ما الذي يميزنا حقًّا عن الكائنات الأخرى؟ طُرح كثير من الإجابات لهذا السؤال القديم: ربما تكون اللغة المنطوقة، أو الأدوات المتطورة، أو التعاون بين الأفراد، أو الثقافات التي نخلقها، لكن كل هذه الأطروحات ربما تكون أساسًا معتمدة على سبب أعمق لم يخطر ببالنا قبل ذلك، هو القدرة البسيطة على استشراف المستقبل.
عرض مقال منشور على موقع «النيويورك تايمز» هذه النظرية ودافع عنها، فهل يمكن فعلًا أن يكون اتجاه عقولنا الدائم نحو المستقبل هو ما يميز طبائعنا كبشر، ويفرق بيننا وبين سائر الحيوانات؟
الإنسان يحيا في المستقبل وحده
التوقعات المستقبلية، الميزة الإنسانية التي انتبه إليها العلماء مؤخرًا، هي واحدة من الأسس البديهية التي أنشأ البشر الحضارات وأقاموا المجتمعات بفضلها، فدون التطلع إلى المستقبل تكون الحضارة مستحيلة. يرفع هذا التطلع المستقبلي معنوياتنا، لكنه يجلب إلينا الاكتئاب والتوتر في أحيان كثيرة كذلك.
يدفع تأملُ المستقبل الإنسانَ إلى تطوير نفسه ويمنحه الحكمة، فالتفكير في المستقبل، بوعي أو دون وعي، وظيفة رئيسية لأمخاخنا، حسبما اكتشف علماء الأعصاب والمتخصصون في علم النفس حديثًا.
قد يهمك أيضًا: العلم يشرح كيف تخوننا الذاكرة
يدرك العقل العالم من حوله عبر التركيز على غير المتوقَّع الذي سيحمله له المستقبل، وليس اعتمادًا على النظر في كل تفاصيل الحاضر.
بحسب المقال، ظن أغلب باحثي القرن العشرين أننا سجناء الماضي والحاضر، فأكد علماء السلوك أن تعلم العادات الجديدة وتأصيلها يعتمد على تكرارها مرارًا وتكرارًا، واعتقد المحللون النفسيون أن علاج المرضى يؤتي ثماره حين ننقب في مآسي الماضي ونزيح همومه، وحين ظهر علم النفس المعرفي اهتم بالذاكرة والمعرفة، أي الماضي والحاضر كذلك.
لكن العقل غارق في المستقبل طَوَال الوقت، وربما نكون بعيدين عن فهم السلوك والذاكرة والمعرفة ما دمنا نفصلهم عن التفكُّر في المستقبل، الذي يلعب دورًا محوريًّا في هذه المعادلة. وفي رأي كاتبَيِ المقال، لا يتعلم البشر بحفظ المعلومات وتخزينها، بل باستعادة الذكريات القديمة وتخيُّل الاحتمالات المستقبلية بناءً عليها.
هذا التوجه إلى المستقبل سمة إنسانية مميزة، فمن الصعب إيجاد كائن آخر قادر على التفكير في أكثر من بضع دقائق قادمة، فالسناجب مثلًا تدفن ثمرات الجوز استعدادًا للشتاء بالفطرة، لا لأنها تنتظر قدومه وتستشرفه، ولا يخطط النمل للتعاون في بناء المساكن، فهم مبرمجون على فعل ذلك دون وعي.
يدرك العقلُ العالمَ من حوله بالتركيز على غير المتوقَّع الذي سيحمله له المستقبل، وليس اعتمادًا على النظر في كل تفاصيل الحاضر. ويقل تفاعل مشاعرنا كذلك مع اللحظة الآنية، لأنها منتبهة عادةً إلى ما سيحدث في الأيام القادمة.
يعني هذا أن نعيد صياغة فهمنا السابق لمشاعرنا، التي فكر فيها العلماء قبل ذلك بالتركيز على الماضي فقط، فاسأل نفسك مثلًا: ما سبب شعورك بالحزن عند انفصالك عن مَن تحب؟ هل لأنك تفتقد أيامك الماضية معه، أم لأنك تخاف أن لا تتكرر هذه السعادة التي عشتها مستقبلًا؟
كيف نعالج الاكتئاب من المستقبل؟
لهذه الأسباب، يستكشف المعالجون حاليًّا طرقًا جديدة لمعالجة الاكتئاب استنادًا إلى النتائج الحديثة، لأنهم تيقنوا أن الاكتئاب ليس ناتجًا عن صدمة وقعت للمريض في الماضي، أو توتر يسيطر عليه في الحاضر، وإنما السبب الرئيسي وراؤه هو القلق مما تخبئه الأيام المقبلة.
يمتاز المكتئبون عن غيرهم بضعف القدرة على تخيُّل مواقف إيجابية، والمبالغة في تقدير المخاطر المستقبلية.
ظهر دور توقع البشر للمستقبل في دراسات حديثة عن العمليات العقلية الواعية وغير الواعية، أرسل الباحثون فيها رسائل إلى خمسمئة فرد في أثناء اليوم، يدعونهم إلى تسجيل أفكارهم وحالتهم المزاجية. توصل الباحثون إلى أن المشاركين في التجربة يفكرون في المستقبل أكثر ثلاثة أضعاف من استدعائهم للماضي، وحتى تلك اللحظات القليلة التي تأملوا فيها ما مضى، كان أكثر ما يشغلهم تأثير هذا الماضي على المستقبل.
زاد شعور المشاركين بالسعادة في أثناء تخطيطهم للمستقبل، وقل مستوى توترهم، رغم خوفهم من حدوث أي خطأ قد يعرقل تنفيذ ما يرغبون في تحقيقه.
يعاني الناس من التوتر والاكتئاب لأنهم يرون المستقبل مظلمًا، لا بسبب أزمات الماضي أو الحاضر. وبحسب المقال، يمتاز المكتئبون عن غيرهم أساسًا بضعف القدرة على تخيُّل مواقف إيجابية، والمبالغة في تقدير المخاطر المستقبلية.
اقرأ أيضًا: عِش يومك وانسَ الغد: الفلسفة تعلمنا كيف نحيا سعداء
ينعزل المكتئب عن المجتمع، ويشعر بالعجز بسبب عدم ثقته في نفسه وشكه الدائم فيها، ونجح المعالجون في تجربة طرق علاج حديثة وفعالة، تعتمد على تمرين المريض أن يتخيل النتائج الإيجابية لأفعاله فقط، وينظر إلى المخاطر المستقبلية بعقلانية.
حتى الذاكرة تتأثر بالمستقبل
لا يفقد المصابون بمشاكل في الفص الصدغي الوسطي القدرة على تذكر الماضي فحسب، بل على توقع الأحداث المستقبلية كذلك.
هل تقتصر وظيفة الذاكرة على حفظ ما حدث فقط، فهي بالتالي مرتبطة بالماضي لا أكثر؟
قد يهمك أيضًا: عندما يكذب عليك عقلك، لن تعرف أبدًا
ليست هذه العملية خللًا في الدماغ، فالقصد منها تحسين قدرتنا على مواجهة الحاضر والمستقبل، عبر إعادة تدوير الماضي للتوصل إلى معلومات جديدة تفيدنا في المواقف الجديدة التي نتعرض لها.
يتضح هذا الرابط بين الذاكرة وتوقع المستقبل في الأبحاث التي أُجريت على المصابين بمشاكل في الفص الصدغي الوسطي (Medial Temporal Lobe)، الذين لا يفقدون القدرة على تذكر الماضي فحسب، بل على توقع الأحداث المستقبلية كذلك، مما يثبت العلاقة الوثيقة بين الاثنين.
أظهرت أبحاث أخرى أن الأطفال لا يكتسبون القدرة على التنبؤ بالمستقبل سوى بعد اكتسابهم القدرة على تذكر الماضي، عند المرحلة العمرية بين ثلاث وخمس سنوات، مما يعني أن الذاكرة نفسها ربما تطورت لتساعد على التطلع إلى المستقبل، لا مجرد استدعاء الماضي.
يعيش البشر في المستقبل الذي لم يحِن أوانه بعد، على عكس اعتقاد ساد علم النفس وأكد تحكم الحاضر والماضي في حياتنا وقراراتنا، لكن يبدو أنك كلما استغرقت في الماضي أو تملكك القلق بسبب ما تمر به في الحاضر، لا يمكن لهذه الحالة أن تُفهم إلا في ضوء المستقبل وحده.