه من قسم علم النفس في كلية لندن الجامعية، أسباب شهرة نظرية فرويد، ويقدم انتقادًا مُسهبًا لفرويد بعدم اتباع الأساليب العلمية وتحريف الحقائق لتناسب الفرضيات الخاصة به، وخلال هذا الموضوع سنحاول شرح النقاط المهمة في كتاب آيزنك.
يشير المؤلف في البداية إلى انحراف النظرية عن المنهج العلمي، لاعتمادها على التفسير الذاتي للملاحظات بدلًا من التجارب على أسس علمية. وبحسب الفيلسوف «كارل بوبر»، اتباع نظرية التحليل النفسي للطريقة الذاتية يُدخلها ضمن العلوم الزائفة، إذ كان معيار بوبر للعلوم الحقيقية هو القدرة على التكذيب، ويعني بذلك أن المعرفة العلمية هي التي تمنح الباحثين القدرة على اكتشاف كذب النتيجة المستخرجة، عن طريق إعادة الاختبارات.
الاضطرابات العصبية لها دَورَة حدة وخفوت، فقد نعتقد أن سبب التحسن يرجع لنجاح التحليل النفسي، بينما اختفت الأعراض بشكل طبيعي.
أسلوب فرويد في وضع نظرياته يحصنه من الانتقاد لاعتماده على تفسيره الخاص، فإن اختلف أحد معه سيرد بأن الآخر لم يستطع الفهم أو أن لديه دوافع مضمرة.
ويرى آيزنك أن فرويد لم يعتمد في فروضه على ملاحظات للسلوك البشري يمكن توثيقها عن طريق دراسات، اعتمد فرويد في نظرياته على تفسير أشياء يمكن الخروج منها بما يريده أي شخص، كمضمون الأحلام وزلات اللسان والأساطير والأعمال الأدبية، إلى جانب تصرفات الطفل الرضيع غير القادر على تأكيد أو نفي التحليلات التي يسوقها فرويد.
المثال الواضح على تخبط أسلوب البحث المتبع هو التفسيرات المختلفة التي يخرج بها كل باحث حول حلم أحد المرضى، فنجد تفسير الحلم الواحد يختلف باختلاف المحلل النفسي، فرويد سيحيله إلى رغبات جنسية مكبوتة، أما «كارل يونغ» فسيخرج من الحلم بما يؤيد نظريته حول اللاوعي الجمعي، ويخرج «ألفرد إدلر» بما يؤيد نظريته عن عقدة النقص، وهكذا.
اقرأ أيضًا: 10 من أفكار «سيغموند فرويد» المؤثرة في علم النفس إلى اليوم
من ناحية العلاج، لم تقدم نظرية التحليل النفسي نتائج تثبت فاعليتها، فلم يخرج الباحثون بنتائج حاسمة حول اختلاف نسب الشفاء عند المرضى الذي يذهبون إلى محللين عن المرضى الآخرين.
هنا يورد الكتاب نقطتين حول سبب عدم اكتشاف فشل النظرية:
- العلاج التلقائي: الاضطرابات العصبية عند المرضى لها دورة طبيعية في نشاطها من حيث الحدة والخفوت، مثلها مثل نزلات البرد، فعندما يذهب المريض إلى محلل نفسي ثم تذهب أعراض الاضطراب العصبي بعد أسبوعين أو ثلاثة، يعتقد كلٌّ من المحلل والمريض أن السبب نجاح نظرية التحليل النفسي، بينما الحقيقة أن الأعراض كانت ستختفي بشكل طبيعي.
- المحلل الصديق: تأثير العلاج قد يرجع إلى احتياج الإنسان للكلام وامتلاك صديق مقرب حتى تزيد ثقته في نفسه، وهذا ما يفعله المحلل النفسي، إذ يؤدي دور الرعاية وإبداء التعاطف بحالة المريض، فتتحسن حالته جراء الدعم الذي يلقاه، ويزداد تعلقه بعيادة المحلل النفسي.
الأسلوب العلمي الصحيح للبحث في الأثر الفعلي لطريقة علاج التحليل النفسي هو إجراء التجربة العلمية المعروفة، عن طريق تقسيم العينة إلى مجموعتين: واحدة تتعاطى العلاج محل الاختبار، وأخرى تتعاطى علاجًا زائفًا، ثم دراسة النتائج المستخرجة من المجموعتين.
وفقًا لمؤلف الكتاب، عندما نفذ الباحثون ذلك الاختبار حول فاعلية العلاج بواسطة التحليل النفسي لم يلاحظوا فروقًا واضحة بين الذاهبين إلى عيادة المحلل وبين الآخرين، الذين لجؤوا إلى العائلة أو صديق أو رجل دين.
سيغموند فرويد: الفاتح العظيم
يتفق هانز آيزنك مع وصف فرويد بالعبقري، لكنه يرى أن مجال تميز فرويد يكمُن في الدعاية لمؤلفاته، فقد صنع مع أتباعه أسطورة البطل حول شخص فرويد، وقدموا سردًا يُظهره بصورة المفكر الشجاع الذي عاداه الجميع لكنه استمر في المحاولة حتى فرض نجاحه.
يتفق الباحثون على أن كُتب فرويد صيغت بلغة حسنة مفهومة، وهذا ما جعل هانز آيزنك يراه «أديبًا تسلل إلى العلم».
يدخل ضمن أسلوب الدعاية هذا الوصف الذي أطلقه فرويد على نفسه بأنه «الفاتح»، وأسلوبه حين يحكي إسهاماته العلمية فيضيف إليها جوانب درامية. على سبيل المثال، ادّعى فرويد أن كتابه «تفسير الأحلام» لم يلقَ قبولًا طوال 10 سنين ولم يعره أحد اهتمامًا، وهو ما ينفيه آيزنك نفيًا جازمًا، فيورد دراسات عن صحف ودوريات علمية في زمن فرويد تثبت أنه وجد شهرة منذ أول أعماله، وكتابه «تفسير الأحلام» لاقى إشادة من المختصين واستُقبل بترحاب.
يلخص الكتاب حكمه على نظرية التحليل النفسي في أن كل ما هو جديد في النظرية غير صحيح، وكل ما هو صحيح في النظرية غير جديد، فزلات اللسان التي صار يُنسَب تفسيرها إلى فرويد معروفة منذ القدم، لكن فرويد تجنب كما العادة الإشارة إلى سابقيه حتى يستحوذ على الأضواء. والأكثر سوءًا أن حبه للإثارة جعله يشوِّه الحقائق، فبالتأكيد زلات اللسان قد تُسفِر عما في باطن الإنسان، لكن لا توجد حاجة لإغفال الأسباب المعروفة، مثل التشابه بين الألفاظ المختلفة وعدم التركيز.
بالإضافة إلى أن، وهذه أهم نقطة، الأمثلة التي يذكرها فرويد تضره أكثر مما تنفعه، فكما أنه في كتابه «تفسير الأحلام» ذكر قصصًا وأمثلة لا تشير إلى ما تفترضه النظرية من ارتباط الأمراض النفسية بالتطور الجنسي للطفل، فغالبية الأمثلة التي يذكرها تشير إلى أشياء موجودة في وعي الفرد حتى إن كانت رغبات جنسية.
تلك النقطة من الغريب أنها لم تستثر ملاحظة المهتمين بالتحليل النفسي، فأمثلة فرويد تشير إلى ما هو معروف، من أن الأحلام تدور حول مواضيع شغلت ذهن المريض في اليوم الذي حلم فيه، وزلات اللسان أسرار قد يفصح الشخص عنها في ظروف معينة.
اقرأ أيضًا: 5 نظريات وضعها البشر لتفسير ما نراه خلال النوم
من هنا، فالكبت الذي يدور حوله فرويد ليس كبتًا في الداخل، بل إخفاء الأشياء المحرجة عن الآخرين، وأمر آخر أشار إليه مفكرون بعد فرويد، أن اللاوعي الذي يذكره يرجع إلى عدم اتساع ثقافة الشخص وفقدانه اللغة لوصف حالته، وليس كما قال فرويد «لاوعي منسي منذ الرضاعة ومرحلة الزحف والطفولة المبكرة».
دورا وهانز ورجل الذئاب ودافنشي
يتفق الباحثون على أن كُتب فرويد صيغت بلغة حسنة مفهومة، وهذا ما جعل مؤلف الكتاب هانز آيزنك يرى فيه «أديبًا تسلل إلى مجال العلم».
كان منهج فرويد أخذُ أصغر الأدلة ثم بناء قصة تزخر بالأحداث والعُقَد والحل، كمثل أي قصة، حتى إن كان الثمن التضحية بالدقة العلمية. الأمثلة على منهج فرويد غير العلمي هي الأدلة التي يوردها لتأكيد نظريته والحالات التي عالجها، وأشهرها حالات «دورا» و«هانز الصغير» و«رجل الذئاب»، وكذلك تحليله لشخصية الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي.
كانت دورا فتاة في الثامنة عشرة، تشكو نوبات متعددة من الإغماء مصحوبة بتشنجات وهذيان ارتجافي والتهاب في الغشاء المخاطي، وكانت أحيانًا تفقد صوتها وتتسارع أنفاسها وتتثاقل قدماها. كل هذه الأعراض تشير، كما يقول آيزنك، إلى إصابة دورا بمرض عضوي، خصوصًا أنها نشأت مع أبيها الذي يعاني السل والزهري والربو، لكن فرويد لم يعبأ بالأعراض العضوية التي أظهرتها، ورأى فيها امرأة ضعيفة الإرادة تتصنع وتعبِّر عن مشاعر غير أصيلة.
عندما ادعت دورا أنها تعاني من الزائدة الدودية، تجاهل فرويد قولها وقرر أن تلك الآلام ما هي إلا عَرَض حمل هستيري يعبِّر عن أحلامها الجنسية الموجودة في اللاشعور، وحالة الربو التي لديها سببها أنها سمعت أباها يتنفس بصعوبة خلال ممارسة الجنس، أما السعال فلم يكن إلا نداءً جنسيًّا خجولًا.
وحين اشتكت دورا لفرويد من هجوم صديق والدها الجنسي وكيف أنها اشمئزت منه، استنتج فرويد أن تصرفاتها لم تكن سوى تصرفات هستيرية. وكما يقول مؤلف الكتاب، رأى فرويد في دورا خصمًا خطيرًا، وقد انقطعت دورا عن عيادة فرويد بعد ثلاثة أشهر من بدء العلاج.
أما هانز الصغير فقد كان يبلغ خمسة أعوام، ورأى عربة حصان تنقلب فأصابه الخوف من الأحصنة، وصار يخشى الخروج من المنزل ويصيبه القلق في الليل. سيستنتج الغالبية من هذه القصة أن ما حدث أمر طبيعي لطفل صغير مر بتجربة مزعجة، وكل ما على الوالد فعله تشجيعه للتغلب على خوفه.
لكن فرويد رأى أن خوف هانز يرجع إلى رؤيته قضيب الحصان، وأن الطفل مغرم في الحقيقة بأمه لكنه مرعوب من منافسة أبيه. حاول فرويد جاهدًا إقناع الطفل الصغير باستنتاجاته، وعندما شُفي بعد فترة كما هو متوقع في مثل هذه الحالات، اعتبر فرويد شفاءه تأكيدًا لتحليلاته. هنا، بدلًا من أن يقول فرويد أن «ب» ناتجة عن «أ» التي سبقتها، رأى أن «أ» موجودة لأن نظرية التحليل النفسي تحتم حدوثها.
أما رجل الذئاب فهي قصة مريض مصاب باضطرابات عصبية، رأى حلمًا فيه ستة أو سبعة ذئاب بيضاء أمام منزله وشعر بالرعب من أنها تريد مهاجمته، ففسر فرويد الذئاب البيضاء على أنها الملابس الداخلية لوالديه.
هذا المريض، وبعد 60 عامًا من علاج فرويد، أعلن في مقابلات صحفية مع «كارين أوبهلزر»، وهي صحفية واختصاصية نفسية نمساوية، أنه لم تتحسن صحته الذهنية ولا الأعراض التي كان يعاني منها. وعند بداية الحديث قال للصحفية: «أشعر بضيق شديد، فقد كنت أعاني من اكتئاب فظيع مؤخرًا، ولعلك تفكرين أن التحليل النفسي لم ينجح في مساعدتي».
وبعد فرويد، مر «رجل الذئاب» بعدد آخر من المحللين النفسيين، لكنه لم يخرج كما يبدو بفائدة من زياراته هذه.
أراد سيغموند فرويد أن يمد تحليله ليشمل الشخصيات البارزة في التاريخ، فقدم تحليلًا لشخصية الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي المولود في القرن الخامس عشر، اعتمد فيه على إحدى الفقرات في مذكرات دافنشي، تذكر أنه رأى خلال نومه وهو في المهد نسرًا يهبط نحوه ويفتح فمه عن طريق ضرب ذيله في فمه حتى ينفتح.
رأى فرويد أن ذيل النسر تعبير بديل عن العضو الذكري والرغبة في ممارسة الجنسية المثلية بطريقة سلبية، وهي رغبة، كما يقول فريد، قد تعود بجذورها إلى الرضاعة. كذلك، وجد ارتباطًا بين مص القضيب ورغبة الطفل في الرضاعة من ثدي أمه.
من القصة الصغيرة التي رواها دافنشي بنى فرويد تحليله، لكن المشكلة كما اكتشفها الباحثون اللاحقون أن تحليل فرويد قائم على خطأ في الترجمة، فالنسر المذكور الذي قال فرويد إنه يعبِّر في الثقافات القديمة عن الأمومة، كان في الكتابة الأصلية حِدّأة وتُرجم خطأً إلى نسر.
قد يهمك أيضًا: اختراع المغايرة الجنسية: ما هو «الطبيعي»؟
تموت النظريات دون بكاء السماء والأرض
«بعد أن كان التحليل النفسي فكرة شجاعة وتقدمية، أصبح العقيدة التي لا تحمل خطرًا للأفراد الخائفين والمعزولين في الطبقة الوسطى، الذين لم يجدوا الفردوس في الحركات الدينية والاجتماعية الأكثر تقليديةً في عصرهم». المحلل النفسي والفيلسوف الاجتماعي الأمريكي «إريك فروم»، في كتابه «مهمة فرويد: تحليل لشخصيته وتأثيره».
يُذكر في معرض انتقاد فرويد تعاطيه للكوكايين ووضعه الأُسَري، كونه ابن الزوجة الثالثة لأب لديه أبناء سابقون من زوجته الأولى. يُذكر أيضًا أن فرويد اقتصر في دراساته على طبقة من المجتمع، ربما كانت أكثر قمعًا من غيرها في مسألة الجنس، ومن ثَمّ فاستنتاجاته لا يجب توسيعها لتشمل كل الطبقات.
يقال كذلك إن فرويد أسقط عُصَابَهُ الخاص على العالم، وجعل قصته الشخصية قصة البشرية، ويُقال إن نظريته عن عقدة قتل الأب والطوطم هي انعكاس لحياته، إذ كان يرى نفسه أبًا، ويعتقد أن زملاءه يحسدونه ويرغبون في التخلص منه باعتباره الأب وطوطم القبيلة الناشئة.
منحت نظرية التحليل النفسي الأمل لكثيرين بالتغلب على الألم، وكان سبب شهرة مؤلفات التحليل النفسي أنها جعلت القراء يشعرون بالتفوق على أقرانهم، وأنهم صار لديهم العلم بأسباب ما يحدث في العالم بقراءتهم لكتابين أو ثلاثة من كتب فرويد، في الوقت الذي قوبلت فيه الكتب الأخرى بعزوف، للغتها الثقيلة وامتلائها بإحصائيات ومصطلحات يصعب تذكرها.
قدمت كتابات فرويد الأساس لتبرير السلوكيات المتحررة والاستجابة للرغبات دون التقيد بواجب مجتمعي، وكانت نظرية التحليل النفسي سلاحًا في يد الليبراليين، لم يقبلوا تركه طوال القرن العشرين.